أ. د. محروس بريك - البديع في القرآن الكريم

النص القرآني أبعد ما يكون عن الزخارف اللفظية، وإذا ما قصدَ إلى البديع فإنه لا يقصد إليه في ذاته لكونه زخرفًا وحِليةً لفظية، بل لكونه تابعًا للمعنى؛ فالقرآن نفسه الذي يتبع كلمة الفاصلة بألف الإطلاق كما في سورة الأحزاب: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) الأحزاب:67، هو نفسه الذي يتخلى عن هذه الألف في كلمة الفاصلة نفسها (السبيل) من السورة نفسها في قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) الأحزاب:4، ولو كان الأمر أمر زخرف لفظي لوصلها بالألف كي تتساوى المقاطع وتتوافق الفواصل. ولأن المعنى في القرآن هو رأس الأمر وذروة سنامه أطلق حين اقتضى المعنى ذلك الإطلاق، وتخلى عن ألف الإطلاق عندما اقتضى المعنى التخلي عنها؛ ذلك أن السياق مختلف في كلا الموضعين؛ ففي آخر سورة الأحزاب يقول تعالى: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) الأحزاب: 66-67، فالسياق هنا يرشح إتيان الفاصلة في الآيتين موصولة بالألف لغرض معنوي؛ إذ الكلام على لسان الكافرين وهم يصطرخون في نار جهنم، ويمدون أصواتهم بالعويل، نادمين- ولاتَ ساعةَ مندمٍ- على عدم اتباع الرسول، وطاعة سادتهم الذين زينوا لهم الباطل فأضلوهم سبيل الحق. ففي زيادة الألف إطلاقٌ للصوت حكايةً لمد أصواتهم بالاصطراخ والعويل، وتجسيدًا للمشهد وكأننا نبصرهم يتقلبون في نار جهنم ونسمع صراخهم وبكاءهم. ولا يخفى إذن أن السياق في بداية سورة الأحزاب لا يقتضي ذلك المد بالألف لانعدام بواعثه، فجاءت كلمة الفاصلة (السبيل) على أصلها دون مدّ.
ولتغليب جهة المعنى نجد القرآن يخالف المتوقع فينأى عن التضاد – على سبيل المثال - كما في قوله تعالى في سورة الأنعام: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الأنعام:17، فجمع بين (الضر) و(الخير)، في حين أن (الضرّ) يقابله (النفع)، و(الشر) يقابله (الخير)؛ لكن المعنى لا يقتضي ذلك التقابل؛ إذ الضر أخص من الشر، والخير أعم من النفع؛ ذلك أن الخير لا يقتصر على إصابة الخير فحسب، بل إن دفع الضُّر ضربٌ من ضروب الخير كذلك؛ فقد يكون الخير في إتيان الأمر أو في تركه، حسبما قدر الله تعالى لك الخير في أحدهما، وذلك معنى قوله تعالى (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ)البقرة:216.
لذلك كله غلّب الله عز وجل جهة رحمته، فجاء في جهة إصابة الخير بلفظ أكثر عمومية، وفي جهة مس الشر بلفظ أقل عمومية. وذلك ما تؤكده الشواهد في هذه الحياة من جهة غلبة ما قدره الله للبشرية من خير على ما قدره لها من شر.
أما إذا ما تعانق المعنى والبديع كلاهما فإن القرآن يأتي بذلك الضرب من النظم دون أن تلحظ زخرفًا لفظيًّا أو أن تقع على نتوء لغوي زائد؛ وما أجمل الجناس الناقص في قوله تعالى: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ)الأنعام: 26، بل إنك إذا أمعنت النظر وجدت أن الحرف المخالف بين كلمتي (ينهون) و(ينأون) هو سر ذلك الجمال البديع، فـ(الهاء) في (ينهون) و(الهمزة) في (ينأون) كلاهما حرف حلقي، لكن لما كان النهي ضربًا من (القول) والنأي ضربًا من (الفعل)، ناسب ذلك (القول) تلك الهاء المهتوتة – على حد تعبير الخليل بن أحمد – في حين ناسب ذلك (الفعل) صوت الهمزة الأشد وَقْعًا. فانظر كيف عمق البديعُ جهةَ المعنى وجعل الصوت معبرًا عنه أوفق تعبير.


أ. د. محروس بريك / مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى