رايفين فرجاني - مراجعة: خوارق اللاشعور / علي الوردي

تعد العلوم الاجتماعية (أو العلوم الإنسانية لاقترانها بالإنسان) أكثر المعارف البشرية حركية (ديناميكية) ولا ثباتا في رواسخها (فلا ثوابت ولا شيء راسخ تقريبا). على عكس بقية العلوم الأخرى التي تنزع إلى ثوابت وصك قوانين تسير عليها في أغلب الأحوال إن لم يكن فيها جميعا (إلا لو جد جديد ويلزمنا في هذه الحالة عبقري يفكك أو يهدم الثوابت بين حين وآخر). ومع ذلك,يعد الإنسان كائن متكرر,إضافة إلى كونه منتجا,فيترك أنماطا متكررة شائعة تنمو في ظل الأنساق الثقافة السائدة,والتي ينتجها هو من خلال العلاقات الاجتماعية القائمة بين البشر. وعبر تاريخ طويل من وجود البشر وتفاعلهم مع بعض على سطح الأرض,كانت علوم النفس والاجتماع والتاريخ هي الأجدر بقراءة هذه الأنماط والمساهمة في فهمها,وتطويرها,والتحكم بها. وربما حتى في تحديد قوالب جاهزة للنمط البشري السلوكي. فالسلوك هو نشاط كلي (متكرر) وغائي (أي يمكن فهمه من خلال فهم مراد الفاعل من فعله حتى وإن كان فعلا لاشعوريا) ومتكيف (متأثر بالظروف المحيطة به يحاول أن يتعايش معها).

ولفترة طويلة جدا من تاريخ البشرية كانت تجري متابعة هذه التكرارات باعتبار السلوك ناجم عن الأفكار,والأفكار تتولد من السلوك,ويمكن أن ندخل نوع فريد من الأفكار وسطا بين الأفكار والسلوكيات وعاملا ثالثا مؤثرا,وهو الانفعالات. لتجري المعادلة على ثلاثية تبادلية كالآتي

-الانفعالات تؤثر في السلوكيات التي تؤثر بدورها في الأفكار

-الأفكار تؤثر في الانفعالات التي تؤثر بدورها في السلوكيات

-السلوكيات تؤثر في الأفكار التي تؤثر بدورها في الانفعالات

وفي حالات معينة يمكن قلب السهم عكسيا.

ورغم ما تحريناه من تبسط,إلا أن المسألة أكثر تعقيدا من ذلك. والعقل البشري كان ينظر إلى النتيجة مباشرة وهذا خطأ كبير (قبل أن يهمل النتيجة نهائيا في عصر الحداثة وهذا خطأ أكبر) لذا تجده يحلل كل الأفعال في سياق العقل,وقانون السبب والنتيجة عبر وسيطه الأكثر مباشرة. لم يكن هناك في تلك العصور القاسية والمظلمة (مثل التي غطت أوروبا بالقرون الوسطى) مجالا لما يُعرف اليوم بالصدمة النفسية بوصفها خلخلة في التوازن العقلي الطبيعي. لا.. كان كل ما يخرج عن العقل,ينسب إلى اللاعقل,ولا ينظر أبدا إلى اللاعقلانية, باعتبارها منظومة عقلانية بشكل أو بآخر. ولهذا عجت السجون والمستشفيات بالكثير جدا من المجانين قضت على حياتهم ولو كانوا في عصرنا لربما صاروا رجالا ناجحين جدا. أو حتى عباقرة. ودراسة العقل وفق منظومة اللاعقل كانت المساهمة الفاعلة التي أضافها علماء اجتماع ونفسانيون بارزون أمثال ميشيل فوكو وسيجموند فرويد و چوزيف بانكس راين Joseph Banks Rhine,الأخير لم يحظى بعد بالتقدير الذي حظيا به زميلاه في العلم بعد كفاح مرير,وذلك راجع للسياسات المؤساستية وراء الجامعات والمنظمات التي تتبنى منظومة العلم الزائف لأغراض ربحية. والطريف أن علماء المسلمين لهم الأسبقية في هذه المنظومة (مثلما كانت لهم المساهمة الأولى في عدم تهميش العمي مما كان يجري بأوروبا آنذاك) مما يشير في بعض الأحيان,إلى أسبقيتهم أولا,وإلى مفهوم الحضارات الدائرية شبه المغلقة في الأمم العظيمة,والتي تتوصل تقريبا إلى جميع ما وصلت إليه الحضارات التالية عدا بعض الثغرات التي تدخل منها أمما أخرى (وهو ما حدث في القرن العشرين).

من خلال قراءة الكثير من التحليلات التي وضعها علماء واجتماعيون كبار في إطار اللاعقل والمدعومة أبحاثهم بالكثير من التجارب التي تضاجع أفكارنا القديمة ومسلماتنا شبه الأكيدة يمكننا فهم وتحليل مجموعة من الظواهر (النفسانية / الروحانية) الغريبة التي لم يمسك العلم بعد بطرف الخيط الأكيد كي يدفع نفسه أكثر نحو التقصي حولها.

من ذلك ظواهر مثل الإيقاع الحيوي حيث يؤمن بعض الغربيون أن هناك أشخاصا خُلقوا ليقعوا في المتاعب التي تسببها حماقاتهم أو عبقرياتهم فالإيقاع الحيوي يكون إما في القمة أو في الحضيض. ومن ضوء فهمنا لهذه الظاهرة يمكننا فهم ظاهرة أخرى لها علاقة معها هي ظاهرة الإشعاع السايكوفيزيائي التي تفسر تلك العدوى النفسية التي تحدث في حالات الحماسة والكآبة والضحك والخوف,وتنتشر بين الجموع. وكلتاهما مرتبطان بظواهر ومصطلحات معروفة لدى العوام مثل الحظ والحدس والصدفة والحسد والسحر وما يسميه جون سكالان بالنفايات الذهنية. وهذا لا يتعارض البتة مع الموروث الإسلامي خاصة وأن السحر والحسد والشرور الأخرى مذكورة في القرآن,ثلاثة أنواع تحديدا مذكورة فقط في سورة الفلق. ونستخرج أكثر من تأمل المعوذتين. لكن وضع السحر,يلزم دراسته من وجهة نظر اجتماعية (وهو ما أقوم به بالفعل في دراسة كبيرة لي,لهذا ذكرت بعض الأمثلة التي لم يوردها علي الوردي في كتابه) لأن العلم ينفي وجود السحر (المذكور في القرآن) ولكن السحر -وهذا ما أغفله العلم التقليدي- يستدعي شروطا ضرورية لحدوثه. أحدهما هو شرط التأثير النفسي وهو المؤكد وتؤكده البحوث الحديثة التي تطل علينا يوما بعد يوم. لذا,فمن آمن بالسحر لم يأمن شرّه. والتحذير في القرآن جاء بوجوب الإيمان بتأثير الإيمان نفسه. ولهذا تطمئن القلوب بتلاوة القرآن. وكما ينطق الحديث القدسي "قل لو اجتمعت الإنس والجن على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك الا بشيء قد كتبه الله لك,وقل لو اجتمع الإنس والجن جميعا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك". كذلك الحسد لا يؤثر إلا على محسود يكون قريب من الحاسد (لأن المشاعر السلبية تنتقل إلى الآخر وتضره فيما يعرف بظاهرة الحسد,والتي لم تحظى بعد بأي مسميات علمية). والشرط الثاني هو بعض الضرورات والحالات النفسية محل البحث بعد (مثل نوع من الإنتقال الإشعاعي غير مشع بالضرورة,ولكن النفس تؤثر وتتأثر كما هو معلوم). من فهمنا هذا,على سبيل المثال,يمكن فهم ظاهرة أخرى مثل الديجافو (حدث من قبل) من خلال فهمنا لتيار الزمن. فنحن ربما مررنا بهذه التجربة من قبل,وإن ظاهرة الحنين مع الماضي,هي نوع من الحنين إلى مرّ, لأننا طالما نتذكره فنحن سالمين في الحاضر,يمكن ملاحظة أن بعض الناس يحن إلى أيام كانت صعبة عليه,من أيام ربما هي أقل صعوبة في وقته الحاضر. ولكن ما فات مات. يكمن الخوف الحقيقي فيما هو حاضر,أو فيما هو آت بالمستقبل. (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) سورة الأعراف,الآية 188.

ولكن يحدث الخلط بين مراد القرآن,ومرده العلمي الذي لا يتعارض مع حقائق اليوم,ومع نوع من الخطاب القرآني,مقيد بظرفية تاريخية,ومخلوط بتبعيات نصية لا يؤخذ بها بالضرورة (فمرجعنا الكتاب والسنة) ومؤيد لظواهر غامضة لم يكشفها العلم بعد,مما يولد خطابا موازيا أصبح وقعه أشد على العامة من الفهم الصحيح للنص القرآني.

وهذه للأسف أزمة المجتمع العربي,المنتشر فيه الخرافات كما لم يحدث في أي أمة أخرى بحسب ما يرصد اجتماعيون بارزون مثل هشام شرابي,وهشام غصيب,وعلي الوردي وآخرون. فيقول الأخير ناقلا عن المعري,أن أتباع محمد,إما عقلاء لا دين لهم أو متدينون لا علم لهم - ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهذا هو المشروع الكبير لعلي الوردي العالم العراقي البارز والمتخصص في علم الاجتماع. فهو من علماء الاجتماع العرب السباقين إلى نقل أحدث المعارف العلمية عن الغرب في مجالي علم النفس والاجتماع.

يقول

"إن اعتماد أسلافنا على العقل الواعي وحده أدى بهم إلى مساوئ جمة. فجهلهم بما في اللاشعور من حوافز وكوامن وقيود جعلهم يؤمنون بأن الإنسان قادر على نوال النجاح والفضيلة والحق ... متى أراد وسعى وفكر." (ص 221,222).

تكمن الصعوبة الرئيسية في الكتاب,في كونه محاولة لرصد التكرارات السلوكية الغير ظاهرة بالسلوك الخارجي العياني والمعتاد أو التجريبي,والغير مؤطر أو مقنن علميا,حيث تتجنب جهات البحث العلمي (المعروفة) الخوض في هذه الأمور,مما يتيح لجهات البحث شبه العلمية (المشبوهة) حرية العبث والاستغلال (وهو ما يحدث بالفعل,ولم يذكره الكتاب). ولكن الشرح السابق لا يوفي الكتاب حقه,فالكاتب يفيض ويستفيض في بحثه كأنه لا يريد أن يترك موضع أو مثال ليستشهد به حتى يؤكد مراده من النص السابق لأوانه في هذا العصر قبل ظهور كتب التنمية البشرية البعيدة (في أغلبها) تماما عن أي تطوير للذات أو توجيه للنجاح. لاحظ أن الكتاب نشر لأول مرة عام 1952 قبل ظهور علم النفس الإيجابي على يد مارتن سليجمان عام 1998,ظهر تماما في وقت الاكتشافات السباقة إلى المعالجة السلوكية المعرفية التي يمكن التأكيد أن الوردي ساهم بحكم أسبقيته في تطويرها على الصعيد العربي والغربي (نعم,الغرب يقرؤون للعرب أيضا). وهذا الشقان (علم النفس الإيجابي والمعالجة السلوكية المعرفية) هما النهج الصحيح من أجل تحفيز أو تطوير الذات. وقد استعان علي الوردي في كتابه بفيض من المرجعيات العلمية التي تضفي مصداقية وموضوعية إلى بحثه المهم,ولكن الموضوعية كانت غائبة عنه,كما أن المصادر التي استشهد بها ليست كلها صحيحة بحكم قراءتي لها وعنها في عدد كبير من الكتب قبل الاطلاع على كتاب الوردي. ومجرد المرور عليها يمكن استنتاج أكثر من احتمال طالما وارد فهو صحيح بالضرورة,فهذا هو المنهج السليم في نبذ الخرافات. إضافة إلى أنه لم يقدم سوى تفسيرات بعيدة عن الواقع الموضوعي. على سبيل المثال,يمكن للشخص التنبؤ بنتيجة أوراق اللعب أو حجر النرد والتحكم بهما,ليس بالضرورة لأنه قادر على الاطلاع على المستقبل أو قراءة الأفكار,ولكن لأنه قادر على تحفيز لاوعيه,وبالتالي شحذ حواسه,للانتباه إلى صغائر التفاصيل والوصول منها إلى نتيجة حتى دون أي جهد أو قصد منه. مثل الذي يمسك كرة كادت تصطدم برأسه قبل أن يعي حتى أنه فعل ذلك.

كما أن الكتاب (وكل ما قلته بالأعلى) لا يجب أن يعد تأكيدا على حقيقة موضوعية بقدر ما هي دعوة لتوسيع آفاق النهج العلمي.

قراءات مشابهة

-الإنسان المقهور / مصطفى حجازي

-الإنسان المهدور / مصطفى حجازي

-العلاج المعرفي السلوكي / مايكل نينا

-سيكولوجية الجماهير / جوستاف لوبون

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى