بغض النظر عن كون التيارات السائدة في الفكر العربي الحديث هي تيارات غربية بالضرورة إما وجودية (عبد الرحمن بدوي) أو ماركسية (أنور عبد الملك) أو شكّية (طه حسين) أو علاماتية (سعيد بنكراد),والأخير نتناوله بالدرس هنا,من خلال تسليط الضوء على أحد كتبه التي لم تخرج (بالضرورة أيضا) عن توجه رسمه لنفسه منذ البداية. ولكن لأن أي مفكر ينشغل تفكيره بالوقوف بين (المناهج) و(النتائج),أو بين (المقدمات) و(المقاربات). فإن هذا يحتم من موقعه ذاك,تبني موقف نقدي أو منطلق فكري يبتدئ منه,وقد يكون هذا المنطلق مؤطر بالعلاماتية,ولكنه يطبقه على نماذج من العالم العربي,ويستخرج المزيد من القراءات (الخاصة به هو) عن اطلاعه على واقع ومحيطه ووضعه موضع الدرس والفحص. حتى ولو كان في الوسط مستخدما أيضا لأدوات غربية,تظل النماذج وبالتالي النتيجة مما يضفي على البحث العلمي أصالة عربية.
ويقع الكتاب القيم المعنون بـ (سيميائيات الصورة الإشهارية) لعالم السيميائيات الشهير سعيد بنكراد,في سبعة فصول
1-الإرسالية الإشهارية
2-الصورة الإشهارية بين المرجعية والجمالية والإيديولوجية
3-نساؤهم ونساؤنا
4-ماكدور
5-ولا يكف الحصان عن الصهيل
6-والنجم إذا علا
7-الصورة الإشهارية وتمثلات الساخن والبارد
الفصل الأول والثاني هو مدخل ممتاز لما تم عنونة الكتاب به,وهو سيميائيات الصورة الإشهارية,باعتبار أن العلامات فاضحة للمعنى,فهي إذن منهجية جيدة للتعريف بالصورة الإشهارية (المستخدمة في التسويق والدعاية) وتطويرها وتوجيهها نحو غايات معينة ومحددة سلفا ضمن الشروط التي يجب توافرها في (الصورة) كي تسمى (إشهارية) أو (دعائية) أو (تسويقية).
وهي شروط تتآلف من مستويات المعنى,التي خصص لها قسم (الصورة ومدارج المعنى) إنطلاقا من اعتبار أن السيميائيات هو علم للدلالات أجدر من علم الدلالة نفسه ربما "ليست السيميائيات علماً للعلامات،بل دراسة للمتمفصلات الممكنة للمعنى،فـ (السميوز)،بما هي سيرورة منتجة للدلالة،لا يمكن أن تكون تدبيراً لشأن خاص بعلامة مفردة،ولا علماً لعلامات معزولة. إن السيميائيات هي طريقة في رصد المعنى وتحديد بؤره ومظانه،إنها طريقة في الكشف عن حالات تمنعه ودلالة غنجه. ولهذا،فالسيموز ليست تعييناً لشيء سابق في الوجود على التمفصلات ولا رصداً لمعنى واحد ووحيد. إنها على العكس من ذلك: إنتاج،والإنتاج معناه الخروج من الدائرة الضيقة للوصف (الموضوعي) إلى ما يحيل على التأويل باعتباره سلسلة من الإحالات المتتالية الخالقة لسياقاتها الخاصة. والسيميائيات،على هذا الأساس، مطاردة للمعنى لا ترحم،فبقدر ما يتمنع المعنى ويتدلل ويزداد غنجه،بقدر ما تتشعب مسارات السيموز وتتعقد شبكتها وتكبر لذتها,ويكبر حجم التأويل ويزداد كثافة وتماسكاً مما يؤدي إلى (انزلاقات دلالية) لا حصر لها ولا عد." وهو يشبه ما جاء به في موضع آخر بكتابه عن (السيميائيات: مفاهيمها وتطبيقاتها). لما يقول "جاءت السيميائيات لتعيد النظر في المعنى وإعادة التفكير فيما يتعلق بالمعنى،فأنتجت لنا حقل يسمى الدلالة فشكَّل الحقل فهمًا لغويًا ذا نسقًا يتأطَّر مع الكثير من المعاني المنتجة من قضايا المعنى. استمدت السيميائيات أصولها ومبادئها (من مجموعة كبيرة من الحقول المعرفية كاللسانيات والفلسفة والمنطق والتحليل النفسي والأنثروبولوجيا. لكنَّها حافظت على كيان مستقل له خصائص تميّزه عن هذه الحقول)." ويقول العلَّامة الإيطالي أمبرتو إيكو فيما يتعلَّق بالعلامة: تولد كلَّما استعمل الإنسان شيئًا محل شيء آخر. ويستجدي بنا الحديث أيضًا قول العلَّامة الفرنسي جاك دريدا في المفهوم نفسه: فما يطلق العنان للدلالة هو نفسه ما يجعل توقفها أمرًا مستحيلًا،ذلك أن الشيء ذاته علامة.
ولكن ما يعنينا من كل هذا التعقيد,هو جانب التطبيق,والقدرة على توظيف الصورة لأغراض دعائية,لهذا كان الشرط الأول في بناءها هي أن تخدم غرضا دعائيا,أو ما يصفه بنكراد بـ (وظيفة محددة) وهو ما يغفله اليافعين من الشباب العاملين في التسويق. حيث يحسبون أنهم فادرين على استهداف الجميع لبيع منتجتهم! هذا في حد ذاته هدف,ولكنه مقتصر على الشركات الكبرى فقط لا غير. هذا ما ينقلنا إلى الشرط الثالث الذي لا أجد فيه سوى تنويع عن الشرط الأول,ما يجعل المجموع في الأصل شرطان. (الوظيفة المحددة) و(المؤشر السلوكي). هذا الشرط تحديدا أفاض فيه الكاتب وأكثر الحديث عنه في الفصول اللاحقة على الكتاب الذي لا يستدعي انتباهنا إلا لما جاء فيه بمقدمته وفصليه الأولين,مقدما نصا صالحا كمدخل جيد لأي طالب في علم التسويق. قرأت مؤخرا كتاب حمل عنوان عظيما ولم يكن على قدر التوقعات من هذا العنوان (أوكلما اشتهيت اشتريت). ولا يخرج نص الكتاب عن عتبته النصية الماثلة في عنوانه,وبعض المبعثرات الأشبه بملخصات عن الكتب الغربية ذائعة الصيت في نفس موضوعه,مع دعاية لا ضرر منها,لولا أنا أكثرت,لدولة الإمارات. ولو اجتهد كاتبه (محمد عمر الجعيدي) فيه أكثر لكان صالحا لأن يكون ملخصا أو مقدمة للكتب الأكثر صعوبة على المبتدئ. كنت قد راسلت الكاتب ليرسل لي نسخة رقمية مجانية, ولما لم يأتيني الرد,اشتريت نسخة ورقية لنفسي,وقرأتها في جلسة أو جلستين. وكان في البداية يسير على نحو جيد ثم بدأ (العك) بالتعبير المصري الدارج. ناهيك عن كونه يبتعد تماما عما حسب أنه قد يقدمه من مواضيع تمس الاقتصاد الأصفر وإعادة تدوير المخلفات (علم النفايات). خاصة وتصميم الغلاف واسم الكتاب. ولما كنت مهتما بمن يعلمنا اقتصادا إسلاميا من خلال تطوير الفرد عبر توجيهه للأسس السليمة,كنت قد قرأت الماجريات وأؤكلما اشتهيت اشتريت,وكتب أخرى نأتي على ذكرها لاحقا. والكتب المذكورة,تصلح مداخلها فقط كمداخل جيدة لطلبة التسويق,والباقي ما هو إلا شؤون إعلامية وسياسية صرفة, أو كأنها كذلك.
ويستهل بنكراد مدخله بتعريف الصورة (التي نتبين من فهمنا الصحيح لها مؤشرها السلوكي المحدد لوظيفتها أو المحدد بها). "إن للصورة مداخلها ومخارجها؛لها أنماط للوجود وأنماط للتدليل. إنها نص,وككل النصوص تتحدد باعتبارها تنظيما خاصا لوحدات دلالية متجلية من خلال أشياء أو سلوكات أو كائنات في أوضاع متنوعة." (ص 31). وإذا كانت الصور عبارة عن (نسخ) عن الواقع,فما التسويق (على مستوى الشركات الكبرى) إلا محاولة لمعالجة الواقع ونسخه على (نحو أفضل) وتقديمه إلى العميل بوصفه سلعة (منتج أو خدمة). وهذا يعني أن يستفيد المسوق من جميع المرجعيات الثقافية والطبيعية المتاحة في المحيط من حوله ومن حول العميل / الزبون ومن حولنا. مثل أن ينسخ عن الجسد و(الوضعيات) المختلفة له. "فبنفس المنطق يُستخدم وجه الإنسان,جسده وظله,عيناه وأنفه,وقوفه وجلوسه, ليرسم خطوط سيرورة دلالية بالغة الغنى والتنوع. ويكفي أن نشير في هذا المجال إلى كل الدلالات التي يمكن الحصول عليها من خلال التنويع في الوضعات (poses),وكذا من خلال أشكال الحضور الجسدي (الزوايا والخطوط والنظرة),لندرك أن الإنسان لا يدل في الصورة من خلال (إنسانيته) وإنما يدل من خلال أشكال حضوره الجسدي. وعلى هذا الأساس,فإن النظرة,من هذه الزاوية,تعد تقطيعا للمدرك,إنه تقطيع تقوم به الذات المبصرة في أفق تشكيل وخلق موضوع لنظرتها." (ص33,34). هذا (الحضور الجسدي) لا يمثل إلا نموذج واحد من الحيثيات الطبيعية ومشابهاتها الثقافية التي يمكن أن ننسخ عنها دلالاتنا التسويقية. والكتاب غني جدا بالتفصيل في العديد من تمفصلات المشهد التسويقي,بل ويمكن بالإضافة إلى كل ما جاء في قسم (الصورة الإشهارية ومستويات التسنين) من بناء وتكوين وعرض للعلامة البصرية,ثم تفصيل في لاحقته بما أتى عليه من بعض شروط محددة. يمكننا استنباط شروط تسويقية مهمة من نفس نمط (تقديم الحياة الجميلة بوصفها سلعة إلى العميل دون أن يعني أنها سلعة,بل هي ضرورة حتمية من أجل الارتقاء الاجتماعي) مثلما يحدث في تجارة العقارات والسيارات والملابس والحلي باهظة الثمن,والمشروبات والحلويات المفتقدة لأي قيمة غذائية (وهو ما لم يأتي على ذكره ولا التحذير منه كاتبنا المغمور محمد عمر الجعيدي إلا بشكل عابر جدا).
وتأتي القواعد مثل الآتي
1-بناء الهوية البصرية
"فانطلاقا من ذلك فإننا نقوم بمنح المنتوج هوية,والهوية البصرية,كما الهوية اللفظية,هي أساس وجود المنتوج وضمان تداوله وتذكره واستهلاكه." (ص 57).
2-دعوة للترقي الاجتماعي
"فيجب أن ترتبط صورة الجودة هذه (I image de marque) في وجدان المتلقي / المستهلك بعوالم ثقافية,ودوائر قيمية يتحول المنتوج من خلالها وفيها إلى مثير نفسي (شرطي) يحتكم إليه السلوك الفردي والجماعي. ولعل هذا ما يجعل من العلامة التجارية (الماركة) أساسا لوجود المنتوج رغم كونها كيانا لاحقا له." (ص 57). في نوع من (التحول الشرطي) ويبقى أن أهم ما جاء في الكتابة,إضافة إلى درس التسويق,هو التنبيه إلى ضرورة عدم الانسياق والانزلاق إلى حاجاتنا (الوهمية) نحو (الترقي الاجتماعي) كنوع من (تقدير الذات) اقترانا باعتبارات شيئية مثل ما نلبس وما نركب.
3-التزام موقف محايد
أي لا تظهر بمظهر الذي يحاول أن يبيعنا بضاعته,هو فقط يعرض لنا (الأفضل). فالتسويق هو "مجرد عرض محايد لمنتوج ما. ف(قاعدة الفعل),المرتبطة أساسا بالتلقي,هي نتاج طريقة في تقديم المنتوج وطريقة في انتقاء الشريحة أو الشرائح المستهدفة,وطريقة في انتقاء الزمن والفضاء والشخصيات والأوضاع المحتضنة لأي منتوج" (ص 60). وهو ما يمكن تسميته بقاعدة الفعل المقترنة بجودة المنتج.
4-الانطلاق من وقائع ملموسة
"إن الإشهار المرجعي أو الإشهار المباشر ينطلق من وقائع ملموسة,منها يستمد قدرته على (قول شيء حقيقي) عن المنتوج المراد عرضه للتداول. إن هذه الوقائع هي وضعيات إنسانية مسكوكة معترف بها اجتماعيا (أو هي كذلك على مستوى الذاكرة). فـ (العائلة),و (دور الأب) و(حنان الأم) و(شقاوة الطفل) و(دلال العذراء),وكذلك (الأفراح) و(المناسبات),كلها وضعيات إنسانية تحضر في ذهن المتلقي على شكل نماذج عامة يتم وفقها إدراك كل وضعية مخصوصة. إنها أساس التواصل بين أفراد المجموعة الثقافية الواحدة. فنحن لا نتواصل من خلال ما هو عيني ومتحقق (الوضعية الإبلاغية المباشرة),وإنما نقوم بذلك انطلاقا من (الذاكرة العامة) التي تحتضن داخلها مجمل الصور الإبلاغية المخصوصة." (ص 61). "فإذا كانت القاعدة الأساس في التواصل مع المستهلك ترفض أن يقدم المنتوج حافيا وعاريا من أي سقف يمنحه الدفء والأمان والألفة". (ص 63).
5-تضخيم المنتج
"إن الأمر يتعلق بمجموعة من المعلومات الخاصة بالمنتوج. فهوية المنتوج تفوق هوية المستهلك -والمسوق- وتتجاوزها. إن الفرد مغيب كذات تستهوي وتغري وتتأنق وتتألق. إن الشيء يأتيها من خارجها: إن (الآلة) (س) تطبخ جيدا,والمسحوق (س) يصبن أحسن,إلخ. ولكن القيم الأساسية هي قيم تخص الهوية الحضارية للفرد,أي (ما يتطابق مع الاهتمامات الأساسية للكائن البشري التي يشكل البحث) عن هذه القيم داخلها جوهر عدد هائل من الإنجازات الثانوية والسطحية. ويكفي,لإدراك هذا التفاوت في القيم,تغيير زاوية النظر والتوجه نحو الفرد لا المنتوج,أي جعل الذات المستهلكة المركز الأساس في التمثيل,حينها سيصبح السائق أهم من السيارة,وستكون مستعملة العطر هي الهدف وليس العطر,والأهم هو حامل المعطف وليس المعطف". ولكن ذلك في حالات خاصة فقط,مما يدل على سعة اطلاع الباحث على نماذجه التجريبية / التسويقية,ناهيك عن تحليله الذكي لبعض المشاهد والتشيؤات الثقافية على طول الكتاب.
والكتاب فيه أمثلة وقواعد أكثر من ذلك,والكتاب قيم فعلا,ولكن يعيبه أربعة مشكلات
1-الأولى أن نماذجه كلها تنطبق على تسويق الشركات الكبرى المعتمد على برنامج (الصورة المتكررة) وليس برنامج (البيع بالقطعة). الأخير هو البرنامج الصالح للمسوقين الشباب والشركات الناشئة كما برهن خبير التسويق ألن ديب في كتابه (خطة تسويق في صفحة واحدة) انظر من الصفحة 34 إلى ص40 في هذا الكتاب القيم بدوره. والمعنى المراد هنا أن الشركات الكبيرة تعتمد على فكرة أساسية هي "أنك كلما كررت الإعلان عن علامتك,زادت فرصة أن تكون هذه العلامة في أعلى القائمة في وعيهم عندما ينوون اتخاذ قرار الشراء". (ألن ديب,ص 35). ولديهم من رأس المال (وعجلة المبيعات تجري) ما يسمح ببقائهم أثناء القيام بذلك. أما المسوق المبتدئ فهو يحتاج لكل جنيه يأتيه عن بيع قطعة من منتجه أو خدمته,لذا لا يمكنه بأي حال من الأحوال استهداف الجميع (إلا في حالات نادرة ربما). وهذا ما تعلمته بالفعل من واقع خبرتي كمسوق رقمي.
2-أنه يكرر كثيرا,ويزيد في التعقيد كأنه يفاخر بمرجعياته العلمية الرصينة.
3-كأنه يقدم دعاية لبعض العلامات التجارية في تحليله هذا.
4-منذ فصل نساؤهم ونساؤنا وما طالع,يطالع القارئ انعكاسات ذاته على منتجات وتوجهات تسويقية بعينها. ورغم أنني أصف نفسي مفكر إسلامي ذو توجه علماني. ولكن لم يصل بي الحال بعد للدعوة إلى العريّ التي لم تكن دعوة صريحة من الكاتب,وإن كانت بادية على لسانه. وهو استخدم كلمة (طري) أكثر من مرة في أكثر من موضع كنوع من الإشارة الجنسية إلى منتج أنثوي بعينه,ما يشي بميله هو إليه,فهو على سبيل المثال لم يتطرق في بحثه إلى المشدود والصلب في الجسد الأنثوي مقابلا للمرن والطري الذي يقدم عنه. لا أمانع البحوث النفسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الفلسفية عن الجسد. ولكن بحثه هنا مختل في موضعين؛أولا لأنه يأتي كأنه كتاب آخر غير ما أتيت أنا على مراجعته بالأعلى. وثانيا لأن به العديد من الإشارات التي أخشى أنها تبتعد عن الحياد العلمي المرجو.
قراءات مشابهة
-بين اللفظ والصورة / سعيد بنكراد
-تجليات الصورة / سعيد بنكراد
- أنا أوسيلفي إذن أنا موجود / ترجمة سعيد بنكراد
ويقع الكتاب القيم المعنون بـ (سيميائيات الصورة الإشهارية) لعالم السيميائيات الشهير سعيد بنكراد,في سبعة فصول
1-الإرسالية الإشهارية
2-الصورة الإشهارية بين المرجعية والجمالية والإيديولوجية
3-نساؤهم ونساؤنا
4-ماكدور
5-ولا يكف الحصان عن الصهيل
6-والنجم إذا علا
7-الصورة الإشهارية وتمثلات الساخن والبارد
الفصل الأول والثاني هو مدخل ممتاز لما تم عنونة الكتاب به,وهو سيميائيات الصورة الإشهارية,باعتبار أن العلامات فاضحة للمعنى,فهي إذن منهجية جيدة للتعريف بالصورة الإشهارية (المستخدمة في التسويق والدعاية) وتطويرها وتوجيهها نحو غايات معينة ومحددة سلفا ضمن الشروط التي يجب توافرها في (الصورة) كي تسمى (إشهارية) أو (دعائية) أو (تسويقية).
وهي شروط تتآلف من مستويات المعنى,التي خصص لها قسم (الصورة ومدارج المعنى) إنطلاقا من اعتبار أن السيميائيات هو علم للدلالات أجدر من علم الدلالة نفسه ربما "ليست السيميائيات علماً للعلامات،بل دراسة للمتمفصلات الممكنة للمعنى،فـ (السميوز)،بما هي سيرورة منتجة للدلالة،لا يمكن أن تكون تدبيراً لشأن خاص بعلامة مفردة،ولا علماً لعلامات معزولة. إن السيميائيات هي طريقة في رصد المعنى وتحديد بؤره ومظانه،إنها طريقة في الكشف عن حالات تمنعه ودلالة غنجه. ولهذا،فالسيموز ليست تعييناً لشيء سابق في الوجود على التمفصلات ولا رصداً لمعنى واحد ووحيد. إنها على العكس من ذلك: إنتاج،والإنتاج معناه الخروج من الدائرة الضيقة للوصف (الموضوعي) إلى ما يحيل على التأويل باعتباره سلسلة من الإحالات المتتالية الخالقة لسياقاتها الخاصة. والسيميائيات،على هذا الأساس، مطاردة للمعنى لا ترحم،فبقدر ما يتمنع المعنى ويتدلل ويزداد غنجه،بقدر ما تتشعب مسارات السيموز وتتعقد شبكتها وتكبر لذتها,ويكبر حجم التأويل ويزداد كثافة وتماسكاً مما يؤدي إلى (انزلاقات دلالية) لا حصر لها ولا عد." وهو يشبه ما جاء به في موضع آخر بكتابه عن (السيميائيات: مفاهيمها وتطبيقاتها). لما يقول "جاءت السيميائيات لتعيد النظر في المعنى وإعادة التفكير فيما يتعلق بالمعنى،فأنتجت لنا حقل يسمى الدلالة فشكَّل الحقل فهمًا لغويًا ذا نسقًا يتأطَّر مع الكثير من المعاني المنتجة من قضايا المعنى. استمدت السيميائيات أصولها ومبادئها (من مجموعة كبيرة من الحقول المعرفية كاللسانيات والفلسفة والمنطق والتحليل النفسي والأنثروبولوجيا. لكنَّها حافظت على كيان مستقل له خصائص تميّزه عن هذه الحقول)." ويقول العلَّامة الإيطالي أمبرتو إيكو فيما يتعلَّق بالعلامة: تولد كلَّما استعمل الإنسان شيئًا محل شيء آخر. ويستجدي بنا الحديث أيضًا قول العلَّامة الفرنسي جاك دريدا في المفهوم نفسه: فما يطلق العنان للدلالة هو نفسه ما يجعل توقفها أمرًا مستحيلًا،ذلك أن الشيء ذاته علامة.
ولكن ما يعنينا من كل هذا التعقيد,هو جانب التطبيق,والقدرة على توظيف الصورة لأغراض دعائية,لهذا كان الشرط الأول في بناءها هي أن تخدم غرضا دعائيا,أو ما يصفه بنكراد بـ (وظيفة محددة) وهو ما يغفله اليافعين من الشباب العاملين في التسويق. حيث يحسبون أنهم فادرين على استهداف الجميع لبيع منتجتهم! هذا في حد ذاته هدف,ولكنه مقتصر على الشركات الكبرى فقط لا غير. هذا ما ينقلنا إلى الشرط الثالث الذي لا أجد فيه سوى تنويع عن الشرط الأول,ما يجعل المجموع في الأصل شرطان. (الوظيفة المحددة) و(المؤشر السلوكي). هذا الشرط تحديدا أفاض فيه الكاتب وأكثر الحديث عنه في الفصول اللاحقة على الكتاب الذي لا يستدعي انتباهنا إلا لما جاء فيه بمقدمته وفصليه الأولين,مقدما نصا صالحا كمدخل جيد لأي طالب في علم التسويق. قرأت مؤخرا كتاب حمل عنوان عظيما ولم يكن على قدر التوقعات من هذا العنوان (أوكلما اشتهيت اشتريت). ولا يخرج نص الكتاب عن عتبته النصية الماثلة في عنوانه,وبعض المبعثرات الأشبه بملخصات عن الكتب الغربية ذائعة الصيت في نفس موضوعه,مع دعاية لا ضرر منها,لولا أنا أكثرت,لدولة الإمارات. ولو اجتهد كاتبه (محمد عمر الجعيدي) فيه أكثر لكان صالحا لأن يكون ملخصا أو مقدمة للكتب الأكثر صعوبة على المبتدئ. كنت قد راسلت الكاتب ليرسل لي نسخة رقمية مجانية, ولما لم يأتيني الرد,اشتريت نسخة ورقية لنفسي,وقرأتها في جلسة أو جلستين. وكان في البداية يسير على نحو جيد ثم بدأ (العك) بالتعبير المصري الدارج. ناهيك عن كونه يبتعد تماما عما حسب أنه قد يقدمه من مواضيع تمس الاقتصاد الأصفر وإعادة تدوير المخلفات (علم النفايات). خاصة وتصميم الغلاف واسم الكتاب. ولما كنت مهتما بمن يعلمنا اقتصادا إسلاميا من خلال تطوير الفرد عبر توجيهه للأسس السليمة,كنت قد قرأت الماجريات وأؤكلما اشتهيت اشتريت,وكتب أخرى نأتي على ذكرها لاحقا. والكتب المذكورة,تصلح مداخلها فقط كمداخل جيدة لطلبة التسويق,والباقي ما هو إلا شؤون إعلامية وسياسية صرفة, أو كأنها كذلك.
ويستهل بنكراد مدخله بتعريف الصورة (التي نتبين من فهمنا الصحيح لها مؤشرها السلوكي المحدد لوظيفتها أو المحدد بها). "إن للصورة مداخلها ومخارجها؛لها أنماط للوجود وأنماط للتدليل. إنها نص,وككل النصوص تتحدد باعتبارها تنظيما خاصا لوحدات دلالية متجلية من خلال أشياء أو سلوكات أو كائنات في أوضاع متنوعة." (ص 31). وإذا كانت الصور عبارة عن (نسخ) عن الواقع,فما التسويق (على مستوى الشركات الكبرى) إلا محاولة لمعالجة الواقع ونسخه على (نحو أفضل) وتقديمه إلى العميل بوصفه سلعة (منتج أو خدمة). وهذا يعني أن يستفيد المسوق من جميع المرجعيات الثقافية والطبيعية المتاحة في المحيط من حوله ومن حول العميل / الزبون ومن حولنا. مثل أن ينسخ عن الجسد و(الوضعيات) المختلفة له. "فبنفس المنطق يُستخدم وجه الإنسان,جسده وظله,عيناه وأنفه,وقوفه وجلوسه, ليرسم خطوط سيرورة دلالية بالغة الغنى والتنوع. ويكفي أن نشير في هذا المجال إلى كل الدلالات التي يمكن الحصول عليها من خلال التنويع في الوضعات (poses),وكذا من خلال أشكال الحضور الجسدي (الزوايا والخطوط والنظرة),لندرك أن الإنسان لا يدل في الصورة من خلال (إنسانيته) وإنما يدل من خلال أشكال حضوره الجسدي. وعلى هذا الأساس,فإن النظرة,من هذه الزاوية,تعد تقطيعا للمدرك,إنه تقطيع تقوم به الذات المبصرة في أفق تشكيل وخلق موضوع لنظرتها." (ص33,34). هذا (الحضور الجسدي) لا يمثل إلا نموذج واحد من الحيثيات الطبيعية ومشابهاتها الثقافية التي يمكن أن ننسخ عنها دلالاتنا التسويقية. والكتاب غني جدا بالتفصيل في العديد من تمفصلات المشهد التسويقي,بل ويمكن بالإضافة إلى كل ما جاء في قسم (الصورة الإشهارية ومستويات التسنين) من بناء وتكوين وعرض للعلامة البصرية,ثم تفصيل في لاحقته بما أتى عليه من بعض شروط محددة. يمكننا استنباط شروط تسويقية مهمة من نفس نمط (تقديم الحياة الجميلة بوصفها سلعة إلى العميل دون أن يعني أنها سلعة,بل هي ضرورة حتمية من أجل الارتقاء الاجتماعي) مثلما يحدث في تجارة العقارات والسيارات والملابس والحلي باهظة الثمن,والمشروبات والحلويات المفتقدة لأي قيمة غذائية (وهو ما لم يأتي على ذكره ولا التحذير منه كاتبنا المغمور محمد عمر الجعيدي إلا بشكل عابر جدا).
وتأتي القواعد مثل الآتي
1-بناء الهوية البصرية
"فانطلاقا من ذلك فإننا نقوم بمنح المنتوج هوية,والهوية البصرية,كما الهوية اللفظية,هي أساس وجود المنتوج وضمان تداوله وتذكره واستهلاكه." (ص 57).
2-دعوة للترقي الاجتماعي
"فيجب أن ترتبط صورة الجودة هذه (I image de marque) في وجدان المتلقي / المستهلك بعوالم ثقافية,ودوائر قيمية يتحول المنتوج من خلالها وفيها إلى مثير نفسي (شرطي) يحتكم إليه السلوك الفردي والجماعي. ولعل هذا ما يجعل من العلامة التجارية (الماركة) أساسا لوجود المنتوج رغم كونها كيانا لاحقا له." (ص 57). في نوع من (التحول الشرطي) ويبقى أن أهم ما جاء في الكتابة,إضافة إلى درس التسويق,هو التنبيه إلى ضرورة عدم الانسياق والانزلاق إلى حاجاتنا (الوهمية) نحو (الترقي الاجتماعي) كنوع من (تقدير الذات) اقترانا باعتبارات شيئية مثل ما نلبس وما نركب.
3-التزام موقف محايد
أي لا تظهر بمظهر الذي يحاول أن يبيعنا بضاعته,هو فقط يعرض لنا (الأفضل). فالتسويق هو "مجرد عرض محايد لمنتوج ما. ف(قاعدة الفعل),المرتبطة أساسا بالتلقي,هي نتاج طريقة في تقديم المنتوج وطريقة في انتقاء الشريحة أو الشرائح المستهدفة,وطريقة في انتقاء الزمن والفضاء والشخصيات والأوضاع المحتضنة لأي منتوج" (ص 60). وهو ما يمكن تسميته بقاعدة الفعل المقترنة بجودة المنتج.
4-الانطلاق من وقائع ملموسة
"إن الإشهار المرجعي أو الإشهار المباشر ينطلق من وقائع ملموسة,منها يستمد قدرته على (قول شيء حقيقي) عن المنتوج المراد عرضه للتداول. إن هذه الوقائع هي وضعيات إنسانية مسكوكة معترف بها اجتماعيا (أو هي كذلك على مستوى الذاكرة). فـ (العائلة),و (دور الأب) و(حنان الأم) و(شقاوة الطفل) و(دلال العذراء),وكذلك (الأفراح) و(المناسبات),كلها وضعيات إنسانية تحضر في ذهن المتلقي على شكل نماذج عامة يتم وفقها إدراك كل وضعية مخصوصة. إنها أساس التواصل بين أفراد المجموعة الثقافية الواحدة. فنحن لا نتواصل من خلال ما هو عيني ومتحقق (الوضعية الإبلاغية المباشرة),وإنما نقوم بذلك انطلاقا من (الذاكرة العامة) التي تحتضن داخلها مجمل الصور الإبلاغية المخصوصة." (ص 61). "فإذا كانت القاعدة الأساس في التواصل مع المستهلك ترفض أن يقدم المنتوج حافيا وعاريا من أي سقف يمنحه الدفء والأمان والألفة". (ص 63).
5-تضخيم المنتج
"إن الأمر يتعلق بمجموعة من المعلومات الخاصة بالمنتوج. فهوية المنتوج تفوق هوية المستهلك -والمسوق- وتتجاوزها. إن الفرد مغيب كذات تستهوي وتغري وتتأنق وتتألق. إن الشيء يأتيها من خارجها: إن (الآلة) (س) تطبخ جيدا,والمسحوق (س) يصبن أحسن,إلخ. ولكن القيم الأساسية هي قيم تخص الهوية الحضارية للفرد,أي (ما يتطابق مع الاهتمامات الأساسية للكائن البشري التي يشكل البحث) عن هذه القيم داخلها جوهر عدد هائل من الإنجازات الثانوية والسطحية. ويكفي,لإدراك هذا التفاوت في القيم,تغيير زاوية النظر والتوجه نحو الفرد لا المنتوج,أي جعل الذات المستهلكة المركز الأساس في التمثيل,حينها سيصبح السائق أهم من السيارة,وستكون مستعملة العطر هي الهدف وليس العطر,والأهم هو حامل المعطف وليس المعطف". ولكن ذلك في حالات خاصة فقط,مما يدل على سعة اطلاع الباحث على نماذجه التجريبية / التسويقية,ناهيك عن تحليله الذكي لبعض المشاهد والتشيؤات الثقافية على طول الكتاب.
والكتاب فيه أمثلة وقواعد أكثر من ذلك,والكتاب قيم فعلا,ولكن يعيبه أربعة مشكلات
1-الأولى أن نماذجه كلها تنطبق على تسويق الشركات الكبرى المعتمد على برنامج (الصورة المتكررة) وليس برنامج (البيع بالقطعة). الأخير هو البرنامج الصالح للمسوقين الشباب والشركات الناشئة كما برهن خبير التسويق ألن ديب في كتابه (خطة تسويق في صفحة واحدة) انظر من الصفحة 34 إلى ص40 في هذا الكتاب القيم بدوره. والمعنى المراد هنا أن الشركات الكبيرة تعتمد على فكرة أساسية هي "أنك كلما كررت الإعلان عن علامتك,زادت فرصة أن تكون هذه العلامة في أعلى القائمة في وعيهم عندما ينوون اتخاذ قرار الشراء". (ألن ديب,ص 35). ولديهم من رأس المال (وعجلة المبيعات تجري) ما يسمح ببقائهم أثناء القيام بذلك. أما المسوق المبتدئ فهو يحتاج لكل جنيه يأتيه عن بيع قطعة من منتجه أو خدمته,لذا لا يمكنه بأي حال من الأحوال استهداف الجميع (إلا في حالات نادرة ربما). وهذا ما تعلمته بالفعل من واقع خبرتي كمسوق رقمي.
2-أنه يكرر كثيرا,ويزيد في التعقيد كأنه يفاخر بمرجعياته العلمية الرصينة.
3-كأنه يقدم دعاية لبعض العلامات التجارية في تحليله هذا.
4-منذ فصل نساؤهم ونساؤنا وما طالع,يطالع القارئ انعكاسات ذاته على منتجات وتوجهات تسويقية بعينها. ورغم أنني أصف نفسي مفكر إسلامي ذو توجه علماني. ولكن لم يصل بي الحال بعد للدعوة إلى العريّ التي لم تكن دعوة صريحة من الكاتب,وإن كانت بادية على لسانه. وهو استخدم كلمة (طري) أكثر من مرة في أكثر من موضع كنوع من الإشارة الجنسية إلى منتج أنثوي بعينه,ما يشي بميله هو إليه,فهو على سبيل المثال لم يتطرق في بحثه إلى المشدود والصلب في الجسد الأنثوي مقابلا للمرن والطري الذي يقدم عنه. لا أمانع البحوث النفسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الفلسفية عن الجسد. ولكن بحثه هنا مختل في موضعين؛أولا لأنه يأتي كأنه كتاب آخر غير ما أتيت أنا على مراجعته بالأعلى. وثانيا لأن به العديد من الإشارات التي أخشى أنها تبتعد عن الحياد العلمي المرجو.
قراءات مشابهة
-بين اللفظ والصورة / سعيد بنكراد
-تجليات الصورة / سعيد بنكراد
- أنا أوسيلفي إذن أنا موجود / ترجمة سعيد بنكراد