تلبية لدعوة كريمة من المجلس الأعلي للآثار وأمينه العام الصديق الكريم الدكتور زاهي حواس, كنت سعيدا بالمشاركة في البرنامج الثقافي الذي تعده إدارة التنمية الثقافية بالمجلس, التي تشرف عليها الأستاذة إنجي فايد.
كانت الأمسية الثقافية تدور في جو رائع, وأنا اتحدث في حديقة المتحف المصري عن الآثار المصرية في شعر شوقي, والأضواء المسلطة علي المتحف, وعلي جمهور الحاضرين من المصريين والأجانب ـ الذين يجيدون العربية ويهتمون بمتابعة كل مايتصل بالآثار الفرعونية ـ كان لهذه الأضواء في إخراجها البديع سحرها وتأثيرها في صنع جو يليق بالآثار من ناحية وشعر أمير الشعراء من ناحية أخري كما هيأ التقديم العلمي الشاعري الذي قامت به الدكتورة مني حجاج أستاذة الآثار بجامعة الإسكندرية ورئيسة جمعية الأثريين بها والتي جاءت من الإسكندرية إلي القاهرة من أجل هذه المهمة, هيأ هذا التقديم مدخلا جميلا وشارحا للموضوع الذي دار من حوله اللقاء.
وفي الواقع, كان لسعادتي سببان رئيسيان, أولهما': أني سأعود مرة جديدة إلي شعر شوقي ـ أعظم شاعر أنجبته مصر منذ أصبحت العربية لغتها وأبدعت بها ـ أتأمله وأتذوقه وأعاود النظر في جمالياته وبنيته الفنية, وثانيهما: أن وعيي بالآثار المصرية وارتباطي الإنساني والثقافي بها تعبير عن الهوية المصرية وتجسيد لعلاقة عميقة ودائمة مع الوطن, في صفحات تمثل تجليات المجد والفخار والحضارة في كتاب مصر الخالد.
ولقد تفتحت عيناي علي شعر شوقي, وعلي اهتمامه بالتاريخ المصري القديم وأنا في سن العاشرة, حين أتيحت لي نسخة من الشوقيات في طبعتها الأولي الصادرة عام1899 كانت ضمن مقتنيات مكتبة أبي الذي فطن مبكرا إلي أهمية وجودها في بيته ـ بحس المعلم والمربي ـ لتكون متاحة لأبنائه, ولفتتني من بين القصائد قصيدة شوقي كبار الحوادث في وادي النيل وهي أطول قصائده علي الإطلاق ـ قرابة ثلاثمائة بيت ـ وهي قصيدة أبدعها شوقي حين أرسلته الحكومة المصرية في سبتمبر عام1896 مندوبا لها في مؤتمر المستشرقين الدولي المنعقد في جنيف, وآثر شوقي بحسه الوطني أولا وبطموحه الشعري المبكر ثانيا أن يكون حديثه إلي المؤتمر شعرا, وأن يتضمن هذا الشعر تعريفا بوطنه مصر من خلال التوقف عند محطاته التاريخية الرئيسية منذ بدء تاريخه حتي عصر الخديوي الذي كلف شوقي بهذه المهمة وهو عباس حلمي الذي كان صديقا للزعيم الوطني مصطفي كامل وصديقا لشوقي نفسه, وممتلئا بالنزعة الوطنية الصادقة.
كان شوقي يقول في بدايات القصيدة:
قل لبان بني فشاد فغالي: لم يجز مصر في الزمان بناء وليس في الممكنات أن تنقل الأجبال شما, وأن تنال السماء/ أجفل الجن عن عزائم فرعون: ودانت لبأسها الآناء شاد ما لم يشد زمان ولاأنشأ عصر ولابني بناء.
وصولا إلي تصوير شوقي للحظة الأليمة والدامية في تاريخ مصر, حين استولي قمبيز ـ أحد ملوك الفرس ـ علي مصر ـ سنة525 ق.م, فأذل المصريين, وخرب المعابد والهياكل, منتصرا علي الفرعون أبسمتيك آخر ملوك الأسرة السادسة والعشرين في الفرما ومنف, حيث أخذ الملك أسيرا, ويبدع شوقي في تصوير لحظة أسر الفرعون, وإذلاله عن طريق إذلال ابنته الأميرة, وهي تمشي في السلاسل, عارية حافية, حين يطلب منها أن تملأ الجرة من النهر كما تفعل الإماءة وكيف أراد الغزاة المنتصرون أن يروا دمع فرعون, لكن دمعه شبيه بالعنقاء ـ كما يقول شوقي ـ والعنقاء طائر خرافي, يكني به عن الأمر المستحيل, لكن الفرعون بكي عندما رأي صديقه في ثوب فقر يتسول الناس, فكان بكاؤه بكاء رحمة وتعاطف لابكاء ذلة واستسلام يقول شوقي:
جيء بالمالك العزيز ذليلا: لم تزلزل فؤاده البأساء يبصر الآل إذ يراح بهم في موقف الذل عنوة, ويجاء بنت فرعون في السلاسل تمشي: أزعج الدهر عريها والحفاء فكأن لم ينهض بهودجها الدهر.. ولاسار خلفها الأمراء وأبوها العظيم ينظر لما رديت مثلما تردي الإماء أعطيت جرة, وقيل إليك النهر... قومي كما تقوم النساء فمشت تظهر الإباء وتحمي الدمع أن تسترقه الضراء والأعادي شواخص, وأبوها.. بيد الخطب صخرة صماء فأرادوا لينظروا دمع فرعون وفرعون دمعة العنقاء فأروه الصديق في ثوب فقر. يسأل الناس, والسؤال بلاء فبكي رحمة وماكان من يبكي ولكنما أراد الوفاء هكذا الملك والملوك, وإن جاء زمان, وروعت بلواء.
لايعنينا أن تكون الحادثة حقيقية, أو أن المشهد منتزع بالفعل من كتب التاريخ, تماما كان لايعني قاريء شوقي أن يكون وصفه في قصيدته عن النيل لعروسه النيل التي تلقي فيه كل عام احتفالا بوفائه وفيضانه, حقيقة أو من صنع خياله الشعري, يكفي أن عبقريته الشعرية المبكرة, وهو في سن السادسة والعشرين, قد أبدعت هذه اللوحات الشعرية الناطقة بقدرته الفذة علي التصوير والتعبير, وأن يصوغها علي عينه مضيئة بحسه الوطني والإنساني الجارف.
وللحديث بقية
كانت الأمسية الثقافية تدور في جو رائع, وأنا اتحدث في حديقة المتحف المصري عن الآثار المصرية في شعر شوقي, والأضواء المسلطة علي المتحف, وعلي جمهور الحاضرين من المصريين والأجانب ـ الذين يجيدون العربية ويهتمون بمتابعة كل مايتصل بالآثار الفرعونية ـ كان لهذه الأضواء في إخراجها البديع سحرها وتأثيرها في صنع جو يليق بالآثار من ناحية وشعر أمير الشعراء من ناحية أخري كما هيأ التقديم العلمي الشاعري الذي قامت به الدكتورة مني حجاج أستاذة الآثار بجامعة الإسكندرية ورئيسة جمعية الأثريين بها والتي جاءت من الإسكندرية إلي القاهرة من أجل هذه المهمة, هيأ هذا التقديم مدخلا جميلا وشارحا للموضوع الذي دار من حوله اللقاء.
وفي الواقع, كان لسعادتي سببان رئيسيان, أولهما': أني سأعود مرة جديدة إلي شعر شوقي ـ أعظم شاعر أنجبته مصر منذ أصبحت العربية لغتها وأبدعت بها ـ أتأمله وأتذوقه وأعاود النظر في جمالياته وبنيته الفنية, وثانيهما: أن وعيي بالآثار المصرية وارتباطي الإنساني والثقافي بها تعبير عن الهوية المصرية وتجسيد لعلاقة عميقة ودائمة مع الوطن, في صفحات تمثل تجليات المجد والفخار والحضارة في كتاب مصر الخالد.
ولقد تفتحت عيناي علي شعر شوقي, وعلي اهتمامه بالتاريخ المصري القديم وأنا في سن العاشرة, حين أتيحت لي نسخة من الشوقيات في طبعتها الأولي الصادرة عام1899 كانت ضمن مقتنيات مكتبة أبي الذي فطن مبكرا إلي أهمية وجودها في بيته ـ بحس المعلم والمربي ـ لتكون متاحة لأبنائه, ولفتتني من بين القصائد قصيدة شوقي كبار الحوادث في وادي النيل وهي أطول قصائده علي الإطلاق ـ قرابة ثلاثمائة بيت ـ وهي قصيدة أبدعها شوقي حين أرسلته الحكومة المصرية في سبتمبر عام1896 مندوبا لها في مؤتمر المستشرقين الدولي المنعقد في جنيف, وآثر شوقي بحسه الوطني أولا وبطموحه الشعري المبكر ثانيا أن يكون حديثه إلي المؤتمر شعرا, وأن يتضمن هذا الشعر تعريفا بوطنه مصر من خلال التوقف عند محطاته التاريخية الرئيسية منذ بدء تاريخه حتي عصر الخديوي الذي كلف شوقي بهذه المهمة وهو عباس حلمي الذي كان صديقا للزعيم الوطني مصطفي كامل وصديقا لشوقي نفسه, وممتلئا بالنزعة الوطنية الصادقة.
كان شوقي يقول في بدايات القصيدة:
قل لبان بني فشاد فغالي: لم يجز مصر في الزمان بناء وليس في الممكنات أن تنقل الأجبال شما, وأن تنال السماء/ أجفل الجن عن عزائم فرعون: ودانت لبأسها الآناء شاد ما لم يشد زمان ولاأنشأ عصر ولابني بناء.
وصولا إلي تصوير شوقي للحظة الأليمة والدامية في تاريخ مصر, حين استولي قمبيز ـ أحد ملوك الفرس ـ علي مصر ـ سنة525 ق.م, فأذل المصريين, وخرب المعابد والهياكل, منتصرا علي الفرعون أبسمتيك آخر ملوك الأسرة السادسة والعشرين في الفرما ومنف, حيث أخذ الملك أسيرا, ويبدع شوقي في تصوير لحظة أسر الفرعون, وإذلاله عن طريق إذلال ابنته الأميرة, وهي تمشي في السلاسل, عارية حافية, حين يطلب منها أن تملأ الجرة من النهر كما تفعل الإماءة وكيف أراد الغزاة المنتصرون أن يروا دمع فرعون, لكن دمعه شبيه بالعنقاء ـ كما يقول شوقي ـ والعنقاء طائر خرافي, يكني به عن الأمر المستحيل, لكن الفرعون بكي عندما رأي صديقه في ثوب فقر يتسول الناس, فكان بكاؤه بكاء رحمة وتعاطف لابكاء ذلة واستسلام يقول شوقي:
جيء بالمالك العزيز ذليلا: لم تزلزل فؤاده البأساء يبصر الآل إذ يراح بهم في موقف الذل عنوة, ويجاء بنت فرعون في السلاسل تمشي: أزعج الدهر عريها والحفاء فكأن لم ينهض بهودجها الدهر.. ولاسار خلفها الأمراء وأبوها العظيم ينظر لما رديت مثلما تردي الإماء أعطيت جرة, وقيل إليك النهر... قومي كما تقوم النساء فمشت تظهر الإباء وتحمي الدمع أن تسترقه الضراء والأعادي شواخص, وأبوها.. بيد الخطب صخرة صماء فأرادوا لينظروا دمع فرعون وفرعون دمعة العنقاء فأروه الصديق في ثوب فقر. يسأل الناس, والسؤال بلاء فبكي رحمة وماكان من يبكي ولكنما أراد الوفاء هكذا الملك والملوك, وإن جاء زمان, وروعت بلواء.
لايعنينا أن تكون الحادثة حقيقية, أو أن المشهد منتزع بالفعل من كتب التاريخ, تماما كان لايعني قاريء شوقي أن يكون وصفه في قصيدته عن النيل لعروسه النيل التي تلقي فيه كل عام احتفالا بوفائه وفيضانه, حقيقة أو من صنع خياله الشعري, يكفي أن عبقريته الشعرية المبكرة, وهو في سن السادسة والعشرين, قد أبدعت هذه اللوحات الشعرية الناطقة بقدرته الفذة علي التصوير والتعبير, وأن يصوغها علي عينه مضيئة بحسه الوطني والإنساني الجارف.
وللحديث بقية