أشرف الخضري - مقدمة كتاب عودة كليلة ودمنة..

مقدمة كتاب عودة كليلة ودمنة.
The return of Kalila and Dimna

الحمد لله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، الحمد لله الذي علمنا ما لم نكن نعلم وكان فضل الله علينا عظيما، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وذريته وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. آمين.
كتاب كليلة ودمنة، واحد من أشهر الكتب في العالم.
أجمع العديد من الباحثين أن مؤلف الكتاب القديم البنجا تنترا أو الأسفار الخمسة، هو الحكيم الهندي وشنو شيرما، أو فشنو جيرمن، أو بيدبا، وهو الاسم الذي يرد ذكره في الكتاب في حوار دائم مع الملك دبشليم سنة 300 قبل الميلاد.
طبقا لسيرة الكتاب نفسه كليلة ودمنة، فقد تمت ترجمته إلى اللغة الفارسية القديمة من اللغة الهندية القديمة في زمن الملك الفارسي أنوشروان، بعد أن أرسل رئيس أطباء المملكة برزويه إلى الهند للحصول على نسخة منه ونجح في ذلك. وفي عهد الخليفة أبي جعفر المنصور قام الكاتب الشهير الفيلسوف عبد الله ابن المقفع بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية وقد أضاف إليه عدة أبواب وعشرات القصص والحوارات والمقالات الفلسفية الطويلة التي تحمل بصمته الخاصة وآراءه وأفكاره ويظهر ذلك بوضوح في الكتاب كله خاصة في باب بعثة برزويه إلى الهند. وقد ضمن ابن المقفع اسمه الحقيقي( روزبه ابن داذويه) ضمن اسم برزويه - من وجهتي نظري الخاصة - وقد رحل عن العالم وهو في السادسة والثلاثين من العمر بطريقة مأساوية مفجعة. (724 م ـ 759 م).
لقد عكف عدد كبير من كبار الأدباء والمستشرقين على تحقيق كتاب كليلة ودمنة وتقديمه إلى القراء في العالم كله، ندين لهم جميعا بالشكر وعلى رأسهم، البارون الفرنسي أستاذ المستشرقين سلفستر دي ساسي، والأب لويس شيخو، والأديب خليل اليازجي، والأديب مصطفى المنفلوطي والأديب أحمد حسن طبارة، والدكتور عبد الرحمن الصفتي، والدكتور عبد الوهاب عزام، كما دعم الكتاب أساتذة كبار وكتبوا له مقدمات كعميد الأدب العربي دكتور طه حسين، وشيخ الجامع الأزهر في عهد محمد على باشا، العلامة الشيخ حسن عطار.
في هذه النسخة سيجد القراء حبكات جديدة في بعض القصص، مع لغة سلسلة تناسب لغة العصر، واستحداث شخصيات وأحداث درامية ومعالجة مختلفة لبعض المشاهد. فهذه النسخة ليست تحقيقا للكتاب القديم وليست إعادة كتابة مطابقة لما ورد فيه، وقد اخترت أن ألتزم بجوهر القصص والعبرة منها والتسلسل الوارد في الكتاب والتخفف من المقالات الفلسفية الطويلة التي أبدع فيها ابن المقفع، فكتبت أجزاء منها وتخليت عن أجزاء، ولم أترك حكمة مضيئة أو صادمة كتبها ابن المقفع إلا وتركتها كما هي، لعبقرية المضمون والصياغة، كالجملة التي وردت على لسان كليلة لأخيه دمنة: المحتال يموت قبل أجله، وسبب التخفف أن القراء الصغار لن يطيقوا ذلك، فكتاب كليلة ودمنة ليس موجها للأطفال في الأصل، لكن جمال القصص وثرائها واستخدام الحيوانات والطيور أبطالا لأغلب القصص، فتح لها الطريق إلى عقول وقلوب الصغار والكبار.
هذه النسخة من الكتاب، تحت عنوان عودة كليلة ودمنة، موجهة بالأساس للأطفال والناشئين من تسعة أعوام حتى الثامنة عشرة، ويضم ستين قصة، وقد شرفتني مجلة نور بقيادة الدكتورة نهى عباس رئيسة تحرير المجلة باستحداث باب حكايات من التراث، لنشر القصص. ولا يمنع هذا التوجه من استمتاع الكبار بالكتاب، كما حدث خلال عمره الطويل البالغ 2323 سنة.
لقد أرهقتني الاختلافات الكثيرة بين النسخ العديدة من الكتاب، خاصة قصة الملكة إيلاذ ( إيراخت) والوزير بلار والملك، وهي أكثر قصص الكتاب عمقا وفلسفة وجمالا وإثارة، وبسببها ظللت أبحث بين النسخ والمخطوطات لأصل إلى الفقرة الأصلية، فقرة تفسير الأحلام الثمانية واسم العالم الحكيم الذي لجأ إليه الملك، بسبب وجود اختلافات كبيرة من نسخة إلى نسخة، وصياغات متباينة، أكدت لي أن الفقرة في كل النسخ المتوفرة ليست دقيقة ولا تطابق الأصل، وما شجعني على البحث بإصرار حصولي على مخطوط أصلي تملكه مكتبة الكونجرس الأمريكي، أرشدتني الفقرة الواردة فيه إلى حتمية وجود نسخة أصلية تختلف عما قرأته، فلم يكن مقبولا لي أن أعتبر أن كلمة (جندك) التي تم التسليم بأنها ( جسدك) في جميع النسخ، يمكن كتابتها كما هي بالاستسلام كما أربكتني الاختلافات البسيطة في تفسير الأحلام، فزاد إصراري على البحث، حتى وفقني الله وعثرت على عدة صفحات من مخطوط أقدم تملكه إحدى الجامعات الأمريكية، ووجدت فيه بقدر الله وتوفيقه الفقرة المنشودة، تفسير الأحلام الثمانية للملك، والاسم الأصلي للحكيم، فالحمد لله على كرمه وعطاياه.
أرجو من الله عز وجل أن يوفقني في إنجازه، و أن تساهم هذه النسخة في بقاء كتاب كليلة ودمنة حيا وملهما على مر العصور وضخ الدماء الجديدة في شرايين اللغة العربية وتطويرها المستمر، فلو أنني كتبت عبارة بن المقفع بدون ألف سيقرأها المئات من الجيل الجديد بمعنى البن / القهوة! كما سيعتبرون كلمة ويحك! بمعنى حك يده. يحك حكا! والمتعمق في قراءة كتب التراث سيعرف أن اللغة العربية تتطور مفرداتها وتراكيبها بشكل مذهل من زمن إلى زمن.
والله الموفق والمستعان.

أشرف الخضري.



* صورة لابن المقفع من خيال جبران خليل جبران.
1680370991669.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى