لم يعرف أحد أين اختفى سالم الزينوب بعد يوم الأربعاء. آخر مرة عاد فيها من البحر، كان مرفأ بيع السمك أسفل القلعة خالياً من الصيادين، ولم يكن هناك سوى بعض الشبان الذين تطوعوا للقتال. ألقى عليهم التحية فردوا عليه بريبة لم يتمكنوا من إخفائها عنه. كان هناك المزيد منهم مختبئون في ثلاجات التبريد المحمولة على الحجارة والخشب، وكان الماء يقطر من حوافها السفلية بعد ذوبان آخر محتوياتها من الثلج. عندما سمع حركة المقاتلين في إحدى الثلاجات، حاول تبديد ريبة الشبان. "ربنا يعينكم يا شباب، أنا في البحر من ثلاث أيام، إيش الاخبار؟" قال بلهجة عدنية ودودة. "الحوافيش دخلوا واصحاب الرئيس هربوا. خليك مكانك يا حاج، من فين جيت بالضبط وفين رايح؟" رد شاب نحيل يبدو أكثرهم بشاشة، لكن إصبعه مازالت على الزناد. لم تتبدد الريبة، لكن وجه سالم احتقن بانفعال غير مفهوم تماماً، وراح يكيل السباب لـ "الدحابشة". ابتسم رجل أربعيني نزل من باب الثلاجة المتهالكة وسلاحه الكلاشينكوف على كتفه في وضعية غير قتالية. خروجه السريع من الثلاجة بدا كما لو أنه عرف صوت المتحدث الواصل للتو قبل أن يراه. كما بدا أنه من يقود أولئك الشبان.
إذا كان في صوت سالم ما يميزه عن غيره، فهي الجهورية التي تصل ذروتها عندما يتحدث بانفعال، فتصير الكلمات في لسانه قصيرة ومتداخلة الأحرف. طمأن الرجل الذي نزل من الثلاجة جنوده الشباب: "هذا عمكم سالم يا شباب منو ما يعرفوش! عاده يسميهم دحابشة من ايام 94. فين با تروح يا فندم ما بتقدرش تدخل بيتك الآن. الجماعة قدهم يقصفوا من البساتين". قال المقاتل الأربعيني ومازال يبتسم نحو سالم. ساد صمت وجيز وتصاعد دوي القذائف ولعلعلة رشاشات الدوشكا، في الوقت الذي بدأت فيه حرارة الشمس التي أشرقت قبل قليل، بدفع نسيم البحر نحو البرية. كان النسيم البارد مشبعاً برائحة بقايا السمك المتعفن في المرفأ والشادر المسقوف بصفائح التوتياء، بينما الصياد العجوز يمعن في تفرس ملامح الرجل الذي تطوع لإزالة ريبة المقاتلين الشباب. ومن تحت شاربه الكث المصبوغ بالحناء، انبجست ابتسامة ودودة حركت قدميه إلى الأمام ومازالت يده اليمنى متقوسة فوق عينيه كمنقار قبعة التلاميذ. "هذا فريد أبو هوري والا انا غلطان؟" سأل سالم، في حين تلفت الشبان نحو بعضهم البعض قبل أن يلتفتوا إلى قائدهم. "فريد بشحمه ولحمه يا فندم". رد القائد وخطا نحو الصياد وعانقه بحرارة. دخل سالم الثلاجة المستطيلة مع أبي هوري، وهناك كان خمسة مسلحين متربعين فوق أكياس من النايلون لتفادي الماء السائح على أرضية الثلاجة.
منذ سنوات لم ير سالم جنديه القديم فريد أبو هوري، لكن الأخير كان يصادفه بين الحين والآخر في المرفأ نفسه أو في الشادر الملاصق له عندما يأتي لشراء السمك بالتزامن مع إيصال الصياد أسماكه للبائعين أو مروره لاستلام نقوده المؤجلة لديهم. ورغم أنه كان جديداً على مهنة الصيد إلا أنه صار معروفاً في وقت قياسي بين الصيادين والبائعين، وحتى لدى بعض الزبائن الدائمين في المطاعم القريبة من الشادر. كان معروفا باسم الزينوب، وهو اسم سمكته المفضلة للأكل قبل أن يمتهن الصيد، وعندما فعل ذلك، كانت السمكة طويلة الذيل زرقاء الزعانف، هي التي يفضل صيدها على غيرها، وكان يقضي أياماً في البحر في انتظار امتلاء شباكه بها. وفي حين يعود الصيادون إلى الساحل ريثما تمتلئ شباكهم، كان هو يعود إلى إحدى الجزر غير المأهولة. بعض من كانوا يعرفون قصة تحوله لصيد السمك كانوا يسمونه على سبيل التبجيل "العقيد الصياد"، ولم يبد عليه يوما أنه يحفل بما يقولون. صمته المطبق كان قد روض من يتعامل معهم على قصر الكلام في سعر الزينوب والكمية المباعة. لكنه الآن أمام فريد أبو هوري صاحب اللسان الذي لا يتوقف حتى أثناء النوم. وبينما كانت ذاكرة العجوز توغل في زمن الدوريات البحرية، كان أبو هوري يثرثر بنفس الوتيرة التي كان عليها أثناء قيادته المجنونة للزوارق الصاروخية أو قوارب الإنقاذ.
لم يعتد أولئك المقاتلون الشبان من قائدهم الحديث عن ماضيه العسكري، ناهيك عن أن بعضهم لا تتعدى معرفتهم به نصف الشهر، كما أنهم يعرفونه باسم فريد عبدالنبي، ولذلك حملق في وجهه المقاتلون الذين كانوا خارج الثلاجة. هم يعرفون أنه ضابط سابق في الجيش تمت إحالته للتقاعد المبكر بعد حرب العام 1994، ثم فصل من الجيش نهائياً وافتتح كشكاً صغيراً لبيع التمبل. "أنا كنت اشوفك احيان يا فندم لما آجي هنا اشتري سمك، بس ولا مرة تجرأت اكلمك". قال فريد. هز "الصياد العقيد" رأسه ممتناً. بعد مضي ما يقارب ربع الساعة، قال سالم إنه يريد الذهاب إلى منزله للاطمئنان على زوجته، لكن فريد حاول إثناءه عن ذلك مستعرضاً آخر مستجدات المعركة ومنها سيطرة قوات "الحوافيش" على حي البساتين ودار سعد والشيخ عثمان، وتقدمهم السريع باتجاه كريتر.. "القذائف توصل عشوائي ومعاهم قناصة فوق العمارات ما درينا كيف دخلوا! لو معاها تلفون اتصل بها من تلفوني. وبعدين يافندم سالم نشتيك معانا هنا تقود المعركة". قال فريد وأخرج هاتفاً محمولاً من خاصرته. طوح العجوز قليلاً متمعناً بنظرات يغزلها الشرود، وجه الفتى العشريني المهووس بقيادة الزوارق؛ سحنته القمحية، أنفه المقوس المطل على شارب خفيف لم يتغير منذ إحدى وعشرين سنة، الذقن المستدق ذا الغمازة العميقة والشعر الخفيف الذي توقف عن الصعود نحو الخدين. وعلاوة على ذلك، فقد احتفظ هذا الجندي القديم بعينين مشعتين بالمغامرة والمرح. عندما التقت عيناهما، ابتسم فريد واستمر شرود العجوز المتأمل، فاضطر الأول لتبديد ابتسامته الاحتفائية على المقاتلين الخمسة، كما نقل الحديث إليهم عن المهابة التي كان عليها العقيد. كان للعقيد تلك النظرة الثابتة التي لا تأبه للرد على أي حديث قبل أن تنتهي عملياته الذهنية، ومع كل هذه السنوات من الصمت والوحدة، تطورت تلك الحالة بحيث يمكن القول إنه نقل لسانه إلى عينيه. تلك العينان اللتان يطوف بهما الآن على "رفيقه" القديم ومسلحيه، بينما يحكي لهم الجندي كيف كشفته نظرات العقيد ذات يوم بعد أن خرج بزورق جديد إلى البحر بدون إذن وبدون أن يعلم أحد. تعالت قهقهة جماعية داخل الثلاجة وابتسم الصياد العجوز. فتح جيب حزامه العريض وأخرج دفتراً صغيراً ملفوفاً بحجم إصبعه الوسطى، ثم أخذ يفرز أوراقه اليابسة كما يفعل عجوز أعشى حين يتفحص لفة نقوده الورقية بحثاً عن الفئة المناسبة لشراء شيء ما. وبتمهل مرتبك، فتح الصفحة التي دون فيها الرقم، وطلب من فريد أن يضغط الأرقام ثم يعطيه الهاتف. "ألو أم سند... فينك. ألو... ألو... من معي سند؟". كان صوته يجلجل داخل الثلاجة المكتومة بينما يسمع بدل الرنين في الطرف الآخر، صوتاً جهورياً كصوته، يردد أدعية مأثورة بابتهال مطمئن. انقطع صوت المبتهل وجاء بدله صوت أكثر ضخامة. نعم إنه سند يرد على هاتف أمه. "من معي سند؟" "أيوه معك سند.. من معي؟" "أبوك، سكّت الجهال اللي جمبك.. تسمعنا؟" "أيوه اسمعك، فينك اقلقتنا عليك. أمي قدها باتجنن وما كانتش راضية تجي معي قالت نعم بتنتظرك لما ترجع". "أنا كنت راجع البيت بس لقيت جماعة من اصحابنا قالوا القناصة منتشرين بكل مكان. خلاص قل لها تطمن أنا بخير وما تقلقوش عليا، أنا بتصرف. مع السلامة". أعاد الهاتف لفريد قبل أن ينهي ابنه كلماته الأخيرة.
نهض بعد إنهاء المكالمة وطلب من فريد أن يلحق به إلى القارب لأخذ السمك الذي كان قد اصطاده خلال الثلاثة أيام الماضية، ولم ينتظر حتى يسمع الرد. انحنى متكئاً براحة يده على طرف أرضية الثلاجة حيث الباب ولوّح باليد الأخرى لأحد المسلحين في الخارج ليساعده على النزول. لكن أحد الذين كانوا في الداخل قفز وتلقف العجوز من إبطيه، وظل ممسكاً به حتى استعاد توازنه. "عاد الفندم فريد يشتينا أقود المعركة!" قال للشاب الذي ساعده على النزول، وضحك بكركرة تشبه صوت صخرة تدحرج على منحدر إسمنتي هش. اكتفى الآخرون بالابتسام، وانبرى فريد عبدالنبي يدافع عن ثقته المطلقة بقدرات العقيد وحنكته. ساروا بعده نحو القارب على وقع خطواته المتثاقلة، ومازال فريد يذكره بصليات الصواريخ التي كانوا يطلقونها من البحر على قوات "الدحابشة". "الآن جاء الوقت المناسب عشان نكسب المعركة اللي خسرناها قبل عشرين سنة. فرصة وجت لعندنا". قال أبو هوري. توقف العقيد في اللحظة التي أمسك فيها بحافة القارب والتفت إليه بنظرة متقدة لا تتواءم مع حالة العجز التي أبداها قبل قليل. رد بسرعة هذه المرة كما لو أن ما سيقوله قد فكر فيه طوال السنوات الماضية: "الفرصة اللي تروح منك ما ترجعش وحدها لعندك". "أذا هي رجعت، والرئيس طلب من دول الخليج تدخل عسكري مباشر. يعني بقاءنا هنا مسألة وقت ونقدر بعدين نخرج ونحنا جاهزين". "شفت كيف! مش قلت لك الفرصة اللي تفوت ما ترجعش وحدها. عموماً ربنا يعينكم". قال سالم والتفت نحو شاب انتهى لتوه من غرس علم دولة الجنوب في مؤخرة القارب. لم يعلق على ذلك، بل قال مخاطباً الجميع: "أنا راجع البحر". صعد معه إلى القارب شابان ليناولا رفاقهما أربعة صناديق تحوي مجموعة متنوعة من أسماك الماكريل والتونا والهامور. كان هناك القليل من الزينوب في الصناديق.
في مثل ذلك اليوم من شهر مارس/ آذار قبل عشرين سنة، خلع العقيد سالم اللواز بزته البحرية البيضاء وعلقها في خزانة ملابسه، وفي صباح اليوم التالي، ذهب لشراء زورق فيبر جلاس بمحرك 50 حصان، ثلاث شباك متفاوتة الأحجام، والملابس الخاصة بالصيادين؛ إزار وتي شيرت وعصابة رأس جميعها باللون الأبيض، وبعد شهرين جلب خطاطاً من المعلّا ليكتب الاسم الذي اختاره لزورقه: "ملك الزينوب". وفي ذلك اليوم اشترى الكَمر؛ حزامه العريض المقاوم للماء، والذي وضع بداخله كل متعلقاته الخاصة. إنه يتذكر ذلك جيداً، لكنه لا يشاطر ذاكرته مع أحد. ومع ذلك، فمنذ الأيام الأولى لمهنته الجديدة، لم يكن مروره في المسارات البحرية التي سلكها مئات المرات قبل ذلك، يذكره بشيء من ماضيه كضابط بحرية. لقد ترك خلفه كل شيء باستثناء زوجته التي اعتادت هي الأخرى انتقال لسانه إلى عينيه، واستسلمت لشيخوخة صامتة بعد أن كبر ابنهما وابنتاهما، وذهبوا لتأسيس عائلاتهم الخاصة. لم يعد يوماً إلى مقر القوات البحرية حتى عندما أبلغوه بأن راتبه أعيد صرفه بعد ثلاث عشرة سنة من الانقطاع، كتسوية بادرت بها الحكومة لإنهاء احتجاجات الضباط الذين فصلوا من وظائفهم بعد الحرب. اضطرت زوجته للذهاب كل يوم إلى بيت ابنها الذي صار موظفاً في شركة نفطية، لتحفزه على مرافقتها لإعادة راتب أبيه، واستلام مرتبات كل تلك السنوات. في نهاية تلك المعاملة المضنية، كان يفترض أن تتسلم العائلة عشرة ملايين ريال، لكن ما وجدوه لدى أمين الصندوق كان نصف ذلك المبلغ فقط. ورغم أنهم لم يعرفوا سبب ذلك النقص الهائل، إلا أنهم فضلوا عدم الدخول في منازعة مع الحكومة فيضيع المبلغ المتبقي. كل ذلك تم بدون أن يتحرك لدى العقيد الصياد أي شعور باستحقاق ذلك المبلغ الذي غير حياة جميع أفراد العائلة. كان مؤمناً بأن ما سلب منه هو شيء آخر غير الراتب والرتبة الرفيعة، لكنه في نفس الوقت، لا يرغب في استعادته بحرب أخرى. وفي ذروة احتفال العائلة بحياتها الجديدة، كان سالم الزينوب يعود مباشرة من مرفأ الصيادين إلى جزيرته المفضلة. تلك الجزيرة التي لا تحمل اسماً ويستوحش منها جميع الصيادين لمجرد أن يعرفوا أنه يقضي فيها معظم لياليه. جزيرة لا يهتم أحد لأمرها حتى خفر السواحل، ولعله وجد وجه شبه بينه وبينها، وظل يراقب من على صخورها النجوم وأضواء المدينة، وسفن القراصنة، وسفن الصيد المتسللة ليلاً.
عندما عاد سالم الزينوب صباح ذلك الأربعاء الأخير إلى جزيرته، كان يبدو أن توازنه الذي احتفظ به طوال تلك السنوات قد اختل، لدرجة شعوره بالدوار وهو ينزل من باب الثلاجة في المرفأ. كانت ذاكرته تؤلمه. أدار القارب بعصا التوجيه المربوط بحبال النايلون قرب المحرك، ولوح مودعاً جنود الحرب الجديدة.
إذا كان في صوت سالم ما يميزه عن غيره، فهي الجهورية التي تصل ذروتها عندما يتحدث بانفعال، فتصير الكلمات في لسانه قصيرة ومتداخلة الأحرف. طمأن الرجل الذي نزل من الثلاجة جنوده الشباب: "هذا عمكم سالم يا شباب منو ما يعرفوش! عاده يسميهم دحابشة من ايام 94. فين با تروح يا فندم ما بتقدرش تدخل بيتك الآن. الجماعة قدهم يقصفوا من البساتين". قال المقاتل الأربعيني ومازال يبتسم نحو سالم. ساد صمت وجيز وتصاعد دوي القذائف ولعلعلة رشاشات الدوشكا، في الوقت الذي بدأت فيه حرارة الشمس التي أشرقت قبل قليل، بدفع نسيم البحر نحو البرية. كان النسيم البارد مشبعاً برائحة بقايا السمك المتعفن في المرفأ والشادر المسقوف بصفائح التوتياء، بينما الصياد العجوز يمعن في تفرس ملامح الرجل الذي تطوع لإزالة ريبة المقاتلين الشباب. ومن تحت شاربه الكث المصبوغ بالحناء، انبجست ابتسامة ودودة حركت قدميه إلى الأمام ومازالت يده اليمنى متقوسة فوق عينيه كمنقار قبعة التلاميذ. "هذا فريد أبو هوري والا انا غلطان؟" سأل سالم، في حين تلفت الشبان نحو بعضهم البعض قبل أن يلتفتوا إلى قائدهم. "فريد بشحمه ولحمه يا فندم". رد القائد وخطا نحو الصياد وعانقه بحرارة. دخل سالم الثلاجة المستطيلة مع أبي هوري، وهناك كان خمسة مسلحين متربعين فوق أكياس من النايلون لتفادي الماء السائح على أرضية الثلاجة.
منذ سنوات لم ير سالم جنديه القديم فريد أبو هوري، لكن الأخير كان يصادفه بين الحين والآخر في المرفأ نفسه أو في الشادر الملاصق له عندما يأتي لشراء السمك بالتزامن مع إيصال الصياد أسماكه للبائعين أو مروره لاستلام نقوده المؤجلة لديهم. ورغم أنه كان جديداً على مهنة الصيد إلا أنه صار معروفاً في وقت قياسي بين الصيادين والبائعين، وحتى لدى بعض الزبائن الدائمين في المطاعم القريبة من الشادر. كان معروفا باسم الزينوب، وهو اسم سمكته المفضلة للأكل قبل أن يمتهن الصيد، وعندما فعل ذلك، كانت السمكة طويلة الذيل زرقاء الزعانف، هي التي يفضل صيدها على غيرها، وكان يقضي أياماً في البحر في انتظار امتلاء شباكه بها. وفي حين يعود الصيادون إلى الساحل ريثما تمتلئ شباكهم، كان هو يعود إلى إحدى الجزر غير المأهولة. بعض من كانوا يعرفون قصة تحوله لصيد السمك كانوا يسمونه على سبيل التبجيل "العقيد الصياد"، ولم يبد عليه يوما أنه يحفل بما يقولون. صمته المطبق كان قد روض من يتعامل معهم على قصر الكلام في سعر الزينوب والكمية المباعة. لكنه الآن أمام فريد أبو هوري صاحب اللسان الذي لا يتوقف حتى أثناء النوم. وبينما كانت ذاكرة العجوز توغل في زمن الدوريات البحرية، كان أبو هوري يثرثر بنفس الوتيرة التي كان عليها أثناء قيادته المجنونة للزوارق الصاروخية أو قوارب الإنقاذ.
لم يعتد أولئك المقاتلون الشبان من قائدهم الحديث عن ماضيه العسكري، ناهيك عن أن بعضهم لا تتعدى معرفتهم به نصف الشهر، كما أنهم يعرفونه باسم فريد عبدالنبي، ولذلك حملق في وجهه المقاتلون الذين كانوا خارج الثلاجة. هم يعرفون أنه ضابط سابق في الجيش تمت إحالته للتقاعد المبكر بعد حرب العام 1994، ثم فصل من الجيش نهائياً وافتتح كشكاً صغيراً لبيع التمبل. "أنا كنت اشوفك احيان يا فندم لما آجي هنا اشتري سمك، بس ولا مرة تجرأت اكلمك". قال فريد. هز "الصياد العقيد" رأسه ممتناً. بعد مضي ما يقارب ربع الساعة، قال سالم إنه يريد الذهاب إلى منزله للاطمئنان على زوجته، لكن فريد حاول إثناءه عن ذلك مستعرضاً آخر مستجدات المعركة ومنها سيطرة قوات "الحوافيش" على حي البساتين ودار سعد والشيخ عثمان، وتقدمهم السريع باتجاه كريتر.. "القذائف توصل عشوائي ومعاهم قناصة فوق العمارات ما درينا كيف دخلوا! لو معاها تلفون اتصل بها من تلفوني. وبعدين يافندم سالم نشتيك معانا هنا تقود المعركة". قال فريد وأخرج هاتفاً محمولاً من خاصرته. طوح العجوز قليلاً متمعناً بنظرات يغزلها الشرود، وجه الفتى العشريني المهووس بقيادة الزوارق؛ سحنته القمحية، أنفه المقوس المطل على شارب خفيف لم يتغير منذ إحدى وعشرين سنة، الذقن المستدق ذا الغمازة العميقة والشعر الخفيف الذي توقف عن الصعود نحو الخدين. وعلاوة على ذلك، فقد احتفظ هذا الجندي القديم بعينين مشعتين بالمغامرة والمرح. عندما التقت عيناهما، ابتسم فريد واستمر شرود العجوز المتأمل، فاضطر الأول لتبديد ابتسامته الاحتفائية على المقاتلين الخمسة، كما نقل الحديث إليهم عن المهابة التي كان عليها العقيد. كان للعقيد تلك النظرة الثابتة التي لا تأبه للرد على أي حديث قبل أن تنتهي عملياته الذهنية، ومع كل هذه السنوات من الصمت والوحدة، تطورت تلك الحالة بحيث يمكن القول إنه نقل لسانه إلى عينيه. تلك العينان اللتان يطوف بهما الآن على "رفيقه" القديم ومسلحيه، بينما يحكي لهم الجندي كيف كشفته نظرات العقيد ذات يوم بعد أن خرج بزورق جديد إلى البحر بدون إذن وبدون أن يعلم أحد. تعالت قهقهة جماعية داخل الثلاجة وابتسم الصياد العجوز. فتح جيب حزامه العريض وأخرج دفتراً صغيراً ملفوفاً بحجم إصبعه الوسطى، ثم أخذ يفرز أوراقه اليابسة كما يفعل عجوز أعشى حين يتفحص لفة نقوده الورقية بحثاً عن الفئة المناسبة لشراء شيء ما. وبتمهل مرتبك، فتح الصفحة التي دون فيها الرقم، وطلب من فريد أن يضغط الأرقام ثم يعطيه الهاتف. "ألو أم سند... فينك. ألو... ألو... من معي سند؟". كان صوته يجلجل داخل الثلاجة المكتومة بينما يسمع بدل الرنين في الطرف الآخر، صوتاً جهورياً كصوته، يردد أدعية مأثورة بابتهال مطمئن. انقطع صوت المبتهل وجاء بدله صوت أكثر ضخامة. نعم إنه سند يرد على هاتف أمه. "من معي سند؟" "أيوه معك سند.. من معي؟" "أبوك، سكّت الجهال اللي جمبك.. تسمعنا؟" "أيوه اسمعك، فينك اقلقتنا عليك. أمي قدها باتجنن وما كانتش راضية تجي معي قالت نعم بتنتظرك لما ترجع". "أنا كنت راجع البيت بس لقيت جماعة من اصحابنا قالوا القناصة منتشرين بكل مكان. خلاص قل لها تطمن أنا بخير وما تقلقوش عليا، أنا بتصرف. مع السلامة". أعاد الهاتف لفريد قبل أن ينهي ابنه كلماته الأخيرة.
نهض بعد إنهاء المكالمة وطلب من فريد أن يلحق به إلى القارب لأخذ السمك الذي كان قد اصطاده خلال الثلاثة أيام الماضية، ولم ينتظر حتى يسمع الرد. انحنى متكئاً براحة يده على طرف أرضية الثلاجة حيث الباب ولوّح باليد الأخرى لأحد المسلحين في الخارج ليساعده على النزول. لكن أحد الذين كانوا في الداخل قفز وتلقف العجوز من إبطيه، وظل ممسكاً به حتى استعاد توازنه. "عاد الفندم فريد يشتينا أقود المعركة!" قال للشاب الذي ساعده على النزول، وضحك بكركرة تشبه صوت صخرة تدحرج على منحدر إسمنتي هش. اكتفى الآخرون بالابتسام، وانبرى فريد عبدالنبي يدافع عن ثقته المطلقة بقدرات العقيد وحنكته. ساروا بعده نحو القارب على وقع خطواته المتثاقلة، ومازال فريد يذكره بصليات الصواريخ التي كانوا يطلقونها من البحر على قوات "الدحابشة". "الآن جاء الوقت المناسب عشان نكسب المعركة اللي خسرناها قبل عشرين سنة. فرصة وجت لعندنا". قال أبو هوري. توقف العقيد في اللحظة التي أمسك فيها بحافة القارب والتفت إليه بنظرة متقدة لا تتواءم مع حالة العجز التي أبداها قبل قليل. رد بسرعة هذه المرة كما لو أن ما سيقوله قد فكر فيه طوال السنوات الماضية: "الفرصة اللي تروح منك ما ترجعش وحدها لعندك". "أذا هي رجعت، والرئيس طلب من دول الخليج تدخل عسكري مباشر. يعني بقاءنا هنا مسألة وقت ونقدر بعدين نخرج ونحنا جاهزين". "شفت كيف! مش قلت لك الفرصة اللي تفوت ما ترجعش وحدها. عموماً ربنا يعينكم". قال سالم والتفت نحو شاب انتهى لتوه من غرس علم دولة الجنوب في مؤخرة القارب. لم يعلق على ذلك، بل قال مخاطباً الجميع: "أنا راجع البحر". صعد معه إلى القارب شابان ليناولا رفاقهما أربعة صناديق تحوي مجموعة متنوعة من أسماك الماكريل والتونا والهامور. كان هناك القليل من الزينوب في الصناديق.
في مثل ذلك اليوم من شهر مارس/ آذار قبل عشرين سنة، خلع العقيد سالم اللواز بزته البحرية البيضاء وعلقها في خزانة ملابسه، وفي صباح اليوم التالي، ذهب لشراء زورق فيبر جلاس بمحرك 50 حصان، ثلاث شباك متفاوتة الأحجام، والملابس الخاصة بالصيادين؛ إزار وتي شيرت وعصابة رأس جميعها باللون الأبيض، وبعد شهرين جلب خطاطاً من المعلّا ليكتب الاسم الذي اختاره لزورقه: "ملك الزينوب". وفي ذلك اليوم اشترى الكَمر؛ حزامه العريض المقاوم للماء، والذي وضع بداخله كل متعلقاته الخاصة. إنه يتذكر ذلك جيداً، لكنه لا يشاطر ذاكرته مع أحد. ومع ذلك، فمنذ الأيام الأولى لمهنته الجديدة، لم يكن مروره في المسارات البحرية التي سلكها مئات المرات قبل ذلك، يذكره بشيء من ماضيه كضابط بحرية. لقد ترك خلفه كل شيء باستثناء زوجته التي اعتادت هي الأخرى انتقال لسانه إلى عينيه، واستسلمت لشيخوخة صامتة بعد أن كبر ابنهما وابنتاهما، وذهبوا لتأسيس عائلاتهم الخاصة. لم يعد يوماً إلى مقر القوات البحرية حتى عندما أبلغوه بأن راتبه أعيد صرفه بعد ثلاث عشرة سنة من الانقطاع، كتسوية بادرت بها الحكومة لإنهاء احتجاجات الضباط الذين فصلوا من وظائفهم بعد الحرب. اضطرت زوجته للذهاب كل يوم إلى بيت ابنها الذي صار موظفاً في شركة نفطية، لتحفزه على مرافقتها لإعادة راتب أبيه، واستلام مرتبات كل تلك السنوات. في نهاية تلك المعاملة المضنية، كان يفترض أن تتسلم العائلة عشرة ملايين ريال، لكن ما وجدوه لدى أمين الصندوق كان نصف ذلك المبلغ فقط. ورغم أنهم لم يعرفوا سبب ذلك النقص الهائل، إلا أنهم فضلوا عدم الدخول في منازعة مع الحكومة فيضيع المبلغ المتبقي. كل ذلك تم بدون أن يتحرك لدى العقيد الصياد أي شعور باستحقاق ذلك المبلغ الذي غير حياة جميع أفراد العائلة. كان مؤمناً بأن ما سلب منه هو شيء آخر غير الراتب والرتبة الرفيعة، لكنه في نفس الوقت، لا يرغب في استعادته بحرب أخرى. وفي ذروة احتفال العائلة بحياتها الجديدة، كان سالم الزينوب يعود مباشرة من مرفأ الصيادين إلى جزيرته المفضلة. تلك الجزيرة التي لا تحمل اسماً ويستوحش منها جميع الصيادين لمجرد أن يعرفوا أنه يقضي فيها معظم لياليه. جزيرة لا يهتم أحد لأمرها حتى خفر السواحل، ولعله وجد وجه شبه بينه وبينها، وظل يراقب من على صخورها النجوم وأضواء المدينة، وسفن القراصنة، وسفن الصيد المتسللة ليلاً.
عندما عاد سالم الزينوب صباح ذلك الأربعاء الأخير إلى جزيرته، كان يبدو أن توازنه الذي احتفظ به طوال تلك السنوات قد اختل، لدرجة شعوره بالدوار وهو ينزل من باب الثلاجة في المرفأ. كانت ذاكرته تؤلمه. أدار القارب بعصا التوجيه المربوط بحبال النايلون قرب المحرك، ولوح مودعاً جنود الحرب الجديدة.