ذياب شاهين - كيف نقرأ القصيدة بأدواتٍ معاصرة بوصفها نصا متشعبا.. المتنبي أنموذجا

القراءة بوصفها اللحظة الأولى للدخول للنص، بالنسبة للمتلقي تنطوي على متعتين تجذبان القارئ للنص الشعري (القصيدة) ومكوناتها الأولية(الأبيات الشعرية والأشطر)، فالمتعة الأولى هي الاكتشاف، والثانية هي الفهم، ولكي نكتشف نصا ما يجب أن نقرأه ثم نحلله لمكوناته الصغرى( الجملة بوصفها مسندا ومسند إليه) وبوصفها كلماتٍ مرصوفة ضمن قالب معين، تكتمل متعة الاكتشاف عندما نؤشر ظلال المعنى الذي يفيض من الجمل والكلمات، أو المعنى الذي يكون مختبئا في ثنايا الجمل والكلمات، وهنا سنكون أمام قصديتين، قصدية القارئ وقصدية الشاعر، ولأن لكل منهما وعيه الخاص فنحن سنكون أمام قصدية الوعي وسندخل في حدود الفينومينولوجيا أو الظاهراتية(1)، إذن فاصطدام قصديتين ستنتجان محصلة لمعنيين، المعنى الذي كوّنهُ القارئ والمعنى الذي قصده الشاعر، وهذا المعنى سيكون ثمرة للقراءة وقد يكون ثمرة ناضجة أو مرّة لم تستوفِ نضجها بعد، ولكننا حينما نسأل عن جدوى القراءة أو جدوى المتعة الأولية وهي متعة شيقة لأنّها ستكون حوارا بين شخصين يعيشان في زمكانين مختلفين، وهنا حينما يكون القارئ محلل نصوص(ناقدا على سبيل المثال) سيكون له هدف أعمق من متعة القراءة لأن متعة القراءة ستكون(للقارئ العادي) ولكنها بالنسبة للناقد ومحلل النصوص ستكون غرضها التأويل (الهرمونيطيقا) وهي المتعة الأشهى طعما من متعة القراءة مع عدم التقليل من المتعة الثانية.
والسؤال هو كيف يحتاز القارئ الخبير متعته من تحليل النصوص، وخصوصا حينما يحلل نصوصا بعيدة عنه في الزمن والمكان على حقيقة أن مرموزات اللغة تتغير بدلالاتها بمرور الوقت وبإختلاف الأمكنة، وهنا سنكون على عتبة معنى أو معان متعددة بالنسبة للنص الواحد وهذا يمثل نتاجا طبيعيا للتعدد اللساني والدلالي للإشارات اللغوية (الكلمات) وتعالقها النحوي(التوليدي)، وكذلك للمداخل المتعددة نتيجة المرجعيات المختلفة للقارئ ولمبدع النص، هنا سيكون المعنى الذي انتجه المحلل بوابة للقارئ على ما وراء النص بمستوييه الذاتي(ذات الشاعر) وبمستواه الاجتماعي (ما هو خارج الشاعر) وبمستواه الجوهري( أي جوهر الأشياء) على حقيقة أن الشعر هو من يوصل القارئ لهذا الجوهر والماهية القارة لوجود الأشياء منفصلة بذواتها، وكأن القراءة الناقدة تعادل الضوء لينير النصوص كما ينير الضوء الأشياء ليراها المخلوق، ففي الظلام تنعدم الرؤيا ولا يبان أي شيء.
ولو أخذنا أحد الأبيات للمتنبي ونحللها لتكون مثالا تطبيقيا على ما قلناه، حيث نقرأ(2):
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وهنا حينما نقرأ البيت بداية ستكون قراءتنا الأولى استكشافية، والبيت كما هو معروف غير منقطع السياق بل نفترض أن القارئ قد قرأ القصيدة ويعرف مكان البيت فيها فضلا عن المناسبة التي قيلت فيها هذه القصيدة، إنَّ المتنبي بوصفه شاعرا عظيما أدخلنا في متعة غير عادية، فالبيت بسيط جدا ويبدو مفهوما وواضحا وضوح الشمس، ولكن أحيانا شدة الوضوح تخدع الرائي، وأول ما سنسأله هو كيف استطاع أن يحشد هذه (الملفوظات) ضمن بيت واحد على بحر البسيط ولا يجمعها إلا فعل واحد(تعرفني) وهو عبارة عن (فعل + مفعول به) والبقية فواعل ليست بفواعل على الأقل بالمستوى الإعرابي، لأنها مبتدأ(الخيل) وكلمات أخرى أضيفت للمبتدأ(والليل والبيداء والسيف والرمح والقرطاس والقلم)، فنحن في جملة تعددت فواعلها ولكن الفاعل فيه ضمير مستتر تقديره(هي) وهنا تتجلى عبقرية المتنبي نحويا وعروضيا.
ولكن كثرة الفواعل التي حشدها الشاعر توسلها لغرض الفخر واعتداده بنفسه أمام جمع معادٍ له وأمام سيف الدولة وهو عظيم زمانه، وهنا سنقرأ مقدار الأسى الذي كان يشعر به الشاعر حينما كتب هذا البيت والقصيدة، هنا يضع الشاعر نفسه مركزا تدور حوله الأشياء، وهي التي تعرفه فهو يريد أن يقول بأنه مركز المجرة(الشمس) والبقية تدور حولي(كواكب محض)، ولو تناولنا الملفوظات التي ذكرها بالبيت فهي ليست ملفوظات ميتة وبلا تاريخ بل لكل ملفوض معنى وتاريخ زمني عميق، فحينما يقول(الخيل تعرفني)، وهنا سنجد تاريخا كبيرا للخيل تنطوي عليه اللغة العربية، فنتساءل أهي تعرفهُ بوصفه فارسا ومحاربا وضاعنا وكأنه يحيلنا إلى قول عنترة(3):
هلّا سألتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكِ ...إنْ كنتِ جاهلةً بما لم تعلمي
وهنا يكون الشاعر بهذه الإحالة قد اتهم الجمع بالجهل بما فيهم الأمير، وقد تكون هذه جرأة وقحة أو شجاعة لو قرأت بهذه المنحي من قبل الحاضرين، فهو قد قطع كل السبل في التئام العلاقة بينه وبينهم وهي أصلا متوترة.
ولكننا سنعطي احتمالات أخرى وهي متصلة بتساؤلاتنا السابقة حيث نسأل هل الخيل تعرفه بوصفه مربيا وتاجرا أو متسابقا ومقامرا، أم ماذا، فهنا ستكون الخيل دلالة رجراجة فإما تكون تورية لتدل على الفرسان الذين ركبوها ويعرفون الشاعر أو يركبونها لتوصلهم لمكان الشاعر ليستمعوا إليه وهو ينشد الشعر، أو أنه يراها ليست بحيوانات غفل بل لها القدرة على معرفته حق قدره فهو المتنبي وخير من تسعى به قدم، وهناك معنى طريف استخدمه جرير في هجاء الفرزدق حينما عيّره بأن أباه كان حدادا قد أورثه السندان(العَلاة) في حين أن آباءه أورثوه الفروسية(رباط الخيل)(4):
فأورثك العَلاة وأورثونا رباطَ الخيلِ أفنيةَ القباب
وهذا يدل على أن المتنبي كان متفاخرا بنفسه وهاجيا لجميع من في المجلس بما فيهم سيف الدولة،
وحينما ينتقل المتنبي من الخيل إلى الليل قائلا (الليل يعرفني)، فالتلقي يحاول استكناه هذه الاستعارة العميقة لكي يهتدي إلى ما يقصده الشاعر بذلك، فنتساءل أنى لليل أن يعرف المتنبي، أيعرفه بوصفه أحد سراته(أي إنه يمشي ليلا ويرتاح نهارا)، أم بوصفه أحد سهّادِه (يكتب قصائده ساهرا وساهدا في جلب المعاني لها)، أم بوصفه القمر الذي ينير هذا الليل(فهو مركز الاجتماعات التي تحدث ليلا ويكون هو نجمها الذي يتجمع حوله الآخرون) أم أنه الضوء الذي سيطرد الليلَ عند الصباح وهنا سنجد بيتا لأبي تمام بهذا المعنى حين يقول(5):
قد شرَّد الليلَ هذا الصبحُ عن أفقِهْ وسوَّغ الدهرُ ما قد كانَ من شرقِهْ
وهنا ستكون الدلالة خطيرة فهي هجاء مبطن لمن في المجلس، أم أنه يقصد الليل بوصفه زمنا أي إن الزمن يعرفه، أم كل هذه الدلالات المتشعبة والقارة، ونحن نعرف تاريخا غائرا في اللاوعي الشعري عند العرب لملفوظ الليل منذ أمرؤ القيس(6):
وليل كموج البحر أرخى سدوله...عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
مرورا بالنابغة الذبياني حين يقول(7):
فأنكَ كالليل الذي هو مدركي....وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسعُ
مرورا بأبي نؤاس وملهياته(8):
( فقلتُ، والليل يجلوه الصباح كما... يجلو التبسم عن غرَّ الثنياتِ)
فالليل يمثل معادلا موضوعيا بتعبير ت.س.إليوت يوظفه الشعراء بحسب الحالة النفسية والوجودية التي يعيشها.
وحين يقول المتنبي(البيداء تعرفني) فنحن أمام شخصنة للمكان فبعد أن ذكر الليل بوصفه زمنا جاء ليذكر لنا البيداء بوصفها مكانا، تلك الأرض الشاسعة التي لا يقطعها إلا الرجال الشجعان لقساوتها ومخاطرها الجمة ولتاريخها في حياة الأمة والشعر بصورة خاصة، وهنا لابد من التنويه أن الشاعر( ذو الرمة) يعتبر من أهم الشعراء المرتبطين بالصحراء ومخيالها، حيث يصف البيداء قائلا(9):
يهماءُ هيماءُ وخَرْقٌ أهْيَمُ هورٌ عليهِ هَبَواتٌ جثَّمُ
واليهماء تعني الفلاة والهيماء التي لا ماء فيها، والخرق تعني الواسعة، والأهيمُ التي لا اتجاه لها، والهبوات تعني الغبار، والشاعر المتنبي يريد إخبار مستمعيه في ذلك الوقت ويخبرنا بأن الزمكان يعرفه ولا يستطيع أحد أن ينافسه بهذه المعرفة التي يفتخر بها، ثم ينتقل إلى ملفوظات الأدوات ويذكر الأسلحة( السيف والرمح ) وتمثل تعزيزا وتأكيدا لفروسيته التي ذكرناها مع الخيل، أو لبراعته بوصفه شاعرا لتكون مرموزات عميقة الدلالة بشعره،
ولا شك أن أشهر بيت ذكر فيه ملفوظ السيف كان لإبي تمام في يوم عمورية(10):
السيفُ أصدق إنباءً من الكتبِ في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللعب
وكذلك ذكرت الأرماح(مفردها رمح) في القصيدة ذاتها:
والعلم في شهب الأرماح لامعة بين الخميسين لا في السبعة الشهبِ
وكذلك نقرأ لأبي نؤاس مجموعة من التشبيهات للرمح والسيف(11):
فالسيفُ مضحكهُ والرمح حاجبهُ والسهم عيناهُ والأهداب أرماحُ
ونحن إذ نذكر الأبيات فإنما نورد تاريخ الملفوظات بوصفها دلالة على الفخر، وأخيرا يذكر (القرطاس والقلم) وهي الأدوات التي يستخدمها بالكتابة ، ولو بحثنا عنهما لما عدمنا وجودهما في الشعر العربي والقرآن الكريم أيضا، كما في قول الفرزدق(12):
اللهُ شرَّفهُ قدما وعظَّمَهُ جَرى بذاك له في لوحهِ القلمُ
ومطلعُ القصيدة هو ما يُحيلُ إليهِ تورية بيت المتنبي، حيث يقول الفرزدق(13):
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيتُ يعرفه والحلُّ والحرمُ
فالبحر والقافية متشابهان في القصيدتين، ولو استبدلنا ملفوظ البطحاء بالبيداء، سنجد أن المتنبي يستعين بالفرزدق كي يعرف الآخرين بهويته، فاصعب الأمور حينما تريد أن تعرف المعرّف، لأن المعرّف لا يعرف.
والقرطاس والقلم هما سر مهنته وعبقريته فهو أمير البيان ولسانه الذي غطى الآفاق بزمنه المعيش ممتدا حتى زمننا هذا.
المتنبي وهو يفتخر بنفسه بهذه الطريقة، إنما يهجو الذين يتعمدون تجاهله والإساءة إليه ممن يحيطون بسيف الدولة، وهو أيضا يعاتب ويلوم الأمير لأنه يستمع إليهم وكأنه يذكره بقصائده التي لولاها لما عرف انتصاراته الناس في أنحاء الدولة الإسلامية، وهنا نقرأ علاقة الشاعر بوصفه ذاتا إنسانية مع الذوات الأخرى، فالشاعر يبدو لنا وكأنه قد وصل من حالته الوجودية للحالة العدمية بتعبير سارتر، وأراد أن يقلب المعادلة ليكون وجودا حقيقيا يقابله عدم الآخرين، لكنه برأينا كان يخوض معركة خاسرة فالواحد لايمكنهُ أن يكون نظير الكل، وخصوصا عند الملوك، فالملك أو الأمير لا يبني مملكته على الشعراء بل على القواد والموالين، ومهما تكون عظمة الشاعر فهو لن يحل مكانهم، وبرغم أن المتنبي عرضَ نفسه بطريقة معرفية لكن المعرفة لا تنفع مع العسكر والقواد، وبالتالي خسر المتنبي المعركة نفسيا ووجوديا بوصفه فردا اتجاه المجموعة المتربصة به، لكنه ربحها شعريا ومعنويا ليرحل عن حلب، ونحن كقراء تبهرنا براعة المتنبي في بناء قصيدته وكذلك يبهرنا في رسم صورة للزمن الذي كان يعيش به وبالتالي يكون النص الشعري مرآة لما يعتمل في ذات الشاعر من مشاعر إنسانية كالغضب والحزن والخوف، وكذلك يكشف لنا عما كان يحيق بالشاعر من دسائس ومشاعر كره وحقد وحسد، وهو ما يدلنا على شيء من طبائع الناس في ذلك الوقت، والقصيدة هي القنطرة الذهبية بين ذات الشاعر وبين المجتمع وما الكلمات بتاريخها المحمل بالرموز إلا أدوات يوظفها الشاعر لبناء قصيدته المنبعثة من ثنايا روحه فرحا أو حزنا، وتكون الكتابة الشعرية قضية وجود وبحث دائم عن الحرية والكرامة البشرية في الأزمنة كلها لكنها(أي الحرية) تبقى حلما بعيد المنال ويموت الشاعر دونها.

بابل- السبت
‏01‏/04‏/2023‏


الهوامش والمصادر
1- المعنى الادبي من الظاهراتي الى التفكيكية/ وليم راي/ ترد. يوئيل يوسف عزيز، دار المأ/ون للترجمة والنشر، بغداد 1978،ص17.
2- ديوان المتنبي- دار بيروت للطباعة والنشر- بيروت- لبنان- 1983 – ص 332
3- ديوان عنترة - تحقيق محمد سعيد مولوي-- المكتب الإسلامي- ص213
4- ديوان جرير- دار بيروت للطباعة والنشر- لبنان- بيروت- 1986 - ص 29
5- ديوان أبي تمام- فسره محيي الدين الخياط- ص210
6- ديوان أمرؤ القيس- شرح عبد الرحمن المصطاوي- دار المعرفة- بيروت لبنان- 2004- ص14
7- ديوان النابغة الذبياني- شرحه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور- الشركة التونسية للتوزيع- 1976- 167ص
8- ديوان أبو نؤاس- ص97
9- ديوان ذي الرُّمة- شرحه أحمد حسن بسج- دار الكتب العلمية-بيروت لبنان-ط1 -1995- ص221
10- ديوان أبي تمام- م س - ص7
11- ديوان أبي نؤاس- ص 127
12- ديوان الفرزدق- شرح علي فاعور- دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان- ط1-1987- ص 513
13- م ن – ص 511

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى