رايفين فرجاني - مراجعة: الماجريات / إبراهيم السكران

تزداد حاجتنا إلى اقتصاد إسلامي يوما بعد يوم,والعالم تحكمه خمسة نظم اقتصادية كبرى هي الرأسمالية والاشتراكية والدولانية والإقطاعية والإسلامية. وسابقا قسمها مصطفى محمود -كما فعل غيره من النقاد الثقافيين- إلى اشتراكية في الشرق ورأسمالية في الغرب وإسلامية حسبما يفترض ببعض المناطق بالشرق الأوسط. أما الدولانية والإقطاعية فهما مثلهما مثل الإسلامية تمتزجان تحت النظم الاقتصادية الجديدة التي تسيطر على العالم الآن, مثل الرأسمالية الجديدة أو ما بعد الرأسمالية.

ولكن مثلما قد لا يستفهم بعض القراء مصطلح أو اثنين من النظم المذكورة على الصورة الكافية,قد يتعثر على القارئ أن يفهم الاقتصاد العام فهما صحيحا لما يعتروه من تغريب وسلطة الغرب على وقائع الأمور عندهم ومحاولتهم تطبيقها على واقعنا ووقائعنا. حين قرأت على سبيل المثال كتاب (المال) لأنتوني روبينز,لم أجد له أي قيمة حقيقية للقارئ العربي. هو مناسب فقط للمواطن الأمريكي. ليس لأنهم لديهم الكثير من فرص العمل,فالخليج فيه فرص عمل أكبر,بل لأن نظمه الاستثمارية والادخارية لا تنطبق إلا على المجتمع الأمريكي وتتناسب تماما مع سياسة البلد,والمنظومة الاقتصادية والقوانين الحاكمة هناك. بالإضافة إلى مشكلة عمومية قد يواجهه أي طالب لعلم المال في أي مكان,وهي أنه يوجد فارق كبير بين الاقتصاد النظري الأكثر شمولية والاقتصاد العملي الأكثر بساطة. بين الاقتصاد العام والاقتصاد الخاص (الخاص بالفرد ما أرمي إليه وليس بالقطاع الخاص). بين الاقتصاد الكبير والاقتصاد الصغير. بين الاقتصاد البعيد والاقتصاد القريب. فما يعني الفرد حقيقة ليس إصلاح اقتصاد الدولة,قدر ما يعنيه ويمسه عن قرب إصلاح اقتصاد جيبه هو. وهي المشكلة التي وقع فيها عدد من المنادين باقتصاد مستخرج من الفقه والفلسفة الإسلامية. أصاب فيها من أصاب,وخاب من خاب. إلا أن تعليم الاقتصاد أو إصلاحه مرهق جدا. التعليم نفسه لأي علم كان,يكون في العادة مكلفا ومرهقا ومملا,بل ومهدر للوقت (إذا لم يحدث التعلم) وغير مجدي (إذا لم يجد المتعلم فرصة عمل بعد تحقق علمه). إضافة إلى القيود التي تمارسها المؤسسات التعليمية على طالب العلم. كل هذا جعل كتب التنمية البشرية وتحفيز الذات تروج بضاعتها جدا في مجتمعنا العربي. ونشاط الترجمة الممارس على هذا النوع من الكتب يكاد لا يترك كتابا جديدا إلا ويترجمه,في ظل غياب مساحات شاسعة من المستجدات العلمية في الحقول الأخرى غير التنمية البشرية. وابتلعت التنمية باقي العلوم الأخرى,فهي تدعي أنها قادرة على جعلك غنيا,وشهيرا,ومحبوبا. أي الإدارة الفعّالة في الشؤون الاقتصادية أو الاجتماعية أو العائلية. وقد تجعلك أكثر ذكاءا,وتزيد من وسامتك,وثقتك في نفسك,وتنتقي المرأة المناسبة,وتخلصك من جميع أعدائك أو تجعلك قادر على السيطرة على الجميع (من خلال وسائل الإقناع أو الخداع). ربما تعلمك السحر أيضا,أو تطيل من عمرك قليلا عما هو مكتوب لك.

ومع ذلك,السحر في العادة قائم على خداع البصر وخفة اليد,أي أنه لعبة تستند إلى بعض الحقائق النفسية والفيزيائية. نفس الأمر في كتب التنمية,هي تخلط الزيف بالحقائق. وفي كتابه الماجريات,يقدم لك حقيقة (حقيقية) عن مفهوم صكه هو حديث باسم (الماجريات).

أكثرنا الكلام عن اقتصاد الذات,القائم بشكل أساسي على المورد البشري الذي تشكله أنت والمشتمل على ما أنت قادر على بذله من جهد أو وقت أو مال. ولهذا أنا مهتم كثيرا بالكتب العملية القادرة على تناول أي من الجوانب الاقتصادية العمومية على صعيد أكثر شخصية ومن ناحية إسلامية. وأهم مسألتين في ذلك هما تحصيل العلم وإدارة الوقت. الأخير يأتي مكملا وخادما للأول حسب وجهة النظر المطروحة في أول الكتاب,والتي أتفق معها كثيرا بالطبع. لأننا يلزمنا تحصيل العلم,إذن علينا أن نعرف ما يجب معرفته وما يجب تجاهله. هنا تقتصر إدارة الوقت على حذف المواضيع التي تستنزف الوقت بلا فائدة من قائمة انشغالات القارئ,وفي هذا لب الفائدة من وراء قراءة الكتاب. تلك المواضيع هي ما أسماه الكاتب بـ (الماجريات) نقلا عن نص لابن تيمية. والماجريات اشتاق من العبارة (ما جرى) مثلما الماهية تؤخذ عن العبارة (ما هو). وليس كل ما يجري في المحيط مفيد. ولهذا تستخدم الكلمة من قبل الكاتب لوصف لغو الكلام ولهو الكلام,أو هي المواضيع التي لا تؤخر ولا تقدم,وتشمل كل ما لا يأثم القارئ بتركه على حد تعبيره. وهو هنا يناقش مشكلة جوهرية في المجتمع,وتخص الفرد بقدر ما تخص الآخرين. وهي الاستغراق في الماجريات,التي قسمها الكاتب إلى نوعين سائدين؛الماجريات الشبكية والماجريات السياسية. فمحتوى الكتاب يتوزع على ثلاثة فصول

1-موقع الماجريات
"كلمة الماجريات تعني الأحداث والوقائع والأخبار،وهي في أصل بنائها اللغوي تم توليدها بأسلوب التركيب المزجي،فأصلها من كلمتين وهما (ما) الموصولية بمعنى الذي،و(جرى) بمعنى وقع وحدث،فلما اتسع استخدامهم لها وكثر ترددها على لسانهم جمعت الكلمتان في كلمة واحدة،وعوملت كمفردة واحدة (ماجرى)،ثم أدخلت عليها اللواصق كألف التعريف (الماجرى) وجمعت جمع المؤنث السالم (الماجريات)،وهي من جنس كلمة الماصدقات والماورائيات والمابعد ونحوها" (ص 38).

2-الماجريات الشبكية
مقدمة الكتاب,وخاتمته التي يعرض فيه بعض الحلول,وأقيمهم حل هو مقترح ومفهوم (الغيرة على الوقت) وضرورة توليد هذا الإحساس في نفس طالب العلم. والفصل الأول والثاني المركز فيه على تفاقم أزمة الهوس بالشبكات الاجتماعية على الفضاء الافتراضي. هذا هو ما يشكل كتابا في الموضوع المعلن عنه بعنوان الكتاب. أما الماجريات السياسية, وهو نص شكل ثلثي الكتاب,فلا ينشغل به إلا عالم يطلب المزيد من العلم. وهي أقرب إلى نوع من الخروج عن النص,وفيه مجريات لم تكن ضرورية. ولذلك وصف أحد القراء الكتاب بأنه (دراسة انفعالية وليس دراسة تأصيلية) ويحتاج إلى المزيد من المنتجات الثقافية التراكمية حتى نخرج بنتيجة مرجوة.

3-الماجريات السياسية
وفيه مشكلة الكتاب الرئيسية,لأن الكتاب كتابين؛أحدهما عن نقد الماجريات والحث على ضرورة عدم الانشغال بها,والآخر كتاب من نوعية الماجريات التي ينتقدها الكاتب نفسه. إن أي محتوى علمي في العادة (وخاصة في العلوم الاجتماعية والإنسانية) مقدم من مناهج ونتائج,أو مقدمات ومقاربات,أو منطلقات فكرية ثم طرح نقدي فنماذج يتم تناولها أو حلول يقترحها.

ولم يقدم الشيخ السكران أي حل لطالب العلم,وما يقدم من نماذج لا يطلبه إلا شخص لا حاجة له إلى قراءة الكتاب. فهي شخصيات متفانية في التحصيل فكري والتأصيل علمي ولكن طلب العلم لا يستدعي كل هذا. أن تكون عالما بمادة الموضوع الذي تريد دراسته,لا يقتضي بالضرورة أن تكون علّامة فيه. وإن كانت نماذج طيبة يمكن للطالب الطموح معاينتها في معزل عن الموضوع الأصلي. أي في كتاب آخر قد يحمل عنوان الماجريات السياسية. والدليل على ذلك أن شهرة الكتاب والكاتب يرجع فضلها بشكل كبير إلى الفصل الأول والثاني ويمكن الاكتفاء بقراءتهما دون الحاجة للاطلاع على الفصل الثالث. فخلاصته أنه يقدم خمسة نماذج لطلبة العلم وهم مفكرين كبار لهم إسهاماتهم العملية المشهود بها,وتعاملهم مع المجريات السياسية من حولهم. وأطال بلا طائل عن بعض تفاصيل حياتهم وانشغالاتهم السياسية ناقدا أو مؤيدا. وصل به الحد إلى درجة الملل والنفور من إكمال قراءة الكتاب.

الفلاسفة المذكورين هم وحلولهم المقترحة للتعامل مع الماجريات

1-الشيخ البشير الإبراهيمي
كان ينادي بضرورة (إعادة تعريف) عن طريق التفريق بين اللباب والقشور. الأولى هي القضايا المهمة مثل بناء الأمة. والقشور هي الجدل السياسي الذي يغزي الاختلافات المذهبية أو الحزبية بين الجهات الممثلة للسياسة في البلد. أي أن القشور عنده من الماجريات.

2-مالك بني نبي
يحدد نوعا معينا من الماجريات السياسية يجب على الطالب العلم عدم الانشغال به,وهو (الدروشة السياسية) التي لا تخرج عن كونها إعادة تعريف لمفهوم (قشور السياسة) الذي قدمه الإبراهيمي. ولكنه ركز أكثر على بناء الدولة بالتركيز على تحسين الأفراد,وليس المؤسسات.

3-أبو الحسن الندوي
دعا إلى ضرورة عدم حصر الدين الإسلامي في الماجريات السياسية,فالإسلام مشتمل أيضا على الشؤون الحياتية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

4-عبد الوهاب المسيري
ينادي بـ (العزلة النسبية) أو (الانفصال المؤقت) عن الواقع السياسي,وهي مفاهيم استحدثها هو,ويدعو إلى ضرورة عدم الانشغال بالماجريات مقابل تركيز طالب العلم على طلب العلم. خاصة وأن معايشة الواقع وكثرة الاحتكاك به تولد الألفة به وعدم الرغبة في تغييره. رافعا شعار (أنا أفكر .. إذن أنا غير موجود).

5-فريد الأنصاري
يقدم نموذج التضخم السياسي أو الفجور السياسي كشكل فج من الماجريات السياسة.

هؤلاء الخمسة يرى المؤلف أنهم أنموذج للتوازن بين الانقطاع للإنتاج العلمي والإصلاح المجتمعي وبين متابعة المستجدات والماجريات السياسية الضرورية لمثل هذا الإصلاح. وقد قدم بحوثا قيمة في ترجمة سيرة كل عالم ومنجزه الفكري عبر اختزال هذا المنجز في نموذج يعبر عن الذات المنتجة. ثم تناول مقاربته البحثية حول كل عالم من خلال تحليل النموذج من الخارج (محيط النموذج),ثم تحليله من الداخل (مكونات النموذج). مع ذلك,يعد هذا البحث المعنون بـ (الماجريات السياسية) تداخل بين ظاهرة عامة,والظاهرة الخاصة التي يقدمها الكاتب في مراجعته أو قراءته لها بما لم يستوفيها حقها. وننتظر المزيد من هذا الكاتب القيم.

قراءات مشابهة
أنصح بقراءة بقية أعمال إبراهيم لأنها تشكل معا مشروع فكري طموح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى