عبد علي حسن - عزلة الشاعر وقمر بورخس

(العزلةُ زاوية صغيرة ، يقف فيها المرء أمام عقله)
ديستوفيسكي

* ثمةَ فرقٌ جوهريّّ بين العزلة والوحدة ، فإذا كانت العزلة تعني عدم وجود اتصال مع الناس بأختلاف الأسباب مهنية ام اجتماعية إلّا أن هذه العزلة تعدُّ مصدر سعادة شخصية لأن الفرد ينعزل عن الناس بإختياره ، فإن الوحدة تعني الشعور بعدم تواصل الٱخرين معه والإحساس بالألم بسبب من وجوده منفرداً ، وحسب الفيلسوف الألماني بول تيليش فإن اللغة ابتكرت كلمة الوحدة لوصف (ألم أن تكون وحيداً ) وابتكرت كلمة العزلة لتصف ( شرف أن تكون وحيداً) وهنا يتبدىٰ الفرق بين دلالة مفردة (وحيدا) في السياقين اللغويين ضمن توصيف تيليش ، ففي العزلة تكون الوحدة بمحض اختيار الفرد ، بينما في الوحدة يكون الفرد وحيدا بإرادة الٱخرين ، اي وحدة إجبارية تسبب ألما لأنها خارجة عن إرادة الفرد وليست بإختياره .
لقد شكّل مفهوم كلمتي (العزلة) و (الوحدة) وفق ما أشرنا إليه ٱنفاً ميداناً ابداعياً رحباً على مستوىٰ الفكر والأبداع الأدبي على مر الدهور والأزمان لإرتباطهما بالوجود الإنساني ومايتصل به من ازمات وتوترات ومعاناة اجتماعية و نفسية وفكرية وجدت صداها في العديد من المنجزات الأدبية سرداً وشعراً تمكن فيه المبدعون من الولوج الىٰ دواخل النفس البشرية للتعبير عن طبيعة وجوهر المشاكل التي يعيشها الإنسان في كل الأمكنة والأزمنة ، كما تضمنت مقولات العديد من الفلاسفة والمفكرين والمبدعين موقفاً من هذين المفهومين ، وبهذا الصدد فقد أشار الكاتب الأرجنتيني (بورخس) في واحدة من مقطوعاته ( كم من عزلة في هذا الذهب / قمر الليالي ليس القمر عينه / الذي شاهده ٱدم الأول / فقد ملأته قرون السهر الإنساني الطويلة / بنحيب قديم . انظري فيه . فهو مرٱتك ) ويشير دستوفسكي بأن (العزلة زاوية صغيرة يقف فيها المرء أمام عقله) بينما يشير همنغواي إلى أن (إبتعادنا عن البشر لايعني كرهاً أو تغيراً ، العزلة وطن للأرواح المتعبة ) وغير ماذكرنا من مقولات الكثير من الٱراء والمنجزات التي ترىٰ في العزلة مساحة يواجه فيها المرء ذاته ، بل هي مرٱة تتأمل الذات نفسها بسعادة عبر العالم الٱخر ، ذلك العالم الذي يجد فيه المبدع / الشاعر نفسه في صف واحد مع الأنبياء والثوار والمجانين في اعتراضهم على الواقع المرئي المعيش المليء بالأحزان والمكابدات ، فيلجأون إلى تشكيل الواقع/العالم الذي يجدون فيه الحرية كضرورة نحو المطلق المجسّد لحقيقة الوجود البشري ، ولايمكن الوصول إلى تفاصيل هذا العالم/ الحلم إلّا عبر العزلة ، ولكن هذا العالم/ الواقع غير المرئي يتم تأثيثه انطلاقاً من معطيات وجود الشاعر في منظومة الواقع الفيزيقي المعيّش .
لقد أدرك الشعراء العرب ومنهم العراقيون الىٰ الفضاء الحر للعزلة بعدّها مرٱة الذات أو مواجهة الذات الشاعرة للوصول الىٰ جوهر كينونة الشعر ، لتنطلق الذات في رحاب المطلق لتكتشف حقيقة وجودها البشري ، وأزاء ذلك فإننا نعدُّ تجربة كتابة القصيدة هي فضاء يمارس فيه الشاعر عزلته الكاملة عبر مواجهة الذات لاستنطاقها والكشف عن التجربة الشعورية إزاء الذات أو الموضوع ، ولنا في تجربة الشاعر كوليرج في كتابته لقصيدة (كوبلاي خان) خير مثال ، إذ كتب كوليرج قصيدته هذه وهو منفصل انفصالاً كلياً عن الواقع المادي منسحبا إلى داخل ذاته ، فهو لم يشعر بانهمار المطر الغزير وعدم اكتراثه بأحد اصدقائه الذي يروي كيف امسك كوليرج بأزرار معطفه دون أن يعي شيئا ، ولم يتمكن من الإفلات منه إلّا بعد أن قطع الزر عن المعطف ومضى في حال سبيله دون أن ينتبه الشاعر له ، فقد كان كوليرج منعزلاً عزلة تامة في كتابته للقصيدة ، وكذا الحال عند الشاعر الصوفي ابن الفارض ، إلّا أن عدداً من الشعراء قد كتبوا نصوصاً تعالج قضية العزلة التي اكتسبت قيمتها الدلالية من الفضاء الداخلي الذي يختص به الشاعر دون غيره من البشر ، ولنا في ثلاثة من النصوص الشعرية لشعراء عراقيين نماذج لفهم العزلة والتعبير عن كينونتها في نصوصهم التي حاولت الوصول إلى الدخول إلى منطقة العزلة بكونها منطقة يشعر فيها الشاعر بالسعادة لإقترابها من ذاته المتفردة .
ففي كتابه ( كائنات العزلة ) -- وهو مختارات مترجمة لنصوص شعراء عالميين تفرّدوا في الكتابة عن (العزلة) -- ينشر الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي نصوصه الشعرية المقاربة لفضاء العزلة أسوة ببقية الشعراء فيقول في واحد من هذه النصوص :-
( لا أريد الوحدةَ
تابوتاً يأويني / بل العزلةَ /حيث لارابط يغويني )
وفي نص له ٱخر ( ما إن يُطفأُ الضوء / حتى تُنير العين الباطنة/ المخبأَ ../ وتهبُّ العزلةَ تروي)
ففي النص الأول يفرّقُ الشاعر بين (الوحدة) و (العزلة) ، وفي الوقت الذي يرفض فيه الوحدة بعدها احتياج لوجود الٱخر وارتباط به فإنه يبغي (العزلة) التي ينفرد فيها بذاته قاطعاً كل صلةٍ بالٱخر ، فهي مرٱة ذاته التي يرىٰ فيها مكنوناته وماتريد تلك الذات ، أما في النص الثاني فإنه يجد في انطفاء الضوء انقطاعاً عن الوجود المادي / خارج الذات الداخلية ، إذ أن الضوء ينير الموجودات المحيطة ، وفي الوقت الذي ينطفأ فيه ضوء الموجودات المحيطة فإن ضوء الذات الباطنية يبدأ في السطوع ليرى الشاعر ذاته بشكل جيد ليحاورها وليصل إلى مكنوناتها ليعرفها أكثر والسعادة بالغة عبر العزلة التي تتيحها العين الباطنة المشعّة ، عندئذ يبدأ مشوار الذات للارتواء من هذه العزلة ، ويتخذ التضاد في ثنائية الوحدة/ العزلة وضعاً مركزياً في النص الأول ، إذ حاول النص صرف النظر عن (الوحدة) بعدّها مراداً للشاعر الذي رفضها منذ السطر الأول (لا أريد الوحدة ) لينفي حاجته لوجود الٱخر ولينصرف إلى تضادها (العزلة) كونها اختياراً يلجأُ إليه الشاعر للانفراد بذاته ، وفي النص الثاني يحاول النص تكريس بنية الداخل المظلم الذي يضيء حالماً تنتفي الحاجة للمحيط /الواقع الخارجي الذي ينطفيء الضوء الكاشف عنه ليبدأ الداخل بالإضاءة عبر (العزلة) .
وفي نص ( عزلة الشاعر) للشاعر عبد الكريم الگاصد نقرأ :--
( علىٰ حجرٍ في العراء اتكأتُ
حاضناً نفسي العزيزةَ
بهدوء الملائكِ
حيث لاخضوع يرفعني
ولاكبرياء يضعُني
راضياً بالأقلّ )
ففي النص السالف يرسم الشاعر عبد الكريم الگاصد مشهد رائع لإكتفاء الشاعر بنفسه العزيزة التي يقرن هدوءها بهدوء الملائكة وقد اختار لهذا الإتكاء على حجر مكاناً يتجرّد من تفاصيل الواقع المنظور وهو (العراء) ليشير إلى مايمكن أن يحققه هذا العراء من نزوع للرجوع إلى النفس العزيزة التي ستجد في هذه العزلة وفي هذا المكان صفاءً داخلياً بعيداً عن إمكانات تحقق الكبرياء والخضوع الذي يُنتجُ بفعل العلائق التي ترتبط بها ذات الشاعر بتفاصيل ومخرجات الواقع ، وعبر هذه النديّة من قِبلِ الشاعر لفواعل الصلة التي تسِمهُ بالخضوع والكبرياء يؤكد النص اكتفاء ورضىٰ الشاعر بالقليل الذي هو كثير بالنسبة إليه في حالة تأكيد صفاء ونقاء (النفس العزيزة) في تجردها عن العلائق الخارجية والإكتفاء بالداخل الذي تحققه العزلة ، وفي هذا الموقف اشهار عن عدم الحاجة للٱخر الذي يتضمنه الواقع الذي تتيحه (الوحدة) ليلجأ إلى العزلة التي تتصاعد وحالة الإحتياج للواقع ، وبالإمكان التوصل إلى العناصر المكوّنة لبنية العزلة وهي : العراء/ احتضان النفس/ هدوء الملائك / الرضىٰ بالقليل ، في حين كوّنت العناصر التالية بنية الوحدة التي تشي بالإحتياج للٱخر :- الخضوع الذي يضع/ الكبرياء الذي يرفع ، وعبر نفي بنية الوحدة تتشكل بنية عزلة الشاعر التي يرىٰ من خلالها الشاعر ذاته متجردة عن كل ما يحيط بها عن رضىٰ وقناعة حتى بالقليل الذي سيحصل عليه مادامت باختياره بعدّها حالة صفاء ونقاء داخلي .
وفي النص الثالث للشاعر صلاح حسن وبعنوان (عزلة) :--
( يقول لي حذائي الذي أهملته تماماً
لنخرج في نزهة تحت المطر
لم أرَ الشارع منذ سنة
جدران بيتي تقول لي :-
انظر الى السقوف
أنها تختنق، اشعل لها شمعة
حقولي العمياء تقول لي :-
اشجارك تحتاج إلى أكثر من الماء
تكلّم معها كي تثمر )
في النص السالف للشاعر صلاح حسن نتلمس محاولة اغراء من قبل الحذاء وجدران البيت والسقوف لمغادرة العزلة التي انقطع فيها الشاعر عن العالم ، فهو لم ير الشارع منذ سنة ، وكل موجودات عزلته تغريه بالخروج من هذه العزلة التي اختنق منها كل شيء ، فالجدران تقترح عليه أن يشعل شمعة السقوف المظلمة ، كل شيء مظلم وبه رغبة للمغادرة ، وأزاء محاولات الإغراء هذه إلّا أن الشاعر يحتفي بحقوله العمياء ، حقول مجازية تكوّن حالة اصطفاء لعالم داخلي بحاجة إلى تأثيث جديد يعيد فيها الشاعر انتاج الموجودات التي سئمت تلك العزلة ، ولعلّ إدراك جدوىٰ العزلة ومٱلاتها يتطلب الإنسحاب إلى داخل الذات ورؤية تلك الحقول رؤية أخرى تتجاوز الحاجة المادية للماء ف ( أكثر من ماء) دعوة للإستئناس بهذا الفضاء الذي سيحقق إمكانية محاورة تلك الحقول كي تثمر بعد استغناءها عن الماء المنظور وحاجتها إلى ماء ٱخر / مجازي ، اي هناك ماهو اكثر من الرؤية المادية ، وما إن يصل الشاعر إلى هذه المنطقة فإنها ستثمر ذلك الثمر الذي يصل الشاعر بالموجودات وبنفسه التي فشلت الموجودات المادية / الواقع في استدراجها لفك قيد العزلة ، فقد تمكنت دالّات الخطاب الشعري من تشكيل الصور المقتربة من الحس الشعري بالموجودات الظاهرة والباطنة ليؤثث النص بنية العزلة وفق رؤية الشاعر التي تمركزت حول ضرورة أن يرىٰ الشاعر ذاته مرة أخرى بعيدا عن المحيط/ الواقع ليدع حبوبه العمياء تثمر .
من خلال ماتمت الإشارة إليه في صدر البحث حول مفهوم العزلة وموقف الادباء والشعراء منها ومن خلال تحليل النصوص المختارة التي وقفت عند تصور فضاء عزلة الشاعر يتضح لنا الوضع المتضاد بين ثنائية الوحدة/ العزلة ، ففي الوقت الذي تعد فيه الوحدة شعورا واحساساً لوصف ألم أن تكون وحيدا فإن العزلة ابتكرتها اللغة لوصف اكتفاء الشاعر بذاته اختيارا ، إذ أن الشاعر بستأنس بعزلته الإختيارية لانه من خلالها يكتشف المجهول ويقترب من الذات الداخلية التي تختزن التجارب الحياتية كيما يتمكن من التعبير عنها عبر مرٱة الذات التي تتجلّىٰ في ابهىٰ صورها في وضع العزلة ، وأزاء ذلك فإن الشاعر الحقيقي يمارس عزلة إيجابية عند كتابته لنصه الشعري ، وبمعنى ٱخر فإن التجربة الشعورية للشاعر هي فضاء العزلة لذا فهو رجل العزلة وابنها .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى