د. نادية هناوي - ألف ليلة وليلة من منظور العلّامة محسن مهديّ 2-2

2-2

وعلى الرغم من أهمية ما فعله محسن مهدي وفضله في ولوج باب مهم غفلت عنه العصور الأدبية، فإنه لا ينجو من تساؤلات أو حتى اعتراضات كما هو حال المشروع الرائد للمفكر العظيم طه حسين.

* أولى الاعتراضات تبدأ من العنوان الذي عَبَرَ الأزمان، وأتى بهذا الشكل( ألف ليلة وليلة) فلماذا أُطلق عليها هذا العنوان إن لم تكن الحكايات بهذا العدد ؟!. لعل الاحتمال الأول في معالجة هذا الاعتراض أنها كانت بهذا العدد الذي دلَّ عليه العنوان، لكن صروف التاريخ عبر مراحله ذهبت بثلثيها وأبقت على ثلث منها. وثاني الاحتمالات أن العنوان يدل على عدد الليالي وليس عدد الحكايات فقد يكون أي عدد أقل من الألف استغرقت روايته من قبل شهرزاد ألف ليلة وليلة أي قد تكون الحكاية الواحدة لم تنته منها بليلة واحدة أو ليلتين أو ثلاث وإلا لماذا لم يستخدم بالعنوان للدلالة على الحكايات لا على الليالي فيكون مثلا ألف حكاية وحكاية . الاحتمال الثالث أن العنوان يدل على الحكايات الرئيسة والفرعية داخلها معا، فتكون بعدد أكثر من العدد الذي صفا لدى محسن مهدي. والاحتمال الرابع أن استعمال العنوان كان من باب المبالغة للتدليل على الكثرة كما نقول: سنفتح ألف باب وباب أو سنواجه ألف مشكلة ومشكلة..الخ.

* من التساؤلات التي وجهت للدكتور محسن مهدي تساؤل أستاذة التراث الشعبي الدكتورة نبيلة إبراهيم: ما الذي يجنيه القارئ العادي من وراء التنقيب عن حقيقة كتاب( ألف ليلة وليلة) وهو الذي يريد أن يقرأ سرداً يستمتع به، فلا يهمه إن أضيفت إلى هذه الحكاية بضعة أسطر هنا أو أزيلت عدد أبيات من الشعر هناك أو استبدلت بغيرها ؟ وما الفرق بين أن يقرأ عبارة( رأيت عفريتا طويل القامة) أو يقرأها في طبعة أخرى( رأيت جنيا رجلاه في التراب ورأسه في السحاب)؟ ونضيف تساؤلاً ملحاً آخر هو كيف نشذب كتاباً من الزيادات ونعرف نقصانه وهو الذي وصل من مصادر غير رسمية أي لا صلة لها بمراكز الثقافة وسلطاتها ؟. ومن ثم يكون طبيعيا أمر الإضافة أو التعديل كفعل من أفعال النقل الشفاهي للذاكرة الشعبية وما تراكم من المخيال السردي العربي عبر الاجيال. ومعلوم أن السرد فن ليلي وهو على الدوام يصادي الثقافة الرسمية وينقد مراكزها وأقطابها الممثلة بالساسة والحكام ولذلك لم يدوّن في أكثره.

* أن لغة هذا الكتاب على اختلاف ما فيه من نصوص تكشف عن تطور مسار اللغة العربية عبر العصور وتعطينا صورة للتطور اللهجي للكلام الفصيح والعامي وكان نساخه ينتمون إلى طبقات وعصور شاع فيها الكلام غير المعرب وكان اللحن عاما في الكلام الأدبي وغير الأدبي حتى أن الشاعر الأندلسي ابن قزمان قال يفتخر أنه لا يتقيد بالإعراب:( جرّدته من الإعراب كتجريد السيف من القراب) فكيف نهمل مثل هذه الرواسب اللهجية وتطورها الذي تكشف عنه النسخ الشامية والمصرية، وهذه الاخيرة يكثر فيها تبديل حروف الكلمة فالزواج جواز والقلندري قرندلي والزعجة جعزة وهكذا !!.

* البناء السردي للحكايات متنوع السّراد، فهناك السارد العلام والسارد العليم والسارد المشارك والسارد الممسرح فضلا عن ظهور صوت المؤلف في بنية التقديم للكتاب، يتلوه صوت السارد العلام الذي أدى على مستوى القصة الإطارية دور العليم وهي يسرد بواقعية قصة الأخوين اللذين خانتاهما زوجتاهما وخلصا إلى الشك في كل النساء وراح الأخ الأكبر شهريار يفرغ جام غضبه على عرائسه في كل ليلة ليقتلهن قبل الصباح، أما انتقاما من جنس النساء قاطبة أو خشية أن يبقي عروسه وتخونه فيبادر إلى قتلها مستبقا بذلك العقاب على الخيانة المحتملة كما هو الحال في وأد البنات في الجاهلية استباقا لدرء عار متوقع. وهنا تتطوع شهرزاد لترويض النمر. فتكون شهرزاد في القصة الاطارية شخصية مسرودة ستتولى دور البطولة في القصة الضمنية، وفيها سيؤدي السارد العلام دور السارد كلي العلم بصوته الذي يظهر عند نهاية كل حكاية مسكتا شهرزاد بالقول:( وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح) مسيطرا بذلك على البناء الضمني والاطاري معا. وتؤدي شهرزاد على مستوى البناء النصي الداخلي للحكايات الضمنية دورين سرديين: الأول/ دورها كحكاء ظاهر مهمتها النقل فقط وكأن لا علاقة لها بما تنقله من أحداث( بلغني أيها الملك السعيد..) فهي تنقل عن سارد عليم يقدم أحداثا متخيلة فيها أساطير وخوارق ونوادر، والثاني/ دورها كساردة عليمة بيدها السدى واللحمة تنسجهما كيف تشاء، صانعة شخصيات الليالي وراسمة لها أدوارها بينما شهريار مجرد مستمع مأخوذ بسردها. وبهذين الدورين السرديين الضمنيين تمكّنت شهرزاد من تمويه فاعلية المهمة البطولية التي تطوعت لتأديتها، فتخلصت بذلك من أية شبهة يمكن أن تودي بها إلى التهلكة مع أن أمرها ما يزال بيد السارد العلام المتواري وراء كل حكاية من حكاياتها. وبهذا صارت الحكايات عابرة من ألف ليلة الى ليلة واحدة وبمعجم خاص فيه كما يقول غالان( الحقيقة تفوق الخيال) وقد تم مؤخرا جمع هذا المعجم في كتاب كبير من 928 صفحة وفيه أكد المؤلف مالك شبل أن الحكايات ليست من اختصاص الشرق كونها تتحدث إلى البشرية جمعاء.

* أن بناء حكايات كتاب( ألف ليلة وليلة) بطريقة التضمين والتأطير سمح للحكائين بالتوسع والزيادة عبر الأزمان. وكلما زاد عدد حكايات الكتاب، دل ذلك أكثر على بطولة شهرزاد التي ابتغت من وراء السرد هدفا إنسانيا، واستعملت في سبيله ثلاث حيل: الأولى/ التهديد : إذ هددت أباها في القصة الإطارية إن لم يعطها للملك فستذهب إليه وتخبره أن أباها يريد أن يعطيها لمن هو أحسن من الملك، والحيلة الثانية/ البكاء الذي به خدعت الملك وجعلت أختها الصغيرة دنيازاد حلقة وصل تربط بين حكاياتها الضمنية محفزة إياها على ممارسة دور بطولي أيضا. ولقنتها عبارة ستكررها عند بدء كل حكاية( قولي لي يا أختاه إن كنت غير نايمة فحديثيني حدوته فما أنا أحدثكم فهي سبب نجاتي وخلاص هذه الأمة واخرج الملك عن سنته فبكت قال لها ما أبكاك؟ قالت: لي أختي أريد ان أودعها فأرسل لك خلف اختها فحضرت ونامت تحت السرير. خديثني بحدوته من أحاديثك الحسان نقطع بها ليلة ونودع قبل الصباح فما أدرى ما يتم لك غدا قالت لها احدثها قال نعم ففرحت وقالت اسمعي ) والحيلة الثالثة/ النعاس الذي به يكون التكرار أسلوبا من أساليب استمرار السرد الذي به نجاتها ومن هنا جاء تكرار المفتتح ( بلغني أيها الملك السعيد صاحب الراي الرشيد) وتكرار المختتم ( وادرك شهرزاد الصباح فسكتت عن .. )

* أن أغلب حكايات ألف ليلة وليلة ــ الأصلية منها والمنحولة على رأي محسن مهدي ــ هي ذات مضمون نقدي ساخر ومتصاد مع السلطة الذكورية المتمثلة بعلية القوم. فكان السلطان والملك والحاكم فواعل مهمة في اغلب الحكايات. وما ابتداء الكتاب بتأكيد وقت السرد وهو (الليل ) سوى دليل على رغبة السارد في كشف أسرار الملوك وأسباب ما هم عليه من البطش والطغيان. إذ أن ليلية السرد لا تعني التسلية حسب بل هي ايضا في جزء كبير منها تعبير عما يخافه الإنسان أو ينأى عنه. والسلطان واحد من تلك الأمور التي يخشاها الانسان في النهار ولكنه يعبر عن سخريته منها ومواجهته لها بالسرد ليلا، منجزا بالتخييل ما لا يمكن انجازه في الواقع.

* البطولة الأنثوية تجلت على مستوى القصة الإطارية بشخصيات نسوية( ملكة القصر /شهرزاد / دنيازاد) وتحالف الأخيرتين ضد الملك على مستوى القصة الضمنية التي فيها العنصر المؤنث هو المهيمن في أغلب الحكايات كردة فعل على تعسف الذكورية ودرء خطرها. ومن ثم يغدو اختزال الحكايات إلى 300 حكاية وترك الأخريات تقليلا من فاعلية المرأة/ شهرزاد التي تطوعت للتضحية بنفسها في سبيل بنات جنسها من بطش المتجبرين وهي التي كررت على أختها القول( ان عشت وأبقاني هذا الملك) مما يدفع شبهة اقتباس الحكايات من الثقافة اليونانية التي ذهب بعض المستشرقين الى القول بها من قبيل أن رحلة سندباد متأثرة برحلة ادويسيوس بينما لا يقولون إن رحلة ادويسيوس متأثرة برحلة جلجامش.

إجمالا نقول إن كتاب ( ألف ليلة وليلة) مدونة تراثية نادرة في تأكيد قدرة التابع على الغلبة وقلب موازين القوى. وهو ما استطاعت شهرزاد تأديته ساردة ومسرودة معا، فقهرت الجبروت الذكوري بوسيلة غير متوقعة هي الفتنة بالسرد التي هي أقوى سلطة من كل السلطات المتغطرسة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى