د. أحمد الحطاب - هذا ما وجدنا عليه آباءَنا أو بعبارة أخرى، التَّغييرُ ليس بالأمر السهل!

قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا (البقرة، 170)
قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا (المائدة، 104)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا (الأعراف، 28)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا (يونس، 78)
قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (الأنبياء، 53)
بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ (الشعراء، 74)
قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا (لقمان، 21)
إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (الزخرف، 23)
أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا (الأعراف، 70)
أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا (هود، 62)
أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا (هود، 87)
مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ (هود، 109).

عنوان هذه المقالة، "هذا ما وجدنا عليه آباءَنا" يلخِّص باختصار شديد المعنى العام الذي تحمله هذه الآيات من القرآن الكريم. يتعلَّق الأمرُ هنا بأقوامٍ بَعث لهم الله سبحانه و تعالى الأنبياءَ و الرسلَ ليُخرجَهم من الظلمات إلى النور من خلال دعوتهم إلى توحيده و اتِّباع صراطه المستقيم. أقوامٌ كانوا يعيشون في عهد العديد من الأنبياء و الرسل مثل : آدم، إدريس، نوح، هود، صالح، إبراهيم، لوط، شعيب، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، يوسف…، موسى، عيسى عليهم السلام جميعا إلى محمد (ص). كان هؤلاء الأقوام، إلا مَن رحم ربي، يواجهون رسالات هؤلاء الأنبياء و الرسل بالرفض بحجة أنهم وجدوا آباءَهم يعبدون الأصنامَ أو أشياء أخرى، فساروا على خُطاهم، بمعنى أنهم لن يعبدوا إلا ما كان آباؤهم يعبدون.

و القرآن الكريم، من ألفِه إلى يائه، أي من أول سورة فيه إلى آخِر سورة، عبارة عن دعواتٍ موجهة إلى الأقوام البشرية، منذ القِدم، لحثِّهم على توحيد الله الذي يريد لهم الخيرَ كل الخير. و من أجل استفادتهم من هذا الخبر، سخَّر لهم ما في السموات و ما في الأرض ليعمِّروا هذه الأرضَ إعمارا يتلاءم مع هذا الخير. و إذا لم يُرد الله لعباده الخيرَ، فلماذا بعث لهم أنبياءَه و رسلَه؟

غير أن كثيرا من الأقوام فضَّلوا البقاءَ على ما كان عليه آباءُهم من شِركٍ بالله و عبادة الأصنام عوض أن يستجيبوا لدعوات الرسل و الأنبياء. بل إنهم كانوا، من شدة إصرارهم على عبادة ما كان يعبد آباءُهم، يضايقون الأنبياء و الرسل و يهددونهم بالقتل مصداقا لقوله تعالى : "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (الحجر، 97). بل و يستهزئون برسالاتهم و يعتبرونها سِحرا أو أساطير جاء بها الأولون مصداقا لقوله سبحانه و تعالى : "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (النحل، 24). لماذا كل هذا التَّعنُّت؟

لأن البشرَ، من طبعهم، لا يحبون التَّغيير. و لعل أهم شيء يصعب تغييرُه عند هؤلاء البشر، هو الموروث الثقافي المشترك أو الجماعي سواءً كان عقائديا، اجتماعيا، إنسانيا… حسب رأيي الشخصي، هذا هو السبب الأساس الذي جعل الأقوامَ الغابرة و المندثرة تُقاوم بشدة التَّغيير الذي جاءت به الرسالات السماوية، المخالفة لعاداتهم و تقاليدهم و ما وجدوا علبه آباءُهم.

قد يقول قائل إن الله هو الذي أراد أن لا يؤمن هؤلاء الأقوام. نعم و بكل تأكيد لأن اللهَ على كل شيء قدير. لكن الله يقول في كتابه العزيز "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس، 99). و هذه الآية تُبيِّن بأن اللهَ سبحانه و تعالى لم يُردْ أن يؤمنَ الناسُ جميعا و ذلك ليرى كيف سيقودون إعمارَ الأرض. هل بعقولهم أم نزولا عند أهوائهم و نزواتهم؟ و هو الذي يقول كذلك : "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ (الرعد، 11). و هذا يعني أن اللهَ، ليُغيِّرَ ما بأنفس البشر، يشترط أن يأتيَ التَّغييرُ من هؤلاء البشر سواءً تعلَّق الأمرُ بالتَّحوُّل من الإيمان إلى المعصية أو من المعصية إلى الإيمان. و لماذا يشترط الله أن ينطلقَ التَّغييرُ من البشر؟ لأن اللهَ جل جلالُه زوَّد هؤلاء البشر بالعقل الذي، إن استعملوه بتبصُّر و تمغُّنٍ، سيميّزون بين الخير و الشر و بين الطيب و الخبيث و بين الحق و الباطل و بين الرذيلة و الفضيلة…

و هذا لا يعني أن البشريةَ لا تحدث فيها تغييرات. لا، أبدا. و إلا كيف نفسِّر التَّحوُّلات و التَّطورات التي عرفتها البشرية منذ القِدم إلى يومنا هذا؟ و هذا شيء يقودنا إلى القول بأن التَّغييرات تحدث، بصفة عامة، في المجتمعات البشرية عندما يرى فيها الناسُ مصلحتَهم أو مصالحَهم. غير أن ما يراه البعض مصلحةً، قد يراه الآخرون مجانبا للصواب. قد يرونه انحرافا أو فسادا أو تجاوزا… و الدليل على ذلك، أن ما كانت تراه الرسالات السماوية فسادا، كانت تراه الأقوام الغابرة و المندثرة إصلاحا مصداقا لقوله عز و جل : "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (البقرة، 11).

ما يمكن أستنتاجُه مما سبق، هو أن مقاومةَ التَّغيير ملازمة للإنسان، سواءً تعلَّق الأمرُ بالأزمنة الغابرة أو بالحاضر. و لماذا يُقاوم الإنسانُ التَّغييرَ؟ لأن التًّغييرَ له علاقة بالغد، أو بالأحرى، بالمستقبل. و المستقبل هو المجهول و الإنسان، بطبعه، يخاف من المجهول. و هذا النوع من الخوف موجود في جميع المجتمعات. و هو ما نُغبِّر عنه، نحن المغاربة، بالمقولة الشهيرة : "لْوَاحْدْ هو للي يَبْقَ فْصْبَاغتُ". و رغم هذا الخوف، فالإنسانُ يقبل التًّغييرَ إذا لَمس فيه مصلحتَه. و التَّغييرُ هو سنة الحياة. بل التَّغييرُ هو الذي يكون وراء الانتقال من حضارة إلى أخرى. و لولا التَّغيير و رغم المقاومة التي يتعرَّض لها هذا التَّغييرُ عبر الأزمنة، لظلت البشريةُ على حالها البِدائي الذي، في أحسن الأحوال، يقودها إلى الاندثار. و لهذا قلتُ إن التَّغييرَ هو سنَّة من سُنَنِ الحباة. و التَّغييرُ يجب أن يطالَ جميعَ مناحي هذه الحياة من أمور اجتماعية، أخلاقية، سلوكية، اقتصادية، ثقافية، سياسية، تعليمية، صناعية، بيئية…

و في هذا الصدد، أريد أن اُلِحَّ على التَّغيير الذي يجب أن يعرفََه مجالُ السياسة علما أنه، كلما تطوَّرت هذه الأخيرة في الاتِّجاه الصحيح، كلما تطوَّرت المجالات الأخرى أيضا في الاتِّجاه الصحيح. فهل لأحزابنا السياسية، على الاٌقل تلك التي تُنعَتُ بالأحزاب الوطنية، موروث ثقافي تستند إليه و تعتمد عليه في تفكيرها و عملها؟ نعم و بكل تأكيد، لها موروث ثقافي بناه رُوادُها الذين ضحوا بالغالي و النفيس و قاوموا الاستعمارَ من أجل عزة و كرامة الوطن و مواطنيه. رُواد كان تفكيرُهم و عملهم مركَّزا على تطوُّر البلاد و ازدهارها و تنميتها في جميع المجالات. رُواد لهم كاريزما عالية وحضور في وِجدان المواطنين. رُواد ليس في قاموس إدراكهم للقضايا الوطنية شيءٌ اسمه المصلحة الشخصية. فماذا فعلت كل الأحزاب السياسية، بما فيها الوطنية، بهذا الموروث الثقافي؟

تركته جانبا و أنشأت ثقافةً جديدةً مبنية على كل ما هو مضادٌّ للموروث الثقافي الأصلي من خِزْي و رَذِيلَة و عار و عيب و نفاق و تملُّق و انتهازية و زبونية و ريع و استعلاء و نرجسية و أنانية و خُبث و جشع و تواطؤ… و الائحة طويلة، إلى أن أصبحت السياسة مرادفة للفساد بجميع أشكاله و تداعياته. و باختصارٍ، كل المؤشِّرات تُفيد بأن السياسةَ، إن عرفت بعضَ التَّغيير على مستوى الورق و الخطاب، فإنها، على أرض الواقع، بقيت جامدةً و لم ينفُذ إليها التَّغييرً و لو بقيد أُنملة! و أحزابنا السياسية، و بدون استثناء، تُجسِّد هذا الجمودَ و هذا التَّناقضَ بين الخطاب و أرض الواقع المُر. أحزاب سياسية تتشابه، رغم كثرتها، من حيث المحتوى و لا تختلف إلا بالتّسميات. تسميات رنانة من حيث المعنى و فارغة من حيث التَّطبيق! أحزاب سياسية أصبحت تقتسم مبدأً واحداً لا ثانيَ له ألا و هو السباق المؤدي إلى احتلال كراسي السلطة و فقط من أجل السلطة!

فإذا كانت الأقوام الغابرة و المندثرة متشيٍّثةً بما وجدت عليه الآباءَ من حيث العبادات، فأحزابنا السياسية، و بدون استثناء، متشيِّثةٌ بتركِ ما بناه رُوادُها الأحرار و الشرفاء من سياسة نبيلة النوايا و المقاصد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى