عبد علي حسن - نازك الملائكة 1923-- 2023 (قضايا الشعر المعاصر) وقواعد المنعطف

* تكتسب ظاهرة اصدار البيانات والكتب الأدبية والفنية المرافقة المنجز الإبداعي الجديد أهميتها الإستثنائية لتوضيح الرؤىٰ الفنية والأدبية التي استدعت ظهور هذا الجديد ، ليحوز علىٰ مقبولية عند المتفقين وبمثابة ردود على المعترضين ، إذ لم تنج اية محاولة للتجديد أو التحديث من وجود معارضين لها ، ومن جانب ٱخر فإن هذه البيانات تفتح الطريق أمام الٱخرين لإتّباع هذا الجديد وشيوعه كمفصل محايث الصيرورة الإجتماعية والفكرية إذا ما توفرت لهذا الجديد عوامل النشأة والتأسيس السليم الذي يتطلب القصدية والتكرار والتجاوز حسب تفزتيان تودوروف ، كما وتعدّ مصدراً أساسياً للدارسين والباحثين في الدخول الى المناطق البعيدة والقريبة لهذا المنجز خاصة إذا ما علمنا بأن هذه البيانات والكتب قد أصدرها القائمون على استحداث هذا الجديد .
ويعدّ كتاب الشاعرة العراقية نازك الملائكة (قضايا الشعر المعاصر) اصدار مكتبة النهضة /بغداد ط الاولى 1962 ، من أهم الكتب التي وقفت طويلاً وبموضوعية عند واحدة من أهم المنعطفات التاريخية التي مرَّ بها الشعر العربي وهي تجربة قصيدة التفعيلة التي ولدت في يوم الثلاثاء 27 تشرين الأول من سنة 1947 في قصيدة ( الكوليرا) التي قالت عنها نازك في حوارها مع اختها السيدة إحسان الذي تضمنته مقدمة الكتاب في طبعته الاولى التي كتبها زوج الشاعرة الدكتور عبد الهادي محبوبة(لقد قلت لك أن الجمهور سيضحك مني ولكني -- مع ذلك-- واثقة أن هذه القصيدة ستكون بداية عصر جديد في الشعر العربي ) وحرصت الشاعرة على تسميته ب (الشعر الحر) على الرغم من محاولات البعض من الأدباء مثل الراحل جبرا إبراهيم جبرا لثني الشاعرة عن هذه التسمية لإرتباط واقتران هذه التسمية ب(الشعر الحر) الذي صاغه الأمريكي والت وايتمان في أواخر القرن التاسع عشر وأوجد له اتباع من الشعراء العرب كأمين الريحاني وجيران خليل جبران وٱخرين ، كما ان الدكتور عبد الهادي محبوبة قد اعترض أيضاً قبل الٱخرين في نهاية مقدمته للكتاب على تسميته ب(الشعر الحر) في الوقت الذي لم يزل يحتفظ لتعريفهم عند نقاد الأدب منذ عهد قدامة بن جعفر بأنه القول الموزون المقفى الذي يدل على معنى ، ولعل في اعتراض الدكتور محبوبة هذا مايدعم موقف جبرا إبراهيم وسواه من المعترضين على مصطلح الشعر الحر ،ونذهب إلى ماذهب إليه الٱخرون من اعتراض على تسميته بالشعر الحر ، إلّا أن السيدة نازك ظلت مصرّة على تسميته ب (الشعر الحر) على الرغم من مفارقته لقصيدة التفعيلة لوجود شرطي الإستغناء عن الوزن والقافية وبقاءه في منطقة الشعر إذ أنه شعر غايته الشعر ، فقد أخذت الشاعرة الراحلة نازك الملائكة على عاتقها وضع الممهدات والارهاصات التأريخية والتأثيرات التي أدت إلى تهيئة التربة الخصبة لإنبات هذا الجديد المنبت السليم ، كما كشفت عن قواعد الكتابة في هذا الشكل الجديد الذي وَلد في رحم الشكل القديم للشعر العربي وهو نظام البيت الشعري ذي الشطرين ، وفي صلة الرحم هذه اكتسبت قصيدة التفعيلة مشروعية النهوض بالتجديد والتحديث استناداً إلى جملة من الركائز الموضوعية يأتي في مقدمتها صيرورة الحياة والمجتمع العربي بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1945 ، ولعل مفردة (المعاصر) المضافة إلى مفردة ( الشعر) تشي إلى استجابة هذه التجربة إلى المشاكل والقضايا المعاصرة التي يمر بها المجتمع والشعر بذاته باعتبار أن الأدب هو تعبير عن القضايا النفسية والفكرية والاجتماعية التي يمر بها الفرد والمجتمع ، وبهذا الصدد فإنها تذكر أربعة عوامل تشكّل الجذور الإجتماعية لظهور الشعر الحر وهي النزوع إلى موافقة الواقع والحنين إلى الاستقلال والنفور من النموذج المتكرر وإيثار المضمون على الشكل ،ومن هنا وجد رواد هذه القصيدة المدخل لتجاوز القديم واستحداث شكل جديد من رحمه يلبي حاجاتهم النفسية والاجتماعية وحتى الفكرية للتعبير عن مشاكل الواقع ، كما شهدت طبعات الكتاب الخمس اللاحقة تصورات جديدة عالجت فيها الشاعرة ما استجدّ من آراء ومناقشات من قبل الدارسين والنقاد ، ففي مقدمة الطبعة الخامسة 1978 تشير الشاعرة ( أما الٱن وانا أصدر الطبعة الرابعة منه ، فإن اثنتي عشرة سنة قد مرّت على الشعر الحر بعد وضعي لقواعده ودراستي لمسائله ، وهذه السنوات قد جاءت بنقد كثير للكتاب ، وقد أثار النقاد تساؤلات متعددة حول بعض ارائي فيه ، بحيث أجدني مضطرة إلى أن أكتب ، لهذه الطبعة ، مقدمة أشخّصُ فيها موقفي من الشعر الحر تشخيصاً جديداً ...ص5) ويكشف القول السالف مدىٰ حرص الشاعرة علىٰ الأخذ بنظر الاعتبار للانتقادات والٱراء التي طرحها النقاد والدارسين وإعادة إنتاج لمقولاتها ومفاهيمها التي ربما قد غابت عن الأذهان لتكتمل صورة الٱراء والمفاهيم التي جاء عليها الكتاب ، فضلاً عن الدوافع الأخرى منها ( المدّ العظيم من القصائد الحرة الذي غمر العالم العربي ، قد استثار عندي ٱراء جديدة ، وأعطاني فرصة لإستكمال قواعد الشعر الحر ، أوت على الأقل ، للإضافة إليها ، وغربلتها ....ص5) وكيما تحكم صنيعها في تقديم هذا الشكل الجديد على أفضل وجه دون أن تترك بعض الثغرات التي ينفذ منها المتعصبون والمتزمتون من أنصار الشطرين الذين وحسب قولها ( يدحرجون في طريق الشعر الحر صخورهم ...ص6) وكيما يكون أنصار هذا الشعر علىٰ علم ودراية كاملة في قواعد ومواجهات شعر الحر بكل تعالقاته الداخلية والخارجية فقد اجملت القضايا التي تلقي الضوء على مشروعية ظهور هذا الشكل بأربع مسائل :--
1-- علاقة الشعر الحر بالتراث العربي .
2-- بدايات حركة الشعر الحر .
3-- البحور التي يصح نظم الشعر الحر منها .
4-- قضية التشكيلات المستعملة في القصيدة الحرة .
والجدير بالذكر هو اعتراضها على محاولات النظم في أكثر من وزن شعري في النص الواحد ، واستخدام البحور من خارج البحور الصافية ذات التفعيلة الواحدة المكررة ، فقد أسهم الشعراء الستينيون وضمن محاولاتهم التجريبية في تقديم صيرورات جديدة في الشكل الشعري الجديد تجاوزت بعض القواعد التي وضعتها الشاعرة ، ويمكن ملاحظة ذلك أيضا في مساهمات الشعراء الجدد في الأجيال الشعرية اللاحقة ، ونرىٰ أنه لم تكن هنالك ضرورة للتزمت إزاء تلك المحاولات والاسهامات من قبل الشعراء اللاحقين ، ذلك أن أسباب تلك الصيرورات هي ذاتها التي دفعت الملائكة للخروج على نظام البيت الواحد بفعل صيرورة الحياة والوقائع الاجتماعية ، وهذا ما تضمنته. مقدمة الدكتور عبد الهادي محبوبة للكتاب ، إذ أشار إلى ضرورة الخروج من البحر الواحد إلى بحور أخرى تتضمنها القصيدة الواحدة تماهياً مع دعوة الشاعرة إلى حرية التعبير عبر الشكل الجديد ،
لقد كشفت السيدة نازك الملائكة في مناقشتها ومعالجتها للمسائل الأربع الٱنفة الذكر عن وعي اجتماعي وفني وفكري بالتراث الشعري العربي وعوامل التجديد والتحديث الفاعلة في أحداث المنعطف التأريخي في تواتر الأجناس والأشكال الأدبية واستجابتها للمتغير الاجتماعي للتعبير عنه بشكل معاصر متجاوز للأطر التقليدية والمستهلكة الساكنة عند حدودها المألوفة ، كما كشفت تلك المعالجة عن المنظومة الفنية الدقيقة التي عكست اهتمام الملائكة ومعرفتها بالذي أقدمت عليه من تحول في الشكل الشعري العربي المعاصر الذي استحوذ على اهتمام الأدباء والنقاد والشعراء خاصة في العقود اللاحقة لظهور قصيدة التفعيلة .
لقد استحضرت الشاعرة نازك الملائكة كل تلك المعالجات والجهود لتقعيد هذه التجربة الجديدة في مناقشتها لقصيدة النثر العربية التي تزامن ظهورها مع ظهور قصيدة التفعيلة ، ففي نهاية الباب الرابع من الفصل الثاني للكتاب تفرد الشاعرة دراسة منفصلة لقصيدة النثر العربية التي ظهرت في لبنان وتبنت مشروعها مجلة شعر في خمسينيات القرن الماضي على يد أدونيس وانس الحاج وٱخرين ، إذ وصفتها ب (بدعة غريبة) كما
اعترضت علىٰ وضع توصيف (شعر) على أغلفة الكتب التي تضمنت قصائداً نثرية كما في نقدها لديوان محمد الماغوط ( حزن في ضوء القمر ) مبيّنةً خلو هذه القصائد من اي أثر للشعر وتعني خلوه من الوزن والقافية وعدم وجود أية صلة بينه وبين الشعر العربي (فليس فيه لا بيت ولاشطر) وهي لم تجانب الصواب في وصفها هذا ، إذ لم يدّعي كاتبوها صلة شكلية داخلية أو خارجية بقواعد الشعر العربي ، إذ حضرت القصدية في الكتابة وفق النموذج المستعار من بيئة الٱخر وتحديدا قصيدة النثر الفرنسية ، ولعل مايلفت النظر في اعتراض نازك هو إعادة كتابة قصيدة (المسافر) بصيغة الفقرة دون توزيعها على شكل قصيدة التفعيلة وهي محقّة في ذلك ويتماهىٰ هذا التوزيع لاجمل مع تعريف سوزان برنار لقصيدة النثر في أنها ( قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية ، موحدة مضغوطة ، كقطعة من بلور.) ، لتنتهي الىٰ أن مجمل نصوص الكتاب أن هي إلّا خواطر فنية دون أن تولي اعتباراً للقيمة الداخلية للشعر الذي تضمنته النصوص ، إذ قصرت اعتراضها على الشكل الخارجي وصلة قصيدة النثر بالأشكال الشعرية العربية قديمها وجديدها ، ومن أن تعرف ماهية وكينونة قصيدة النثر بأنها نثر غايته شعر ، وبمعنى ٱخر سعي كتاب قصيدة النثر الىٰ الوصول إلى شعرية النثر العربي ، على أننا نرى أن هنالك سبباً ٱخر لاعتراضات الشاعرة الملائكة على قصيدة النثر وهو إدراكها وخشيتها لمزاحمة قصيدة النثر لقصيدة التفعيلة خاصة إذا ما علمنا بأن قصيدة التفعيلة لاتزال عند خطواتها الأولى وحاجتها إلى الإستواء على سوقها وجذب أكبر عدد من الشعراء ليكونوا اتباعاً لها ، إذ وجدت الملائكة في قصيدة النثر سهولة في الكتابة مما يبعد الشعراء العرب عن قصيدة التفعيلة لوجود قيود الوزن وفنون القول البلاغي التي تسم القول الشعري بالشعرية وان تجدّد الشكل .
لقد تمتع كتاب (قضايا الشعر المعاصر) للشاعرة نازك الملائكة بأهمية كبيرة من صدور الطبعة الأولى عام 1962 وحتى الطبعة الخامسة 1978 ، إذ يعدّ مصدرا أساسياً لدراسة قصيدة التفعيلة التي شكّلت انعطافاً تأريخياً في حركة الشعر العربي المعاصر ، سيّما وان مؤلفته هي من اجترحت هذه الانعطافة المهمة التي مهدت الطريق ووضعت اللبنات الأساسية لمسيرة الشعر العربي الحديث .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى