المصطفى اجماهري - "أفواه واسعة" وتأملات مقلقة

لم يكن محمد زفزاف مجرد قاص أو روائي بل أكثر من ذلك كان فيلسوفا ينطلق من موقف في الحياة وفي الكون. ويمكن للدارس أن يلحظ بسهولة أن هنالك متوالية فكرية ووجودية تتردد في أعماله وتعبر عنها شخوصه. بمعنى آخر كانت أعمال زفزاف سواء في القصة أو الرواية أو المقالة أو في مقابلاته تصدر عن مشروع فكري وجمالي.
وينبغي التنويه بأن نجيب العوفي في كتابه "درجة الوعي في الكتابة" كان من أوائل النقاد الذين كشفوا عن كون زفزاف لا ينطلق من نزوة عابرة بل من مشروع أدبي راسخ متحديا كل الصعاب، مجالدا الشروط والظروف القاحلة من أجل المساهمة في تأسيس وترسيخ إبداع حقيقي وتقدمي.
وإذن فإنه يجوز الحديث عن فلسفة زفزافية كان الراحل لا يني يبثها في كتبه وفي تصريحاته ولقاءاته. ففي حوار مع مجلة "الأقلام العراقية" يعود إلى شهر مارس من سنة 1984 أي قبل 17 سنة من وفاته التي حصلت في يوليوز 2001، قال الراحل لمحاوره : "لست ملاكا ولست سكيرا ولا بوهيميا. أحب العزلة كثيرا والابتعاد عن الناس والتأمل في مسار الكون والذات الإلهية، وفوق هذا أتفرج على ما يجري في هذا العالم من اقتتال ووحشية وجشع بشري يدل على حقارة ودناءة الإنسان. وأقول مع نفسي إنه لا يزال أمام البشرية شأو بعيد لكي تتخلص من حماقاتها".
لقد كان الراحل مثله مثل كل كاتب أصيل يشعر بالقلق إزاء ما يجري حواليه سواء في محيطه القريب كما البعيد ويتألم للسلوكيات البشرية التي لم تتخلص بعد من شذوذها واعوجاجها. والسؤال : ترى ماذا كان سيكون موقف زفزاف لو كتب له العيش حتى الآن وتابع ما يجري من اقتتال ووحشية يعصفان اليوم ببلدان عربية كثيرة من العراق إلى ليبيا مرورا بسوريا وفلسطين واليمن وغيرها ؟ بأي منطق يمكن للمرحوم أن يصف مشاهد التشرد والدمار في المنطقة العربية ؟ ألا يدفع ما يجري في الحياة الراهنة بالكاتب أي كاتب إلى التساؤل عن غياب المنطق في تصرفات الإنسان وسلوكياته ؟
إن اهتمام زفزاف بما كان يجري في العالم لم يكن ليتعارض مع خصوصيته المحلية. كما أن ارتباط محمد زفزاف بمجتمعه هو ما جعله يركز في إبداعاته على إفرازات التخلف الاقتصادي والعلمي والاجتماعي والمتجلية في علاقات الاستغلال ومظاهر الفساد والمؤامرات الصغيرة والتهافت على الثروة بأي وسيلة. ومن هنا يمكن أن نفسر ذلك الإحساس بعدم الراحة والقلق الذي سيشعر به القارئ عندما ينتهي من قراءة عمل من أعمال المرحوم. وأعتقد جازما أن روايته "أفواه واسعة" التي نشرها قبل أقل من ثلاث سنوات على وفاته هي من الروايات التي تعبر تعبيرا قويا عن منطق اللامعقول الذي يسترعي انتباه القارئ وقد يشغل باله.
وتنبغي الإشارة إلى أن رواية "أفواه واسعة" نشرها زفزاف في ماي 1998 ولكنه كتبها قبل ذلك بسنوات ونحن نعلم بأن المرحوم لم يكن يتعجل النشر بل كان يترك أعماله بعض الوقت حتى يستمر في التفكير فيها وربما العودة إلى مراجعتها وتنقيحها إن اقتضى الحال. لكن ما جعله يقوم بنشرها آنذاك هو إلحاح صديقه ميلودي الحمدوشي الذي صححها وأشرف على إخراجها إلى الوجود. وهي فعلا رواية من الروايات التي يطرح فيها محمد زفزاف بقوة ووضوح معا، من خلال شخصياتها، منطق العبثية واللامعقول في الحياة والعلاقات. وحتى على اعتبار أن السارد ليس حتما هو الكاتب، والعكس صحيح، إلا أن الكاتب، كما هو معلوم، سيعبر من خلال شخوصه، عن خوالجه وأفكاره ودواعي قلقه أي باختصار عن فلسفته.
إن هذه الرواية التي كتبها زفزاف، في نهاية حياته تقريبا، تستوقفنا بدءا من عتبة العنوان. وبصدده يقول الراحل (في حوار مع يومية الصباح بتاريخ 10 أبريل 2000) "إنه يتعلق بأفواه ينبغي أن تغلق لأنها تحدثت كثيرا وما زالت تتحدث بدون فائدة من رجال الدين ورجال السياسة وغيرهم دون أن تساهم في تغيير الشعب".
في هذه الرواية القصيرة مسألتان مركزيتان شغلتا الكاتب وهما مسألة "الكتابة" ومسألة "الموت". كان الراحل ربما قد حدس بوعيه الحاد أنه اقترب من أوان الرحيل فأطلق العنان لتساؤلات عميقة ورد بعضها في الصفحة 70 حيث يقول : "كيف أقول لوالدتي بأن الأرواح لا تموت وأنها خالدة وأنها من روح الذي لا يموت". ويضيف : "إن الله سبحانه لا يمكنه أن يعذب غدا يوم القيامة كائنات لم تختر أن تكون".
وفي موقف آخر من النص يقف السارد طويلا عند أصل المعقول واللامعقول خاصة حينما ينزعج من وضعيته مع العطالة والمرض وشح الأصدقاء. وقد ورد في الصفحة 53 مقطع دال على تلك الحيرة جاء فيه : "فأنت تستطيع أن تعاشر الإنسان دهرا ولا تعرف ما يدور برأسه. حتى أنك عندما تفاجأ بتصرف من طرفه لم يخطر لك على بال، تقف على حافة الجنون. وتقول في نفسك أو لغيرك : هل هذا معقول؟ وفي الحقيقة، إنه معقول، لأن أصل المعقول هو اللامعقول. وعلى سبيل المثال، هل من المعقول أن أوجد في حياة لا أرغب في أن أوجد فيها ؟ هل من المعقول أن أعيش فقيرا ومظلوما ومريضا ومتألما، وأجد نفسي داخل زنزانة أو مجنونا؟ إن المعقول أن أبقى هناك. وما دمت وجدت في هذه الدنيا، فما يسمى لامعقولا يصبح هو المعقول."
بل إن محمد زفزاف يدفع بمنطق اللامعقول بعيدا حينما يوجه سخرية لاذعة لردود فعل الإنسان المتشنجة تجاه بعض الحشرات الصغيرة. وهكذا يخصص حوالي أربع صفحات للحديث عن ولوج الصراصير إلى البيت أو إلى إمكانية ولوجها إلى مطعم رفيع مع ما يثيره ذلك من تقزز لدى الناظرين، حتى أنه يدخل في حوار مفترض مع هذه الحشرة ويجعلها تحاججه بالمنطق وضده، فيقول مثلا في الصفحة 7 : "ولو كان الصرصار يتكلم لقال لي قبل لحظة : لماذا دستني ؟ هل أنا أفعى أم عقرب ؟ أنا لا ألدغ. وآنذاك كنت سأقول له معك حق. أنا أعتذر. إلا أن منظرك قبيح. وكان سيقول لي : انظر إلى الشارع، كم من الوجوه القبيحة والشريرة ترى كل يوم فلم لا تسحقها، وكنت سأقول له : إنني لم أخلقها وخالقها هو الذي سوف يدوسها. ثم إنني في نهاية الأمر لا أحب العنف. أعتذر مرة أخرى عن قتلك. وكان سيقول : إنك عاجز، لم تستطع أن تقتل سوى صرصار بئيس. وبما أنه لا يتكلم فلم يستطع أن يقول هذا الكلام".
إن رواية "أفواه واسعة" نص صغير في حجمه لكنه مثقل بالدلالات والتساؤلات المؤرقة في موضوعتي الحياة والموت، تساؤلات تكتفي بنفسها ما دامت الإجابة عليها مستحيلة. من ثمة لا تدعي هذه القراءة السريعة إماطة اللثام عن إشكالية تحتاج إلى دراسة متأنية بل تتوخى فقط لفت الانتباه لها. وسواء أفي هذا العمل أو في مجموع أعماله الأخرى فقد ربح محمد زفزاف رهان الكتابة مما بوأه مكانة مرموقة في المشهد العربي بل العالمي، وأتساءل في سياق هذا المحور : هل من المعقول ألا يستحق محمد زفزاف جائزة نوبل للآداب وهو الذي ربط وشائجه بالكتابة منذ أواسط الستينيات وأسس لإبداع سردي حقيقي لامس فيه شغاف العقل والوجدان.








1679670285352.png


1679670422193.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى