بعد أن شيعنا شيخا كبيرا نجلّه ونحترمه، ورششنا الماء على تراب قبره، كنتُ أفكر بشكل القلادة التي سأهديها لمَنْ كنتُ طيلةَ الطريق أتأمل صورتها، لم تكن تعرف أنها جميلة، لكنها تنافس ملائكة الجمال ببهائها، وحين توقفت السيارة إيابا، نزلتُ ومشاعري مختلطة بين حزنٍ على فقيدٍ ونشوةِ حبٍّ تتقد بداخلي مثل جمر في شتاء بارد، لذلك لم أكن أشارك أصدقائي بأحاديثهم على الرغم من محاولاتهم الحثيثة من إشراكي، ظنوا أني متأثر برحيل الشيخ، لكنني أنا نفسي لم أستطع تمييز حقيقة مشاعري!
قررتُ أن اتجه إلى الصائغ الذي أعرفه منذ زمن بعيد، وحين وصلتُ إليه كان الليل قد حلّ، بردٌ قارس، لكنني أشعر بدفء، ربما دفء الذكريات أو التوقُ إلى لقاء حميم!
ابتسم الصائغ واستغرب من سؤالي: أريد قلادة نسائية، بمَ تنصحني؟ لم يتوقع أبدا أن أكون رومانسيا يوما ما أو أشتري هدية لفتاة، يعرفني جيدا، لا أبالي لهذه السلوكيات، بل أعدّها تفاهة، الاتفاق والارتباط أو النزوة والوداع، هذا قانوني.
بعد حديث طويل، اقتنيت قلادة تحمل رمزا مقدسا بالنسبة لها ووضعتها في علبة سوداء، لا أدري للآن لماذا سوداء؟! ثم أقفلت عائدا للبيت، ولمّا وصلتُ الباب سمعتُ أصوات أصدقائي المتسكعين دائما في بستان قريب من بيتي، كما يقول أهلنا في أعرافهم: صوتُ الليلِ مسموع.
يممتُ وجهتي نحوهم وأخفيت العلبة في جيب سترتي وجلست أتأمل النار الموقَدة، كنت جالسا بقربهم لكن ذهني مهاجر في سماء الذكريات وخوف النهايات، أقلّب الجمر بعصا قصيرة وتتطاير ذكواتٌ صغيرة مع ذرات الهواء لتخلق فضاءً من النور، كأنهن نجوم السماء، لم أعد أسمع شيئا من أحاديث صحبتي وقهقهاتهم ونكاتهم التافهة، معزول عنهم بغشاء الموعد القادم وصورة الجمال في هاتفي.
أتحسس علبة القلادة بين حين وحين، كأن مفتاح نجاتي في الموعد المرتقب فيها، خيالاتي كلها مشتبكة، صورةٌ للقبر الذي تركته قبل ساعات، وجهُ أجمل فتيات الكون، جذوة النار الحاضنة للذكريات، ليتني عرّافا يتنبأ بالمستقبل، ليتني لم أخض غمار الهوى وأتّبع قلبي المنقاد وراء نزواته!
تفحصت ساعتي، الثانية عشرة ليلا، عدتُ محاولا أن أنام، وحين وضعت رأسي على الوسادة وصلني إيميل أرّقني، أرسلتْ لي عتابا شديد اللهجة، وكشفت أكذوبة بيضاء عني، وتوعدتني بالفراق!
أصبح الصبح بعد ليلة سهر طويلة، قطعت مسافة الطريق أتحسس القلادة في جيبي، وحين التقينا لم أجد في وجهها ما يبعث الأمل كما توقعتُ، قررتُ أن أنهي الشجار المنتَظر قبل أن يبدأ، أريتُها القلادة، لكنها لم تهتم ووضعتها على مصطبة تحت شجرة صفصاف قريبة واستأنفت الشجار!
لم أتمالك نفسي، غضبتُ كالعادة، افترقنا بعد دقائق لتظلّ القلادة وحيدة تحت شجرة الصفصاف كذكرى ميتة، نسيتها، ولم يبق من الموقف المار سوى صراخ وعتاب وشجار، قررتُ، وقررتْ هي أن نفترق نهائيا، يبدو أنها قد أعدت لهذا المشهد كلَّ حواسها، حتى أنها حجزت تذكرة في القطار القريب من الحديقة التي جلسنا بها، فاتجهتْ مباشرة إلى المحطة جالبةً معها أمتعتها وكل آمالها، لم يكن في ذهنها أي نية للعودة أو التسامح.
أنا أيضا أصررتُ على ذلك، لكنني حين عدت للبيت وحلّ الليل، وجدتني وحيدا أوقد الجمر الذي كنت أتأمله ليلة أمس، أراقب ذكوات النار اللامعة وصورة قبر الشيخ تلوح فوق النار، عدت منقسما بين هاجس معرفة النهاية وخطط المستقبل.
تحسست جيبي من جديد فتذكرتُ علبة القلادة، أردتُ أن أعود إلى المكان لأعرفَ ما إذا عادتْ فتاتي لتحتفظ بها كذكرى، أو ظلت ليتلقفها الشحاذون ويبيعوها في سوق المسروقات، لكنني أجّلتُ ذهابي لوقت آخر.
تمر على تلك الذكرى حفنة من السنين، لم أذهب إلى مكان اللقاء وأسأل الصفصاف عن القلادة، ولم ألتقِ بالفتاة الجميلة كي أعلم منها ما حصل للقلادة إنْ أخذتْها من المكان أم لا... بقيَ مصير القلادة كمصير الفتاة في ذاكرتي، مجهولتان لا أدري من التي وجدت طريقها إلى المكان الصحيح، إلا أني، ما زلت أقابل النار الموقَدة أقلب جمرها بعصا قصيرة مع صور الذكريات، لا أدري كيف مرت هذه السنون دون أن تغيب ذكرى القلادة أو الفتاة الجميلة... أو حتى صورة قبر الشيخ الذي _ كما أراه الآن _ مازال تراب قبره رطبا كأنني أسقيه مع ذكرياتي وشجرة الصفصاف.
قررتُ أن اتجه إلى الصائغ الذي أعرفه منذ زمن بعيد، وحين وصلتُ إليه كان الليل قد حلّ، بردٌ قارس، لكنني أشعر بدفء، ربما دفء الذكريات أو التوقُ إلى لقاء حميم!
ابتسم الصائغ واستغرب من سؤالي: أريد قلادة نسائية، بمَ تنصحني؟ لم يتوقع أبدا أن أكون رومانسيا يوما ما أو أشتري هدية لفتاة، يعرفني جيدا، لا أبالي لهذه السلوكيات، بل أعدّها تفاهة، الاتفاق والارتباط أو النزوة والوداع، هذا قانوني.
بعد حديث طويل، اقتنيت قلادة تحمل رمزا مقدسا بالنسبة لها ووضعتها في علبة سوداء، لا أدري للآن لماذا سوداء؟! ثم أقفلت عائدا للبيت، ولمّا وصلتُ الباب سمعتُ أصوات أصدقائي المتسكعين دائما في بستان قريب من بيتي، كما يقول أهلنا في أعرافهم: صوتُ الليلِ مسموع.
يممتُ وجهتي نحوهم وأخفيت العلبة في جيب سترتي وجلست أتأمل النار الموقَدة، كنت جالسا بقربهم لكن ذهني مهاجر في سماء الذكريات وخوف النهايات، أقلّب الجمر بعصا قصيرة وتتطاير ذكواتٌ صغيرة مع ذرات الهواء لتخلق فضاءً من النور، كأنهن نجوم السماء، لم أعد أسمع شيئا من أحاديث صحبتي وقهقهاتهم ونكاتهم التافهة، معزول عنهم بغشاء الموعد القادم وصورة الجمال في هاتفي.
أتحسس علبة القلادة بين حين وحين، كأن مفتاح نجاتي في الموعد المرتقب فيها، خيالاتي كلها مشتبكة، صورةٌ للقبر الذي تركته قبل ساعات، وجهُ أجمل فتيات الكون، جذوة النار الحاضنة للذكريات، ليتني عرّافا يتنبأ بالمستقبل، ليتني لم أخض غمار الهوى وأتّبع قلبي المنقاد وراء نزواته!
تفحصت ساعتي، الثانية عشرة ليلا، عدتُ محاولا أن أنام، وحين وضعت رأسي على الوسادة وصلني إيميل أرّقني، أرسلتْ لي عتابا شديد اللهجة، وكشفت أكذوبة بيضاء عني، وتوعدتني بالفراق!
أصبح الصبح بعد ليلة سهر طويلة، قطعت مسافة الطريق أتحسس القلادة في جيبي، وحين التقينا لم أجد في وجهها ما يبعث الأمل كما توقعتُ، قررتُ أن أنهي الشجار المنتَظر قبل أن يبدأ، أريتُها القلادة، لكنها لم تهتم ووضعتها على مصطبة تحت شجرة صفصاف قريبة واستأنفت الشجار!
لم أتمالك نفسي، غضبتُ كالعادة، افترقنا بعد دقائق لتظلّ القلادة وحيدة تحت شجرة الصفصاف كذكرى ميتة، نسيتها، ولم يبق من الموقف المار سوى صراخ وعتاب وشجار، قررتُ، وقررتْ هي أن نفترق نهائيا، يبدو أنها قد أعدت لهذا المشهد كلَّ حواسها، حتى أنها حجزت تذكرة في القطار القريب من الحديقة التي جلسنا بها، فاتجهتْ مباشرة إلى المحطة جالبةً معها أمتعتها وكل آمالها، لم يكن في ذهنها أي نية للعودة أو التسامح.
أنا أيضا أصررتُ على ذلك، لكنني حين عدت للبيت وحلّ الليل، وجدتني وحيدا أوقد الجمر الذي كنت أتأمله ليلة أمس، أراقب ذكوات النار اللامعة وصورة قبر الشيخ تلوح فوق النار، عدت منقسما بين هاجس معرفة النهاية وخطط المستقبل.
تحسست جيبي من جديد فتذكرتُ علبة القلادة، أردتُ أن أعود إلى المكان لأعرفَ ما إذا عادتْ فتاتي لتحتفظ بها كذكرى، أو ظلت ليتلقفها الشحاذون ويبيعوها في سوق المسروقات، لكنني أجّلتُ ذهابي لوقت آخر.
تمر على تلك الذكرى حفنة من السنين، لم أذهب إلى مكان اللقاء وأسأل الصفصاف عن القلادة، ولم ألتقِ بالفتاة الجميلة كي أعلم منها ما حصل للقلادة إنْ أخذتْها من المكان أم لا... بقيَ مصير القلادة كمصير الفتاة في ذاكرتي، مجهولتان لا أدري من التي وجدت طريقها إلى المكان الصحيح، إلا أني، ما زلت أقابل النار الموقَدة أقلب جمرها بعصا قصيرة مع صور الذكريات، لا أدري كيف مرت هذه السنون دون أن تغيب ذكرى القلادة أو الفتاة الجميلة... أو حتى صورة قبر الشيخ الذي _ كما أراه الآن _ مازال تراب قبره رطبا كأنني أسقيه مع ذكرياتي وشجرة الصفصاف.