خالد جهاد - صافرات الإنذار

أهرب كالكثيرين من وحشة الحاضر إلى أنس الماضي وإن كان متواضعاً، فأعيش معه حينما أجد لنفسي بعض الوقت في عالمٍ صغير صنعته ليناسب مقاس أحلامي.. عالم من الذكريات بين الأوراق والأفلام والصور والحكايا والرسائل المكتوبة وقصاصات الورق الذي لا زالت رائحته تسكن أنفي، وصودف أنني اخترت عدة أفلامٍ لأشاهدها تحت جناح الليل والصمت، جمعها رغم اختلاف قصصها أنها حدثت في فترةٍ متقاربة من تاريخنا.. حين كانت مدننا سيدة الموقف وصانعة الأحداث وحين كان الحبيب والوطن يشعلان ذات الشعور في قلب كل من يعشق، حين كان الخوف كفيلاً بأن يقربنا من بعضنا ويجعلنا نفكر في كل من حولنا، حين كانت صافرات الإنذار التي عرفتها كل بلادنا في أوقات مختلفة وظروف مؤلمة تدوي في الوجدان لتذكرنا بمصيرٍ مشترك وحلمٍ مشترك ورغيفٍ يمكننا اقتسامه معاً آنذاك فيما يتحدث الجميع اليوم عن وطنٍ (للجميع) يشارك البعض في هدمه من حيث لا يدري..

فلم يستطع أحد أن يشرح لي معنى كلمة (الجميع) ومن تشمل عندما أصطدم بمعاداة هذا لذاك وإنكار البعض لوجود البعض الآخر وتداخل الأدوار واقحام المشكلات الطائفية ضمن أخرى اجتماعية وطبقية وسياسية ليخرج من بعدها (الجميع) ببراءة ليتحدث عن أهمية (قبول الآخر والإنسانية والإنفتاح والحوار) الذي لا يلزم به نفسه قبل أن يطلبه من غيره، خاصةً عندما نلاحظ ازدواجية المعايير والمواقف التي ساهمت في تعميق الفجوة بين أبناء المجتمع الواحد وخلقت حالة دفاعية من أغلب الناس عن ما يعتبرونه استهدافاً لهم أو لهويتهم أو سخريةً من وجعهم ورقصاً فوق جروحهم وتكبراً على ثقافتهم ومعتقداتهم، فيشتبك بعض (المثقفين) أحياناً إذا صحت تسميتهم بذلك مع غيرهم من عامة الناس دون سبب فعلي بدلاً من احتوائهم ليظهروا تمايزهم عنهم وليذكروهم بأنهم (صفوة) ويمارسوا دور الوصي عليهم وعلى أفكارهم في الوقت الذي يرفضون فيه ذلك فيما يغيب صوتهم في كل ألم وأزمة حقيقية كالعادة..

ومع تزامن الصيام الإسلامي والمسيحي هذا العام مع عيد النوروز الكردي كان من المفترض أن يفهم الكثيرون بأن هذا التنوع هو غنى وإضافة، وهو أقل مما نتخيل إذا ما قورن ببلاد كالهند والصين، وأنه فرصة للإحتفال والإحتفاء بالحياة التي أوشك نبضها على الموت بداخل أغلبنا، وليس فرصة لتجديد الأحقاد بين الطوائف أو الأعراق أو أصحاب التيارات الفكرية أو السخرية من المعتقدات الدينية للغير تحت واحد من أكثر الكلمات كذباً في بلادنا وهي كلمة (التنوير) لإنقلاب الكثير من الذين يرددونها على معناها وانسياقهم خلف أهوائهم واصطفافاتهم ومصالحهم الشخصية وبعدهم عن الواقع الذي يعيشه الأغلبية، فالسخرية من الصيام ليست تنويراً والحديث بعنصرية وفوقية سواءاً كانت من متدينين تجاه أصحاب الأديان الأخرى أو تجاه من لا يقوم بهذه الفرائض، أو من قبل (التنويرين) تجاه من يقومون بتأدية شعائرهم الدينية دون فرضها على أحد وعلى اختلاف درجات تدينهم تدل على أن كل ما نعيشه كذبة، فليس من الممكن أن يجتمع التدين الحقيقي أو الثقافة الحقيقية أو الإبداع الحقيقي في أشخاص يتسمون بالعنصرية والحقد والإقصاء والتكبر..

فالدين لا يؤجج الأحقاد ويجعل الإنسان منشغلاً بتهذيب نفسه ومراقبة سلوكه، كما أن الثقافة تجعل صاحبها شخصاً ذا رؤية أكثر شمولاً وعمقاً واتساعاً واستيعاباً لإختلافات البشر وتقلباتهم وحتى تناقضاتهم لتقربه منهم على الصعيد الوجداني عكس ما نرى من التنظير الأجوف والمقيت والتعالي والغطرسة على الناس واستفزازهم بدون أي داعي بغرض الظهور، والذي ينسحب على الإساءة لثقافة أعراق أخرى كما يفعل البعض في عيد النوروز الكردي وفي كل مناسبة تخص فئة من أبناء الوطن التي يفترض أن تكون احتفالية للجميع لتعزز التواصل بينهم وهو أشد ما نحتاج إليه في هذا الوقت بين من يعيش بلا ماء أو كهرباء أو مأوى أو طعام أو دواء ويعاني ليصل إلى حد الكفاف أو يعاني ليؤمن الضروريات ويستمر في العيش بكرامة، أما من لا يقدر على قبول غيره فله ذلك شرط ألا يسيء لغيره حيث يمكنه ببساطة أن يبتعد عنهم ويتجنبهم بكل رقي وتحضر، فقد جربنا لعقود مختلف الأفكار الوافدة إلينا لكننا لم نجرب فعلياً حتى الآن أن نتعامل بمسؤولية لنكون (معاً) رغم تميز واختلاف كل منا فهل سنستطيع ذلك قبل أن تدوي صافرات الإنذار من جديد..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى