إبراهيم الديب - قراءة في الجزء الخامس من "كتاب تاريخ الادب العربي" للدكتور شوقي ضيف..

مجلد كبير تبلغ صفحاته 680 صفحة بعنوان "عصر الدول والإمارات" ويتناول تاريخ الأدب العربي في الجزيرة العربية والعراق وإيران، في فترة تبدأ من ٣٣٤ هجرية حتى القرن الثاني عشر الهجري وهو أيضا بداية القرن التاسع عشر الميلادي ،للدكتور شوقي ،الذي يرى أن العصر العباسي ينتهي عند هذه السنة، عكس نظرة غالبية المؤرخين أن العصر العباسي يمتد إلى عام هجرية 656 وهو التاريخ الذي استولى فيه التتار على عاصمة الخلافة العباسية ، فمن وجهة نظره أن الواقع في هذه الحقبة التاريخية يكذب هذا التصور فيقول:

((لأن سلطان الخلافة العباسية تتقلص ظلاله منذ سنة ٣٣٤ه، بحيث لا يكاد يبقي للخلفاء العباسيين منه في كثير من الأمر سوى بغداد، فقد كانت إيران بيد بنى بويه، ونفس العراق أظله سلطانهم، وكانت البحرين واليمامة بيد القرامطة، وكانت الموصل وحلب بيد الحمدانيين. ومصر والشام بيد الإخشيد، والمغرب وإفريقيا بيد الفاطميين، والأندلس بيد عبد الرحمن الناصر))
بذل شوقي ضيف مجهودا جبارا خاصة في هذا الجزء من موسوعته "تاريخ الأدب العربي" التي تتكون من عشرة أجزاء، من أهم صفات المؤلف التي يتمتع بها هي: صبر الزهاد في البحث والتنقيب, وتأمل العلماء والمفكرين, لأن هذه الفترة لم تكن واضحة المعالم ولم تأخذ نصيبها من الكتابة والدراسة من المؤرخين، مثل بقية فترات التاريخ، فهي فترة من التي توصف بأنها مجهولة رخوة لينة، بها حقائق مغيبة وأحداث منسية..
ولذلك سبب وهو أن الفرق المتطرفة والخارجة عن التيار العام للخلافة يرفض قيام دول مستقلة فى المركز ,فقد سيطر القرامطة على البحرين ونقلوا الحجر الأسود لهناك، الشيعة الإماميون سيطروا على العراق أيضاً ،و الزيديون على اليمن ،ولعل صراع هذه الفرق واستيلائها على هذه الأقاليم هو الذي جعل لهذه الفترة مذاقا خاصا، يختلف عن بقية الفترات فقد كانت كل فرقة من هذه الفرق المتباينة تتبني نظرية في السياسة والعقيدة تمليها تعاليم المذهب الذي تدعو له تنطوي على نظرية ثقافية تعبر عن وجهة نظرها وشرح تفاصيلها، أعتقد أنه لهذه الأسباب تجاهل المؤرخون تناول هذه الفترة ، لأن تيار الحياة في العالم الإسلامي ومجراه العام، كان ضد هذه الأفكار ولذلك ظلت مصادر هذه الفرق وأفكارها مجهولة لكثير من الدارسين.
يحسب لشوقي ضيف هذا المجهود الضخم الذي بذله في البحث والتنقيب فقد ذكر مراجع كثيرة لم أسمع بها أو أقرأ عنها قبل ذلك..
خصص الدكتور شوقي ضيف الفصل الأول: للسياسة ونشأة الدولة، والصراع على السلطة ،وعلاقة كل ذلك بدول الجوار، والتأثر بها وعليها إيجاباً وسلبا، أما الفصل الثاني المجتمع وأهم نشاطاته من تجارة وصناعة وأهم الحرف التي اشتهر بها سكانه والجنس الذي ينتمي إليه، أما أهم فصول الكتاب من وجهة نظري هو فصل الثقافة الذي أبرز فيه المؤلف روح العصر الذي يتميز به وهو الصراع الفكري الذي كان سمة العصر الأساسية بصورة جعلته كلوحة بارزة القسمات محددة المعالم ، فيلقي الضوء على الظواهر الثقافية التي كانت مخبأة بداخل صدور ونفوس كل فرقة وهي تحت سيطرة دولة الخلافة المركزية ، ثم أظهرتها فرصة الاستقلال فأطلقت هذه الفرق ثورة الأفكار المعادية لرغبة مجرى الإسلام العام، والتي منها الشعوبية المتطرفة التي رفضت الانضواء تحت إمرة العرب ، هذا هو الجانب الثقافي الذي يحتوي على علوم اللغة والنحو والبلاغة والتفسير وعلم القراءات وعلم الكلام و الفلسفة الإسلامية .
أشعر أثناء القراءة أنني كنت أجلس واستمتع بحلقات الفلسفة وأعجبت بحجج المجادلين التي ترفع فكرة فرقة ، وتبهت بسببها نظرية جماعة أخرى ، وأنني شاهدت الشعراء بين يدي الأمراء يلقون مديحهم من الشعر الذي نظم أغلبه من أجل الرزق ، فترفع قصيدة شاعر لآفاق محلقة من الثراء والمجد وتلقي قصيدة بشاعر آخر في غياهب السجن أو تقطع بسببها رقبته بالسيف، تجولت مع المؤلف فحضرنا مجالس الفقه والتفسير والحديث وخلوات المتصوفة فكنت ألهث مخافة أن يفوتني من المتعة ونحن ننتقل من مدينة لأخرى متعة عقلية لا تضاهيها متعة..
طبق الدكتور شوقي هذا المنهج في إيران والعراق والجزيرة العربية .
قرأت الكتاب أول مرة في منتصف الثمانينات بعدها مباشرةً قررت أن أقرأ كل مؤلفات شوقي ضيف فأنا أعتبر قراءة موسوعته "تاريخ الأدب العربي" فرض عين على كل مثقف وانصح كل من يريد أن يعرف كل شيء التاريخ العربي الإسلامي أن يقرأ هذه المجلدات لأنها تاريخ شامل فهي تحوي بداخلها السياسة والمجتمع والأدب.
هناك ملحوظة خرجت بها بعد القراءة أنه في المجتمعات التي حدثت بها ثورات بداخل الأقاليم التي تناولها الكتاب تكون فيها الفرق والجماعات الإثنية في حالة عداء بعد اندلاع هذه الثورات وهذا العداء يكون في حالة كمون سابق يسكن النفوس، ينتظر فرصة الخروج والإعلان عن نفسه في أحداث على السطح، فالكل يريد أن يقصي الجميع بسبب تعارض الأفكار المحركة لهم، قرأت ذلك في غالبية الأقطار إلا في مصر التي ينظر أهلها الى أهم أمور الحياة نظرة مشتركة ،ويتحدون أيضاً في معيار التحسين والتقبيح، والقبول والرفض, حس مشترك يعمل في خفاء تحت السطح ، فمصر أثناء هباتها وثوراتها منذ فجر التاريخ كان الشعب نسيجا واحدا بعنصريه المسيحي والمسلم . فمصر ليست أعدادا غفيرة من البشر ومساحة أرض أو مدنا مشيدة وفقط، بل هي حصيلة مجموعة من مشاعر وأحاسيس متحدة فما يشعر به من في أسوان هو ما يخالج نفس، من يسكن دمياط وما يطالب به قاطن القاهرة هو ما يرغبه ويسعي لتحقيق كل أهل الدلتا وما يسعد أهل الإسكندرية يفرح به جميع الشعب، لأنها خلت من الإثنية التي تجعل الشعب يناصب بعضه البعض العداء وهذا سر عظمة مصر..

إبراهيم الديب/ مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى