د. علي أسعد وطفة - المرتكزات السوسيولوجية للظواهر السيكولوجية عند فيكوتسكي: هل يمكن إرجاع الظاهرة النفسية إلى أرومتها الثقافية؟

مقدمة :
تعد نظرية فيكوتسكي (1896-1934) البنائية، من أكثر الطفرات العلمية خصوبة وتألقا في تاريخ علم النفس الحديث، وهي تترجم عبقرية فيكوتسكي البنيوية التي أدهشت معاصريه في نهاية القرن التاسع عشر، بما قدمته من عطاءات مذهلة بكل المقاييس العلمية في مجال علم النفس والتطور النفسي والعقلي عند الأطفال([1]).

ولد ليف سومينوفيتش فيكوتسكي Lev Vygotsky عام 1896، و ترعرع إبان الثورة الروسية بأحداثها الدموية المريعة؛ انتسب إلى كلية الحقوق وتخرج من الجامعة سنة 1917، أي في العام الذي انتصرت فيه الثورة البلشفية وتولت مقاليد السلطة في روسيا. وعلى أثر تخرجه من الجامعة تركز اهتمامه العلمي في مجال علم النفس بصورة عامة وعلم نفس الطفولة بصورة خاصة، وقد وشكل موضوع نمو الأطفال و تطورهم النفسي شغله الشاغل وموضعه الرئيس، حيث وجد نفسه في مهنة التعليم والطب النفسي بعيدا عن ميدان التخصص الجامعي الحقوقي الذي انخرط فيه بداية في الجامعة([2]). ومن ثم بدأت عبقرية فيكوتسكي تظهر بوضوح في مجال البحث العلمي عندما بدأ بنشر مجموعة من المقالات الرائعة في مجال علم النفس، وهي الأعمال التي وجدت طريقها إلى المؤتمر الثاني للأمراض العصبية و النفسية بلننجراد عام 1924.

كان فيكوتسكي مؤمنا بمبادئ الثورة البلشفية، متحمسا لتعاليم ماركس؛ وكان يعتقد بأن النظام الاشتراكي هو النظام الأمثل لمجتمع إنساني تسوده قيم العدالة والحق والمساواة. وتحت تأثير هذه النزعة الماركسية كتب مقالا بعنوان "التغيير الاجتماعي للإنسان" في عام 1930 يبين فيه أن التحول الثوري للمجتمع كان ضروريا لتغيير الحياة المادية والظروف المجتمعية.

وتحت تأثير هذه الرؤية الأيديولوجية الماركسية، بدأ فيكوتسكي يؤسس لعلم النفس الماركسي منطلقا من مفاهيم ومبادئ الماركسية وتصوراتها، مضفيا عليه ملامح نزعة اجتماعية مفرطة تنطلق من أهمية التغيير الاجتماعي في إحداث منظومة من التحولات البنيوية في مجال سيكولوجيا الجماهير والحياة اليومية، وفي دائرة هذا التوجه السيكولوجي بدأ يدرس الظواهر النفسية في ظل التحولات المجتمعية الطبقية، التي شهدها المجتمع الروسي تحت مطارق الثورة البلشفية. لقد أحدثت الثورة البلشفية ثورة في الأمزجة وفي التصورات والتكوينات النفسية للمجتمع في روسيا القيصرية، وفي ظل هذه الأوضاع بدأ المجتمع يشهد تحولات سيكولوجية واسعة، وعلى هذا الأساس بدأ فيكوتسكي يفكر في الجوانب الاجتماعية للعملية النفسية، ويرى أصولها متجذرة في طبيعة الحياة الاجتماعية، وعلى أساس هذه الرؤية تكونت عقيدته السيكولوجية في الإيمان الكبير بأن الظواهر النفسية تُفسر بالطبيعة الاجتماعية وترتد إلى أصولها المجتمعية، وينطلق هذا التصور من إقرارا شامل بعقيدة علمية تؤمن بأن سيكولوجيا الجماهير يمكن أن تُحدد وَترتسم عبر تحولات مجتمعية عميقة الجذور. وقد شكلت رؤيته هذه نابضا أساسيا من نوابض تطور النظرية الماركسية في علم النفس، وهذه الرؤية كانت متشبعة بالطابع الأيديولوجي، حيث كان يعتقد بأن علم النفس الماركسي ليس مجرد مدرسة بين المدارس، بل هو علم النفس الذي يشتمل بذاته على خصائص العلم الحقيقي دون غيره من النظريات السيكولوجية التي كانت قائمة في عصره، ولذلك فإن فيكوتسكي يعد في حقيقة الأمر واحدا من كبار مؤسسي علم النفس الماركسي ودعاته في القرن التاسع عشر([3]).

وفي ظل هذه العقيدة الأيديولوجية الواضحة لعلم النفس، عمل فيكوتسكي على تطبيق المبادئ الماركسية في الكشف عن قانونية الطبيعة النفسية للإنسان، وهو في هذا السياق يتنكر للنظريات السطحية التي اعتمدها بعض معاصريه من علماء النفس تأسيسا على مقولات منطقية تتعلق بالقوانين العامة للماركسية ولاسيما قانون التحولات الكمية إلى كيفية، وقانون وحدة وصراع الأضداد، وقانون نفي النفي، وغير ذلك من القوانين والمبادئ العامة التي شكلت منهجا سيكولوجيا اعتمده بعض مفكري علم النفس الماركسي في تأسيس تصوراتهم النفسية. و على خلاف ذلك انطلق فيكوتسكي من المنهجية الماركسية في أصولها العلمية التي تعتمد على مبدأ الملاحظة والتجربة في اتجاه الكشف عن معالم سيكولوجيا الإنسان وتطور العقل الإنساني([4]).

لقد أكدت أعمال فيكوتسكي الأولى، في جامعة موسكو، آراءه عن تأثير التكوينات الاجتماعية الثقافية في تشكل الظواهر النفسية وتطورها، فالصراعات والتناقضات التي نجمت عن الثورة الروسية، خلفت أنماطا متعددة من المشكلات السيكولوجية، ولاسيما هذه التي تتمثل في أمراض نفسية عاناها المجتمع الروسي إبان الاضطرابات الدموية في ذلك العصر. لقد عمل فيكوتسكي مع مرضى هذه المرحلة، و لاحظ أن أغلب هذه الحالات المرضية يمكن أن تعالج عبر فعاليات اجتماعية ناجعة ترتكز إلى مبادئ المساندة والتوجيه والإرشاد والتشجيع، التي تساعد المرضى في التعويض عن آلامهم النفسية ومعاناتهم السيكولوجية، فالتعويض الاجتماعي غير المباشر يمكّن المريض من القيام بعدد من الوظائف السيكولوجية ولاسيما القراءة و التواصل و التذكر و التفكير و الاستنتاج([5]).

الخصائص الاجتماعية التاريخية للظاهرة النفسية:

يبرر فيكوتسكي الطبيعة الاجتماعية للظاهرة السيكولوجية بتأكيده على أن الظاهرة النفسية نتاج للتفاعل الاجتماعي والتجارب الاجتماعية المكونة للثقافة، وبالتالي فإن الثقافة بما تشتمل عليه من علامات ورموز ومصطلحات لغوية وقيم ومنتوجات إنسانية تشكل العناصر الأساسية للتفاعل الاجتماعي الذي يوجد في أصل الظواهر النفسية.

فأسلوب التنشئة الاجتماعية، بما تنطوي عليه من تفاعل بين الآباء والأبناء، تملي على الأطفال صيغا سيكولوجية محددة في طريقة استجاباتهم وتفاعلهم، فطريقة الآباء في السيطرة على الأطفال تحدد للأطفال نوع وطبيعة المشاعر التي تمتلكهم، وتشكل منطق رؤيتهم للوجود، بصورة تبدو على نحو سيكولوجي راسخ المعالم. فطرق تربية الأطفال و الاهتمام بهم تؤدي إلى خلق شخصيات اجتماعية منفتحة أو منعزلة، كما أن التسلط الدائم على الطفل و عدم منحه الحرية الكافية تكون شخصا سلبيا مسلوب الإرادة، وعلى خلاف ذلك، فإن إعطاء الطفل حرية التعبير عن الرأي و الاهتمام و الثقة الكافية، تولد لديه قوة الإرادة وتعطيه ملامح شخصية فاعلة، وهذا يعني بالنتيجة أن سيكولوجيا الطفل تتشكل في أتون التجربة الاجتماعية للتنشئة الاجتماعية بما لها وما عليها، وعبر هذه التجربة التربوية المجتمعية تتشكل طبيعة الطفل النفسية بما تنطوي عليه من مشاعر وجدانية ومضامين تتعلق بأنظمة الوعي والإدراك والأحاسيس([6]).

فالثقافة الإنسانية كما يؤكد فيكوتسكي تشكل الظواهر السيكولوجية عبر علاقة الفرد مع العالم الذي يحيط به: فالجلوس على الكراسي، و تناول الطعام باستخدام أدوات المائدة، وما يتعلق بالحيّز المكاني لشروط الطعام، يؤثر في تكوين سيكولوجية الفرد بطريقة مختلفة عما إذا كان يتناول طعامه جالسا إلى جوار شخص آخر على الأريكة، أو تناول الطعام باليد، وبالتالي فإن العيش في شكل مثلث يولد معطيات مختلفة عن تلك التي توجد في شكل دائري.

وإذا كان للمكان هذه الأهمية في تحديد الخصائص السيكولوجية للفرد، فإن أهمية الرموز الثقافية تفوق هذه الأهمية وتتجاوزها إلى حدّ كبير، فالرموز والمعاني والتصورات الثقافية القائمة تشكل وتحدد وتبلور الصيغ المختلفة للتكوينات السيكولوجية المتعددة. فالطريقة التي ندرك بها الأحداث تحدد ردود أفعالنا الانفعالية تجاهها، فهناك أحداث وأفعال تغضبنا وتحزننا أحيانا، وتفرحنا أحيانا أخرى، وهذه الحالات الانفعالية مرهونة بالتفسير الذي نعتمده لتحديد طبيعة هذه الأفعال. وهذا يعني أن التفسير الذي نسقطه على الأشياء هو الذي يحدد موقفنا السيكولوجي منها، فعلى سبيل المثال، بعض الناس يغضبون جدا لانهيار مبنى تحت تأثير زلزال طبيعي، لأنهم يعتقدون أن هذا المبنى لم يستوفي الشروط المطلوبة للأمن ضد الزلازل، ولذلك فإنهم يهاجمون السلطة والأنظمة السياسية القائمة لإهمالها وعدم العناية بالشروط الهندسية للبناء؛ ولكن بعض الناس يحزنون فقط لأنهم يرون في هذا الفعل الطبيعي تجليا للقضاء والقدر والامتحان الإلهي للإنسان على الأرض، و لذا فإن بعض الأحداث المؤلمة في المجتمعات ذات الثقافة التقليدية لا تلقي لومها على السلطة السياسية ولا تمتلكها مشاعر الغضب.

وهذه الوضعيات الانفعالية تنسحب على القضايا التي تتعلق بطبيعة إدراك الناس للمسافات والأحجام والأوزان والحركة، حيث تكون لكل شعب أو جماعة طريقتها في فهم الأشياء وتفسيرها والتفاعل معها وجدانيا بطرق انفعالية متنوعة؛ على سبيل المثال: يدرك الفلاحون في أوزباكستان ألوان معينة على أنها مختلفة وغير متجانسة بطريقة تختلف عن إدراك المعلمين لها الذين يرونها متشابهة متجانسة، ويفسر هذا التباين الإدراكي بالخلفية الثقافية لكل مجموعة، فإدراك الفلاحين للألوان مرتبط بالأشياء، بينما إدراك المعلمين للألوان هو إدراك مجرد يحمل طابعا رمزيا، فالفلاحون يرون أن لون روث البقر يختلف عن لون روث الخنزير لأنهم من مصدرين مختلفين، بينما يرى المعلمين أن اللون البني منفصل أو مجرد و لا يربطونه بشيء آخر، فيصنفون الألوان على هذا الأساس.

ويعيد فيكوتسكي أصنافا أخرى من الظواهر السيكولوجية مثل الإدراكات الخاطئة و فقدان الذاكرة إلى أرومة اجتماعية، ويعلن بأن فقدان الذاكرة يمكن أن يفسر بأنه صيغة من صيغ التجليات اللاشعورية ناجمة عن بواعث اجتماعية، ويبين في هذا السياق أن التصورات الجماعية برموزها وآليات اشتغالها هي التي تحدد طبيعة إدراك الفرد كما أنها تحفز بعض أنماط السلوك و تثبط أنماط أخرى. ويعمم فيكوتسكي رؤيته هذه على أنماط الذكريات التي تتعلق بالماضي حيث يعتقد بأن هذه الذكريات تتلون بمعاني الحياة الاجتماعية وترتسم بوحي من دلالاتها، فالأحداث الاجتماعية بمضامينها واتجاهاتها ودلالاتها تشكل ذكريات الفرد وترسم له ملامح ذاكرته الإنسانية.

وتجد هذه الفكرة ما يساندها في دراسة قام بها روبنز ( 1963 ) حول سلوك بعض الآباء المتعلمين في مدى مطابقة الذكريات لطريقة تغذية الأطفال، و قد وجد أنه الذاكرة تأخذ مسارا توافقيا مع بعض العادات والتقاليد والقيم السائدة. وهذا ما يؤكده روبنز حيث وجد بأن الذكريات تنحرف عن مسارها بتأثير العادات والقيم السائدة في المجتمع فحوالي نصف عدد الأمهات ( أفراد العينة) أخطأن في تذكر كيفية إطعام أبنائهن ( هل تم ذلك بناء على طلب الأبناء؟ أو بناء على وجود جدول معين؟ )، لقد أعلنت أكثر من 65% من الأمهات أنهن كن يطعمن أطفالهن بناء على طلبهم لا بناء على جدول زمني، و ذلك لأن النمط الأول هو النمط المفضل اجتماعياً. ولاحظ الباحث عدم دقة الأمهات في تذكر عادة مص الأصابع لدى أطفالهم حيث أنكرن ذلك لأنه سلوك غير محبب اجتماعياً.

و في نفس السياق السابق يثبت كل من كوردو و ماكجرو و درابمان بأن ذاكرة الأطفال حول دور الجنس الموصوف في القصص يعتمد على أهمية هذه الأدوار في التقسيم المعياري الجنسي للأعمال في المجتمع. و التقسيم المعياري لدور الفرد في القصص قائم على أساس الجنس مثلاً: الرجل هو الطبيب، و المرأة هي الممرضة، و هو التقسيم الأكثر دقه لقبول دور النوع من الآخر المناقض لنظرة المجتمع الطبيعية لتوزيع الأنواع على الأدوار ( مثلاً: أن يكون الرجل ممرض و المرأة هي الطبيبة ).

وإذا كانت الأحداث الاجتماعية، ووقائعها وقيمها، تؤدي إلى تشويه الذكريات، فإن الحياة المجتمعية لا تؤدي إلى هذا الدور السلبي دائما، لأنها في معظم الحالات تسهم في جعل الذاكرة أكثر دقة، لأن المفاهيم الاجتماعية تنظم الذاكرة لاستدعاء الخبرات الأكثر شيوعاً، فالاعتماد على تناغم الحياة الاجتماعية، تمكن الأشخاص عادة من استدعاء الحوادث التي حدثت فعلاً، ولكن حالة تشويه الذكريات تكون في المواقف التي لا تتطابق فيها الأحداث السابقة مع الخبرات الشائعة حيث يمكن حذفها أو تجاهلها.

فتذكر الألوان يعتمد على الطريقة التي تستخدم فيها تلك الألوان في التواصل الاجتماعي. فقد أثبتت دراسات عدة بأن الألوان ذات المدلولات اللغوية و التي تستخدم في عملية التواصل الاجتماعي يمكن استدعائها بسهولة أكثر من تلك التي ليس لها مدلولات لغوية و لا تستخدم في عملية التواصل الاجتماعي. هذا ويبين كل من راتنر و ماك كاثي (1990 ) بأن تذكر الألوان يعتمد على ما إذا كانت تلك الألوان مرتبطة و تتوافق مع أشياء ذات علاقة بخبرات الشخص الثقافية، فالخلفية الثقافية للأشخاص تحسن من تذكر الألوان أكثر من الخصائص الشكلية للألوان مثل صفائها.

ويتجاوز الدور الاجتماعي للحياة تأثيره إلى بعض أشكال الخرف النفسي، ففي المجتمعات التي تسودها الخرافات والتطير والمفاهيم غير المنطقية، يبني الأفراد توقعاتهم وإدراكهم لذاتهم و مظهرهم الخارجي و أفكارهم عن كيفية التعامل مع الحياة والضغوط بطريقة مَرَضية، حيث يؤدي استمرار هذه التصورات إلى تشويه حقيقي في تكويناتهم النفسية والإدراكية.

وفي اتجاه الكشف عن العلاقة بين الوظائف السيكولوجية، والحياة الاجتماعية يبين فيكوتسكي([7]) أن مشكلات الحياة تؤدي إلى تطور مختلف الوظائف العقلية والذهنية للفرد مثل: الإدراك، الذاكرة، الانتباه، ويعاد تشكيلها على أساس جديد وفقا لوضعية اجتماعية واضحة البيان. فالثقافة هي التي تحدد الجوانب السيكولوجية للفرد، ولاسيما فيما يتعلق بالمشاعر والأحاسيس والدوافع و الاحتياجات و الإدراك و الذاكرة والتخيل، وبالتالي فإن هذه العناصر السيكولوجية هي أجزاء مكملة لمخطط الإدراك المعرفي الثقافي، ومرتبطة بالشخصية الواعية الاجتماعية([8]).

الأسس الفيزيولوجية للظاهرة النفسية:

يؤكد فيكوتسكي من جانب آخر على أهمية الأصول البيولوجية للظاهرة السيكولوجية، ويرى بأن العوامل الفيزيولوجية تمارس دورا واضحا ومتنوعا في تشكيل معالم الظواهر السيكولوجية، حيث يتنوع دور العوامل البيولوجية في التأثير على الخبرات السيكولوجية طوال مراحل الحياة. ويلاحظ فيكوتسكي في هذا السياق أن تأثير العمليات البيولوجية يبدأ فعله ونشاطه في مراحل الطفولة المبكرة، ويبدأ دوره بالتراجع لصالح العوامل الاجتماعية تدريجيا، ويطلق فيكوتسكي على هذا التحول أسم العوامل الجينية الاجتماعية للظواهر السيكولوجية.

تبعاً لهذه الدراسة فإن ردود الأفعال البيولوجية المنعكسة عند الأطفال التي ترتبط بالغرائز والهرمونات هي التي تحدد سلوك الأطفال والحال لا يختلف كثيرا عند الأطفال عنه عند الحيوانات. فأنماط السلوك الطفولي بما يشتمل عليه من ابتسام و بكاء و عناد وردود أفعال عبارة عن أنماط من السلوك البيولوجي البسيط المتكرر، وهي العمليات التي يطلق عليها فيكوتسكي بالأنماط السلوكية الدنيا. فالطفل الذي يتحرك تحت تأثير هذه العمليات الدنيا من السلوك، يستجيب تلقائيا وعفويا دون تفكير أو إدراك للعالم من حوله، فهو يندمج معه فقط ويتفاعل على نحو آلي عفوي بيولوجي([9]).

فالعمليات البيولوجية الدنيا، ليست ظواهر سيكولوجية بالمعنى الدقيق للكلمة، لأنها لا تنطوي على الفهم أو الخبرة، بل هي كما يصفها فيكوتسكي عبارة عن ردود أفعال عمياء للمنبهات الخارجية والداخلية. فالظواهر النفسية ظواهر معقدة، وهي تتطلب انفصال الكائن عن العالم ليكوّن ذاتا مستقلة، تمكنه من فهم التجارب والمثيرات والوسط، وتجعله قادرا على اختبار العالم الذي يعيش فيه. وهذا الانفصال عن الواقع باتجاه تكوين الذات، يقتضي هدما للروابط الطبيعية القائمة بين الكائن والعالم. فبدلاً من أن تسيطر العمليات الطبيعية على ردة فعل الكائن تجاه العالم في الحالة البيولوجية الدنيا، يأخذ نظام معقد من العمليات العقلية دوره في توجيه ردود فعل الإنسان في اتجاه التفاعل مع العالم الذي يعيش فيه. فالوعي الذاتي يقوم بأداء رائع لعمليات الفهم والتحليل والإقبال والامتناع والمبادرة، و يقوم بالرد على المنبهات، وينظم فعاليات الفرد وردود أفعاله إزاء المنبهات الخارجية والداخلية منها على حدّ سواء.

وتأسيسا على هذا التصور يعلن فيكوتسكي ضرورة إعادة بناء المنظومة الاجتماعية بشكل يسمح للطفل بأن ينتقل من مراحل الإدراك البدائية، إلى المراحل الأكثر رقيا التي تقوم على أساس إدراك العالم الخارجي، و تتضمن تلك المنظومة الاجتماعية عمليات متنوعة، منها: التحفيز، والإرشاد، و المكافأة، و العقاب والتقليد، وهي عناصر تنظم سلوك الطفل، وترتقي به إلى المستويات الانفعالية والوجدانية المطلوبة.

فالتغييرات البيولوجية في الدماغ ضرورية أيضاً لاستبدال العمليات السيكولوجية البدائية الأولية بأخرى أكثر تعقيداً و تقدماً. فالقشرة الخارجية للدماغ تتطور لتسيطر على معظم ردود الأفعال التي كانت تتم بواسطة الجزء الأدنى في دماغ الطفل. و مع ذلك فإن التغيير الناشئ عن عمل قشرة الدماغ محفزة و مدعمة بالعلاقات الاجتماعية. فالخبرة الاجتماعية تقوم بالتحفيز لتطوير القشرة الخارجية للدماغ.

توفر الخبرات الاجتماعية الوسائل الثقافية لضبط العمليات البيولوجية البدائية، و إخضاعها لسيطرة الوعي الذي يحولها بدوره إلى ظاهرة سيكولوجية؛ إن كثيرا من مظاهر الحياة الانفعالية للطفل مثل البكاء والهذيان والتشنج والخوف والغضب والثرثرة والانتباه تنتظم وتضبط على نحو تربوي، من خلال النماذج التربوية التي يطرحها المربون من آباء أمهات ومعلمون. فالمربون يقومون بتوجيه تلك الأنماط من السلوكات البدائية باتجاهات جديدة، عن طريق إكسابها بعض الخصائص الثقافية في طبيعة التجاوب مع المنبهات الجديدة الخارجية والداخلية، ويتضمن ذلك تعليم الأطفال أفضل الطرق التي تتيحها المعايير الثقافية في السيطرة على مختلف المنبهات والظروف التي توجد في وسط الأطفال. ووفقا لهذه الفعاليات الاجتماعية الثقافية يتحرر السلوك الإنساني من طابعه البدائي الأولي أو البيولوجي، ليأخذ طابعا سيكولوجيا محددا وواضح المعالم، ويتحول من مجرد سلوك آلي آني، يعتمد ردود الفعل البيولوجية، إلى سلوك معقد تحكمه مهارات عقلية واتجاهات نفسية معقدة وهادفة. وفي هذا النمط المعقد من التجاوب المنظم الانفعالي مع الوسط يوظف الكائن منظومة من القرارات والفعاليات الذهنية الواعية التي تعطي للسلوك صبغته الإنسانية الواعية.

ويلاحظ في هذا الخصوص، أن فيكوتسكي لا يقلل أبدا من أهمية العمليات البيولوجية الأولى، بل يراها مرحلة أساسية وهامة من مراحل تطور الإنسان سيكولوجيا، لأن ردود الأفعال البيولوجية، في سياق تطورها وتناميها، تعمل على تحسين الأداء النفسي والسيكولوجي عند الإنسان، لأنها تنمي العمليات الكيفية والمهارات الذهنية التي تؤدي في النهاية إلى تنمية الانتباه والتفكر عند الفرد.

عندما نتحدث عن التطور الثقافي في التكوين السيكولوجي للفرد، فإن ذلك يرمز إلى تحول كبير يؤدي إلى تنمية العمليات النفسية وإخضاعها في الوقت نفسه لسيطرة الإنسان. فالانتباه الطوعي يرجع إلى حقيقة أن الأشخاص الذين يحيطون بالطفل يبدءون باستخدام حوافز و وسائل متعددة لتوجيه انتباه الطفل و وضعها تحت سيطرتهم، ومن غير هذا التدخل الثقافي، فإن التطور العضوي الطبيعي للطفل، لا يمكنه أبدا أن يصل إلى الانتباه الانتقائي أو الطوعي. إن كلمات الطفل الأولى ليست سوى صرخات بيولوجية مؤثرة، إنها ردود فعل بيولوجية تعبر عن حاجات الطفل إلى الطعام والعناية وتجنب الألم، ولكن هذه الصرخات والحركات العفوية تكتسب معنى ودلالة بتأثير المحيطين بالطفل الذي يعطون لهذه الصرخات دلالة ومعنى، ويحولونها إلى طاقة سيكولوجية بتنظيمها وتوجيهها، فالآباء يمنحون صرخات الطفل وكلماته معنى ويحملونها دلالة منطقية بمعزل عن إرادة الطفل الحقيقية. بعد ذلك تتحول تلك الكلمات إلى وسيلة تخاطب يعبر فيها الطفل عن ذاته بشكل واعي و مقصود.

وهذا الأمر ينسحب على الذاكرة أيضاً، فالذاكرة تتشكل بالانتقال أيضا من حالة طبيعية إلى حالة ثقافية سيكولوجية. يتذكر الأطفال الأشياء الموجودة والمجسدة أمامهم مباشرة، ولكن هذا الأداء التذكري يتطور لاحقا وبفعل التشريط الثقافي الاجتماعي إلى نوع من التذكر المجرد الرمزي غير الحسي. وبالتالي فإن مجموعة من العمليات الثقافية تمارس فعلها لتنظيم عمل الذاكرة وآليات اشتغالها في اتجاه الانتقال بها من حالتها الطبيعية الحسية العفوية إلى حالة رمزية مجردة واعية، وبالتالي فإن هذا التحول من الشكل الطبيعي للذاكرة إلى الشكل الثقافي منها يؤدي إلى تطوير الذاكرة والارتقاء بها ابتداء من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ.

فالطريقة التي تستخدم فيها الذاكرة المفاهيم الثقافية لاستعادة المعلومات تتشكل بواسطة خبرة الفرد: لا يمكن أن أتذكر عنوان الكتاب الذي أحتاجه ولكني أعرف موضوع الكتاب، و بعد ذلك بدأت أتذكر الفصل الذي ناقشت فيه هذا الموضوع، ثم فكرت في الكتب التي استعنت بها في ذلك الفصل، و أخيراً توصلت لاسم الكتاب الذي كنت أبحث عنه. تلك العملية المعرفية المعقدة تنتج عنها استعادة ما لم يمكن استعادته من الذاكرة المباشرة.

توجد اختلافات ثقافية شاسعة في الذاكرة بسبب اختلاف المعايير الثقافية تاريخيا بين الثقافات والجماعات الإنسانية. وفي هذا الصدد يذكر كاروثرز ( 1990 ) أنه في أديرة العصور الوسطى كان يتم التدريس بطريقة استظهارية خالصة، حيث يتوجب على المتعلمين أن يختزنوا في ذاكرتهم كما هائلا من المعلومات والمعارف. ويلاحظ أن الدارسين في العصور الوسطى كانوا يملكون ذاكرة حادة، حيث كان يمكن للواحد منهم أن يقوم بتلاوة أعمال كاملة غيباً، و تسميع نصوص كاملة لأي عمل مهما كان حجمه. وكان الدارسون يعملون على حفظ تلك الأعمال من خلال تقسيمها لأجزاء، و تلك الأجزاء كانت تحدد بعلامات واضحة، و تلك العلامات دائماً ما تكون موجودة ضمن المادة المكتوبة لتسهيل التذكر: كتابة الأحرف الأولى من الفقرة بأحرف كبيرة و واضحة، أو رسم صور في الهوامش بجانب الفقرات، أو حتى تلوين الصفحات للتمييز بينها. ويستخلص من ذلك أن هذه الطرائق والآليات الثقافية في طرق الحفظ والاستظهار كانت تساعد كثيرا على تطوير الذاكرة الطبيعية، وتحسين القدرات المختلفة للذاكرة بين الأشخاص المختلفين. وعلى هذا النحو فإن فيكوتسكي يميّز في عملية تطور الذاكرة بين المستويات الطبيعية الدنيا بطابعها البيولوجي، وبين النشاطات السيكولوجية الاجتماعية العليا بطابعها الثقافي. فالوظائف الطبيعية البدائية الطفولية القائمة - بغض النظر عن عملية النضج السيكولوجي الاجتماعي- تمحى وتستبدل بعمليات أخرى أكثر نضجاً، و في أحيان أخرى، تندمج ويعاد تشكيلها بواسطة العمليات السيكولوجية العليا. ويؤسس فيكوتسكي على هذا التصور أن منظومة السلوك الإنساني تتم من خلال تطوير أنظمة جديدة للروابط التي تتخطى أنماط السلوك الأولية في اتجاه بناء منظومة سلوكية جديدة عليا تعتمد المعايير الثقافية.

يؤكد فيكوتسكي أن الأنماط التنظيمية الأولية للسلوك تتشكل من خلال الأنشطة الدماغية العضوية المساندة، وتتحول كلياً إلى أنماط أكثر رقياً و تعقيداً. فالعمليات الطفولية ليس لها نظير عند الشخص البالغ، لأنها وجدت كذلك في الطبيعة، و بالمقابل فإن نشاطات البالغين ليس لها مثيل طبيعي في الأطفال أو الحيوانات ( أو الآلات ).

فعملية التكيف عند الشخص البالغ تعتمد على منظومة معقدة من السلوك المنظم الهادف، وهو يختلف كليا عن السلوك المندفع المتهور الذي يتميز به الأطفال، أو النشاط المنعكس الذي يتميز به الحيوان. ويختلف السلوك التفاعلي للبالغ عن سلوك الطفل أو الحيوان، بأنه سلوك موجه وهادف ومتحكم به، لأن المنبهات الخارجية لا تستثير استجابة البالغ بشكل مباشر على عكس ما نشاهده في سلوك الأطفال.

ومن أجل الاستدلال على أهمية التأثير الذي يمارسه الوسط الثقافي بمحدداته المتنوعة، يلجأ فيكوتسكي إلى تاريخية الظاهرة السيكولوجية، فالإنسان في شتى بقاع العالم يتمتع بالتركيبة البيولوجية نفسها، ولكن الاختلاف في التكوينات السيكولوجية هو على أشده بين الشعوب والجماعات الإنسانية، فالثابت هو التركيبة البيولوجية، والمتغير هو الطابع السيكولوجي للمجتمعات الإنسانية، وهذا يثبت بأن الثقافي هو الذي يحدد البيولوجي وينمطه ويهندس له معالم وجوده.

وهذا يعني أن التطور الثقافي يؤثر في التكوين البيولوجي للفرد، ويحوله من مجرد آلية بيولوجية صرفة إلى فعالية ثقافية معقده. فالعمليات البيولوجية الدماغية في مرحلة الطفولة تعمل على توصيل المعلومات، ولكنها لا تحدد كيفية تنظيم المعلومات و استخدامها، فهي تنقل العمليات الحسية والإدراكية بين الفرد والعالم الخارجي وتلك هي الوظيفة التي تؤديها الخلايا العصبية، فتعمل على نقل المعلومات من منطقة لأخرى في دماغ الكائن الحي، ثم يأتي لاحقا العامل الثقافي الذي يقوم بتنظيم تلك المعلومات بإشارات و رموز ومعاني ذات طابع ثقافي، حيث تتراجع الآليات الطبيعية وتفقد وظيفتها التحريضية و تعمل فقط كوسيط للعملية الذهنية.

وهكذا فإن تراجع الدوافع البيولوجية يشكل شرطا ضروريا في اتجاه بناء الظواهر السيكولوجية؛ فالطفل في بداية حياته، وفقا لفيكوتسكي، يتكيف عبر آليات عضوية وحسية صرفة، وبالتالي فإن مختلف مظاهر حياته التي تتمثل في الراحة و القلق و التوتر والهدوء و الألم و الإحساس بالدفء تتم بصورة عفوية طبيعة ارتكاسية، وعندما تتوقف العمليات البيولوجية الصرفة عن توجيه حياة الطفل، تبدأ قدرة الطفل على إدراك العالم الخارجي بوصفه ذاتا عارفة مستقلة. وهذا يعني أن الطفل يصبح قادرا على ممارسة الإدراك و اكتشاف الحقيقة الخارجية التي تحيط بكيانه البيولوجي، و هذا الأمر يستغرق نصف عام من عمر الطفل حيث يبدأ نظامه الإدراكي بالظهور على صورة سيكولوجية متمايزة، وهذا يعني في نهاية المطاف أن إدراك الحقيقة يتطلب إزاحة العمليات البيولوجية كأساس للخبرة، و السماح للعالم الخارجي بأن يحتك بالكائن الحي و يؤثر في إدراكه. وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن العالم الخارجي بمثيراته وعناصره المتنوعة لا يحدد الطبيعة الإدراكية للطفل، وذلك لأن إدراك الطفل للعالم الخارجي يستند إلى خبراته وفعالياته السيكولوجية السابقة، التي ترسم له الصورة الإدراكية لعناصر الوسط الذي يعيش فيه. فالطفل لا يدرك صورة العالم الخارجي بعينيه المجردتين، بل يدركه بخبراته السابقة ومدركاته ومعاناته السيكولوجية المرتسمة في مراحل زمنية متقدمة، وهذا يؤدي إلى إضفاء الطابع الذاتي على الأشياء المدركة، أي ما يمكن أن نسميه ذاتية الإدراك، أو ما يمكن أن يطلق عليه الخصائص الذاتية للعالم الخارجي. وعلى هذا النحو تكون البيئة المحيطة بالفرد بيئة اجتماعية ثقافية حتى عندما تأخذ هيئة طبيعية، لأن العامل الثقافي الاجتماعي دائم الحضور والتأثير في التكوينات النفسية البيولوجية. فالعمليات البيولوجية الصرفة تقوم بنقل الخواص المادية للأشياء مثل اللون والحجم و الشكل من الأشياء المدركة إلى العقل المدرك، ومع ذلك فإن هذه المدركات المتعلقة بتلك الأشياء تتلون بطابع الخبرات الاجتماعية و الثقافية للفرد المعني.

لقد تأكد هذا التصور للعلاقة بين الخبرة السابقة، وعملية الإدراك في أبحاث هيلمولتز، حيث يعلن بأن " الخبرات السابقة، تعمل بالعلاقة مع الإحساس الحالي لإنتاج إدراك حسي جديد، وبالتالي فإن الإدراك الحسي الذي ينبع من الخبرة لا يقل أهمية عن الإدراك الذي يستمد من الإحساس المباشر الآني ". و بالمثل فقد أوضح زيملاك (1961) بأنه في الأجناس العليا من الكائنات الحية، توجد أدلة كثيرة على أن الألم ليس مجرد وظيفة للدلالة على مدى الضرر الجسدي، فهناك نوع من الألم الذي تحدده الأسباب المؤدية إليه مثل الآلام المعنوية، ومن الواضح بمكان أن دلالة الألم وطبيعته ودواعيه تختلف باختلاف ثقافة الفرد التي نشأ فيها وذلك لأن الثقافة تلعب دورا هاما في كيفية إحساسنا و استجابتنا له.

لقد أوضح كل من والستن و جوتليب ( 1997 ) بأن المعلومات الجينية لا تحدد ما نفكر به أو نتذكره، فالجينات لا تصنع نهايات التراكيب العصبية، و لكنها عبارة عن نظام مشفر للبروتينات التي تتأثر بنظام الأيض المقعد والمذهل. وتجد هذه الفكرة وضوحها في طبيعة التباين الملاحظ عادة بين طفلين متتاليّ الولادة في أسرة واحدة، فالطفل الأول غالباً ما يكون واثقا بذاته ولكنه متحفظ، بينما يكون الثاني أكثر مرونة وتكيفا، و تلك الاختلافات في الشخصية لا يمكن ردها أو تفسيرها على أساس جيني، بينما يمكن تفسيرها فقط على أساس تعامل الآباء واختلاف تعاملهم وتربيتهم لكل منهما.

فالوظائف السيكولوجية المنظمة اجتماعياً، تمكّن الأفراد من فهم البيئة بشكل أكثر واقعية، مقارنة بما يمكن للعمليات البيولوجية الصرفة أن تفعله في هذا المستوى. وهكذا فإن العمليات الموجهة بيولوجياً في الأطفال و الحيوانات تحدد الاستجابات الأوتوماتيكية المحددة، فهي تمنع الفهم الحقيقي و الاندماج مع البيئة. و كما بين فيكوتسكي فإن الذاكرة و الإدراك و المشاعر والدوافع، التي تتشكل اجتماعياً، تقوم على الإحساس العضوي و تمكن من الاتصال مع العالم الخارجي، وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن معظم الناس يعتقدون بأن التفاعل البيولوجي يوفر أهم المعلومات المتاحة، و أن التأثير الاجتماعي يشوه المعلومات. ويمكن توضيح أهمية الخبرة في إدراك الأحجام الحقيقية للأشياء التي ندركها، فإدراك حجم الأشياء القائمة يعتمد على الخبرات الإدراكية السابقة بدرجة أكبر من مجسات العوامل البيولوجية المستقاة من الخبرة المباشرة الحسية، فحجم الصورة الفسيولوجية يتغير بتغير المسافة بين المادة و المشاهد ولذلك فإن المشاهد يعتمد على خبرته الإدراكية السابقة في تحديد حجم الأشياء ومسافتها، علما بأن ثبات الحجم الحقيقي للمادة لا يتأثر بالمسافة بينها و بين المشاهد.

وتأسيسا على هذا الاستدلال المتقدم فإن العوامل العقلية والنفسية كالإدراك والتفهم و العقلانية و الذاكرة و العواطف و الاحتياجات الشخصية ترتكز على واقع ثقافي يرتبط بالمفاهيم اللغوية والرموز الثقافية والخبرات المكتسبة كأنظمة عمل أو تشغيل، وهذا يعني أن هذه القوى لا تمارس فعلها بوصفها مجرد قدرات فطرية بيولوجية بل هي قدرات ثقافية في طبيعتها وماهيتها.

و قد أكد دونالد أيضاً بأن الثقافة بأنظمتها الرمزية تمارس وظائف سيكولوجية تثري الفرد وتمكنه من الاستفادة من جهود الآخرين. فقدرة الأفراد في نظام ثقافي محدد تتوسع لتشمل قدرة المجموعة، و هذا يلاحظ دائماً في آليات اشتغال الذاكرة، فالفرد الذي يشارك في النظام الرمزي الخارجي لا يكون محدوداً بذاكرته فقط في تذكر الأشياء، فلديه مدخل لتسجيلات دائمة تمت كتابتها من خلال التدوين الجماعي للرموز و العلامات([10]). و كصدى لوجهة نظر فيكوتسكي بأن الرموز الثقافية تؤدي إلى تشكيل وظائف سيكولوجية جديدة؛ يقول دونالد بأن النظام الرمزي الخارجي يفرض أساليب رؤى جديدة، وأساليب تخزين متجددة، و أساليب تذكر متنوعة، وخيارات متقدمة للتحكم بالسلوك وإيجاد أنظمة تكيف عقلية وإدراكية جديدة، لأن النظام الرمزي يكون مهارات مركبة جديدة مثل، التحليل والبرمجة والمحاكمة وهي عمليات عقلية لا مكان لها في الذاكرة، وغالباً ما تكون خارجية المنشأ والمصدر.

و إذا كانت الوظائف السيكولوجية مكونة من نسيج رمزي ثقافي اجتماعي بالدرجة الأولى، فإن هذه الوظائف تتكون وتتشكل من خلال تفاعل الفرد مع الوسط الثقافي بدرجة أكبر من اعتمادها على القدرات البيولوجية المحددة للوظائف السيكولوجية؛ وهذا بدوره يعيد الاختلافات الفردية السيكولوجية ويفسرها بالاختلافات في التعرض للخبرات الاجتماعية المتنوعة التي تمد الفرد بالرموز الثقافية والاجتماعية المشكلة للظواهر السيكولوجية.

ويقدم فيكوتسكي مثالا تاريخيا واضحا حول تأثير العوامل الثقافية في تشكيل البناء السيكولوجي للإنسان يتصل بالتفكير الرياضي عند الإنسان، فالتفكير الرياضي لا يستند بوضوح إلى خاصة فطرية أولية، لقد عاش الإنسان لآلاف السنين بدون علم الرياضيات، و لم تظهر الرياضيات فجأة بسبب محفزات فطرية و بالعكس: المتطلبات التاريخية و خاصة التجارية أدت إلى اختراع الرياضيات في أماكن وأوقات معينة. عندما دعت الحاجة اخترع الإنسان الرموز الرياضية و أنظمة إدارتها. و لذلك فلا يوجد مغزى للتسليم بوجود قدرات فطرية لعلم الرياضيات. وبالتالي فإن الاعتقاد بأن علم الحساب يعتمد فقط على العمليات الطبيعية هو تقدير مبتذل وغير علمي، لأن العقل العادي لا يمكنه إجراء العمليات الحسابية المعقدة والمبتكرة، وبالتالي إذا كانت العمليات الفطرية لا تحدد التفكير الحسابي فإن الاختلافات الفردية في تلك القدرة يجب أن تعود إلى الاختلافات في الخبرات الاجتماعية الضرورية لتكوينها.

ويمكن إيضاح هذا التصور بالإشارة إلى الاختراع الإنساني المتجسد ببرامج الحاسب الآلي، حيث لا يمكن لنا أبدا أن نقول بأن العمليات المعقدة للبرمجة هي مجرد قدرة فطرية. فلا يوجد شخص يمكنه أن يرجع برمجة الحاسب الآلي للقدرة الفطرية غير المكتسبة، وذلك لأن عمر الحاسب الآلي لا يعدو عدة عقود من الزمن فحسب. وواضح للعيان أن برمجة الحاسب الآلي تعني الاستخدام الهائل والمنظم للرموز والصيغ واللغات الرمزية والشيفرات المعقدة التي لم تكن يوما تبلورا لصيغة فطرية أو بيولوجية؛ فالعقل الفطري والعضوية البيولوجية ضروريان لاستيعاب المعلومات والرموز والفعاليات الذهنية لعمليات البرمجة الحاسوبية المعقدة، ولكنهما لا يحددان نوعية المهارات الذهنية والعقلية أو مستوى التطور الذهني المعقد كما يبني فيكوتسكي وذلك ينسحب بالضرورة على مختلف الظواهر السيكولوجية.

وهذا التصور للعقل المكتسب يجد مداه عند دونالد، إذ يرى بأن عقل الإنسان يتشكل ويتبلور بقدرته الكلية على التعلم واكتساب الرموز، ومن ثم إعادة بنائها وصوغها في تكوينات إبداعية جديدة، في اتجاه يدعم تكيف البشر وسيطرتهم الهائلة على معطيات الوجود الذي يحتضنهم.

لقد بين فيكوتسكي بأن التمييز بين العمليات العقلية العليا، وبين الفعاليات الذهنية الدنيا، يشكل منطلقا منهجيا في فهم و علاج الأمراض النفسية والاضطرابات السيكولوجية الوظيفية، لأن هذه الاضطرابات يمكن أن تعود إلى اختلال في العمليات الذهنية العليا أو في العمليات الذهنية البيولوجية الدنيا مع اختلافات هامة في السبب وطرق العلاج أيضا. فالخلل في الوظائف الدنيا يفسر غالبا بتلف في أعضاء الحس أو المناطق اللحائية ( الأجزاء الخارجية للمخ )، وبالتالي فإن هذا الخلل الوظيفي يمكن أن يتم تجنبه جزئياً من خلال توفير بدائل جديدة للحواس مثل أحرف برايل و أجهزة السمع المختلفة. أما الخلل في الوظائف العليا فدائماً ما يحدث بسبب الحرمان الاجتماعي، و يمكن علاجه من خلال تعديل البيئة الاجتماعية للمريض.

إن أي خلل في الوظائف الدنيا للطفل ينتج سلسلة من الصعوبات التي تعيق التطور الطبيعي لعلاقاته الاجتماعية وطبيعة تفاعله مع الآخرين، وبالتأكيد فإن نتائج هذه الإعاقات التي تأخذ طابعا نفسيا وتتجلى في اضطرابات نفسية واضحة تؤدي بدورها إلى إعاقة تطور العمليات العقلية العليا وإلى ظهور نوع من الاضطرابات النفسية الجديدة الناجمة عن إعاقة التطور الثقافي المتعلق بنمو نشاط الطفل الاجتماعي. ومع أهمية هذا التصور فإن فيكوتسكي يؤكد بأن احتمالات تطور الطفل غير الطبيعي تتعلق بشكل أكبر بإعاقة الوظائف النفسية العليا أكثر من الوظائف الدنيا، فالاضطرابات ذات المنشأ البيولوجي يمكن تجنبها من خلال اندماج المريض في بيئة اجتماعية مساندة تعمل على تطوير التكوينات النفسية العليا، ويضاف إلى ذلك أن الوظائف العليا يمكن أن تعوض الضعف في العمليات الأولية، فالتفكير و الفهم يمكن أن يعوض الضعف في السمع و الرؤية و الحواس الأخرى، لأن المريض يتعرف الأشياء مباشرة عبر الحواس ولكنه يستطيع التعرف على هذه الأشياء ذاتها بتوسط التفكير والتأمل والتحليل.

ومع أن فيكوتسكي يؤكد أهمية العوامل البيولوجية، إلا أنه يرفض إرجاع السيكولوجي إلى البيولوجي ويؤكد أهمية التفاعل بين البيولوجي والثقافي في بناء الظاهرة السيكولوجية. وبعبارة أخرى لا يمكن التقليل من أهمية الظاهرة السيكولوجية ووصفها بأنها ظواهر بيولوجية، مثل: الجينات والهرمونات و الموصلات العصبية، فهذه العناصر البيولوجية لا يمكنها تحديد طبيعة الظواهر السيكولوجية إلا من خلال التفاعل مع الوسائل الثقافية. بالنسبة لفيكوتسكي، فإن الوسائل الثقافية أهم من الآليات البيولوجية في إعطاء تفسير كامل و شامل للوظائف السيكولوجية. وانطلاقا من هذا التوجه، انتقد فيكوتسكي النظريات السيكولوجية الكلاسيكية، لأنها كانت تركّز على العمليات الفطرية الطبيعية البيولوجية، وتقلل من أهمية العوامل الاجتماعية في تفسير علم النفس الإنساني.

وهذا التأكيد الذي يوليه فيكوتسكي للثقافة في بناء سيكولوجية الفرد، يحيلنا إلى نظرية مايرسون Meyerson (1888-1983) ورؤيته للعلاقة بين الوظائف السيكولوجية و المنجزات، حيث يعتقد أن الإنسان ينزع إلى التجسد في صنمية الإنجاز، وبالتالي فإن البحث السيكولوجي – لديه- يكون في الكشف عن المحتويات الذهنية والنفسية للفرد في وقائع و صنائع الحضارة الموصوفة. فأفعال الإنسان حسب مايرسون تنتهي بأن تتجسد في مؤسسات أو منجزات، والإنسان بالتالي يتمكن بواسطة الجهد الذهني من إقامة هذه المنجزات، إنه بذهنه يوجه يديه ويصنع أدوات وجوده ويشكل المادة ويبني العالم الذي يحيط به، ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن ذهن الإنسان وعقله موجود في منجزاته الحضارية([11]).

نقد التحليل النفسي:

عارض فيكوتسكي نظرية التحليل النفسي، وأعلن نقده لها في كتابه الشهير "المدلول التاريخي للأزمة في علم النفس"، وفي هذا الكتاب يتهم فيكوتسكي مدرسة التحليل النفسي بالتحفظ والجمود التاريخي، لأنها تنطلق في فهم الإنسان من خلال النوازع والأصول البدائية الغريزية الأولية، وفي منأى عن الشروط التاريخية والثقافية لتكون عقلية الإنسان وسيكولوجيته، وهو يعتقد وفقا لذلك بأن مدرسة التحليل لم يكتب لها النجاح كما يجب لأنها تتعارض مع المنهج الماركسي في دراسة وتحليل الظاهرة النفسية. فالتحليل النفسي في صيغته الفرويدية ينطلق من منهجية الأخذ بالآلية الفطرية الطبيعية كأساس للظواهر النفسية، ويتجلى هذا التصور في تقسيم فرويد لمراحل التطور النفسي وفقا لمعايير الجنسانية اللبيدية، وتأكيده الصارم على أهمية عقدة أوديب، بوصفها نزعة فطرية متأصلة في الكيان النفسي للإنسان، وهذا يعني أن الفرويدية تقلل من شأن الضبط الثقافي وتأثيره في تشريط الحياة النفسية للإنسان.

يفسر فرويد، التصادم الحيوي بين النزعات الفطرية المنطلقة من عقالها والضرورات الثقافية الرمزية في المجتمع، بطريقة سيكولوجية صرفة، حيث يطلق فرويد على انتصار المحددات الثقافية وإزاحتها للعوامل الفطرية الأولية مفاهيم: الكبت والنكوص و الإسقاط والتخاطر وهي عمليات يفترض بها أنها أمور فطرية، وهذا يدل على ترجيح فرويدي للعامل الفطري في تفسير ما هو ثقافي وتاريخي وجدلي. فغالبا ما يرجع فرويد الظاهرة النفسية إلى أبعادها البيولوجية الجسدية، حيث نجد تقسيمه المشهور لمراحل التطور السيكولوجي للفرد (المرحلة الفموية، فالشرجية، والكمونية، فالجنسية)، وهذا يعني أن فرويد يرسم صورة النفس على صورة تطور الجسد وغرائزه اللبيدية، وهذا هو التصور الذي نجده راسخا في كتابه " مشروع السيكولوجية العلمية " (1895 ). وعلى الرغم من فشل فرويد اعتماد مفاهيم التشريح العصبي كأساس لعلم النفس فإنه لم يتخلى أبداً عن المفهوم الأساسي الفطري الذي حفزه في البداية إذ استمر في الاعتقاد بأن الوظائف الجسدية الناشئة كرد فعل منعكس وتلك العمليات المنعكسة تشكل المثال لكل الوظائف النفسية (السيكولوجية)؛ فالفعل النفسي عند فرويد ينشأ من غريزة شبه عضوية تهدف إلى تفريغ الطاقة للحفاظ على الحدّ الأدنى من التوازن، لأن القوى النفسية لديه تعمل تبعاً للقواعد الجسدية مثل الديناميكا الحرارية. وكأن فرويد يستلهم نظرته للآلية النفسية من الفيزياء النفسية، أو من مبادئ داروين البيولوجية التي كان لها تأثير كبير في تصوراته النفسية، حيث تبنّى عددا من الفرضيات البيولوجية التي نجدها في صلب النظرية التطورية عند دارون في أصل الأنواع.

نقد بياجيه:

ولم يكن انتقاد فيكوتسكي للمفكر السويسري جان بياجيه أقل حدة من انتقاده لفرويد ونظريته في التحليل النفسي. ومن الطبيعي أن يلاقي بياجيه ما لقيه فرويد من نقد، وذلك لأنه لا يختلف كثيرا عن فرويد في تفسيره للتفكير وبنائية العقل على خلفية بيولوجية، فبياجيه كان دائما يماثل بين عملية التفكير والعمليات الفيزيولوجية الخالصة وكان أيضاً يعتقد بأن العمليات المعرفية مبنية على الأنا الفردية ولاسيما في المراحل المبكرة من حياة الفرد.

في الفصل الثاني من كتابة الشهير " التفكير و الخطابة "( 1987 ) انتقد فيكوتسكي وجهة نظر بياجيه فيما يتعلق بالنمو الذهني عند الأطفال، حيث ينظر بياجيه إلى الطفل بوصفه كائنا غير اجتماعي، تتحكم به دوافع بيولوجية وميول إلى تحقيق رغباته بطريقة أنوية غير موضوعية. و على سبيل المثال اعتقد بياجيه أن لغة الأطفال هي موجهة أساساً للتعبير عن الرغبات و الأماني التخيلية عن النفس. وعلى خلاف هذا التصور يؤسس فيكوتسكي لتصور آخر مختلف عن هذا الذي نجده عند بياجيه، إذ يرى بأن الآليات الفطرية تتحكم بسلوك الأطفال الرضع دون السنتين من العمر، ولكن الطفل بعد هذه المرحلة يبدأ بعمليات الاندماج الاجتماعي، وهذا يعني أن الآلية البيولوجية تعمل لوقت قصير كعنصر أساسي للحفاظ على البقاء، و مع ذلك فإن المؤثرات الاجتماعية تعلو عليها بسرعة فائقة ومتزايدة، حيث تشكل العلاقات الاجتماعية السياق التطوري للأطفال بتكويناتهم الذهنية والعقلية. فالطفل عند فيكوتسكي كائن اجتماعي متفاعل في دائرة الحياة الثقافية للجماعة، وعلى خلاف ذلك يراه بياجيه فطريا أنويا مفرغا من مضمونه الاجتماعي. فالعلاقات الاجتماعية تحدد وتبلور سيكولوجية الطفل لدى فيكوتسكي مند البداية، وعلى خلاف ذلك فإن هذه العلاقات الاجتماعية تعد ثانوية ومناقضة لطبيعة الطفل عند بياجيه.

يؤكد فيكوتسكي بأن اللغة الأولى للطفل تتشكل عبر التواصل الاجتماعي وفق مراحل تكوينية متتابعة، ويرى أن الوظيفة الأساسية للكلام هي وظيفة اجتماعية غايتها التفاعل و التواصل الاجتماعي، وهذا يعني أن الكلام في جوهره اجتماعي وليس فطريا، وهذا الرأي يتضمن القول بأن الكلام لا ينشأ ولا يتطور إلا بمقتضى الحاجة الاجتماعية إليه.

لقد آمن فيكوتسكي بأهمية الفعل الذاتي للفرد بوصفه كينونة فردية، وذلك على الرغم من الأهمية التي يعطيها للمجتمع في تحديد سيكولوجيا الفرد. فالأفراد يفكرون ويحللون ويركبون ويجبرون ويختارون ويبدعون نظما اجتماعية جديدة في دائرة حياتهم وفعلهم ونشاطهم الاجتماعي.

لقد أكد فيكوتسكي أهمية الدور الاجتماعي في بناء سيكولوجيا الفرد، وهو في هذا السياق يعرف العمليات السيكولوجية العليا بأنها نشاط عقلي وذهني، يتحدد في نسق واقع ثقافي اجتماعي محدد، يفيض بالمعاني والدلالات والقيم والرموز. وفي عمق هذا الوسط الاجتماعي الثقافي ينشط الفرد بوصفه فردا، وهذا يعني أنه لا يمكن لنا استقراء الدور الاجتماعي للفرد من خلال الشخصية بوصفها بناء سيكولوجيا، وعلى خلاف ذلك يجب استقراء الشخصية من خلال فعالية الوسط الاجتماعي الذي يحيط بها. فالظواهر الاجتماعية ترتكز على منظومة من القيم، وبالتالي فإن معظم الظواهر بما فيها الظواهر النفسية عبارة عن أشكال جديدة لقيم موجودة وأنشطة اجتماعية محددة. فالمنحرف يتبنى سلوكا محدثا ينتهك الأعراف الاجتماعية، ومع ذلك فإن التحليل العلمي الدقيق لهذا السلوك يكشف أنه مجرد مبالغة أو إفراط في تجسيد القيم السائدة: العنف، الاكتئاب، و التملك، و التنافس، والغرور، ومركزية الأنا، الفردية، هي تجليات مبالغ فيها لقيم اجتماعية ضاربة الجذور في الثقافة القائمة. فالسلوك المنحرف اختراع يتجاوز حدود ومعايير القيم والأنشطة السائدة، ومثال ذلك الشذوذ الجنسي بوصفه رفضا للقيم الاجتماعية القائمة وإفراطا في إشباع الجنس بوصفه قيمة اجتماعية مشروعة، وبعبارة أخرى فإن الشذوذ الجنسي يعبر عن انتشار قيم و علاقات اجتماعية في شكل جديد مختلف عما هو قائم وسائد في الثقافة السائدة. وبعبارة أخرى يمكن القول وفقا لفيكوتسكي بأن الظواهر السيكولوجية تعكس إلى حدّ كبير القيم الثقافية السائدة في المجتمع وتنطلق منها.

إن معظم الظواهر النفسية الجديدة هي مجرد أشكال مختلفة للظواهر النفسية الاجتماعية الموجودة في واقع الأمر، وهذا يعني وجود إمكانية دائمة لحدوث تغييرات جذرية في بنية الظواهر النفسية وابتكار صيغ جديدة لكيانات سيكولوجية ذات خصائص اجتماعية. ففي عصر الفردية المتطرفة و التنافس والنزعات المادية الصرفة يمكن أن تتشكل نزعات سيكولوجية معبرة عن هذا الواقع بما يعتمل فيه من وقائع وقيم وممارسات وفعاليات.

لقد نشأت ظاهرة الاتكالية كظاهرة سيكولوجية تحت تأثير ظروف الإنتاج السائدة في حياتنا المعاصرة، فطعامنا و أفكارنا و حتى الهواء الذي نستنشقه يعتمد على أنشطة أفراد آخرين في أماكن بعيدة عنا. و هذه الاتكالية الواسعة قد تقود الناس لأن يهتموا بما يفعله الآخرون و أن ينظموا أنشطتهم بطريقة عقلية لتحقيق فائدة أكبر. في هذه الحالة فإن تنمية الشخصية المتعاونة و المحبة للغير و تنمية الدوافع يمكن لنا أن نستنبطها من عناصر الحياة الاجتماعية وفعالياتها المختلفة. فالكثير من الظواهر النفسية مثل الحب العذري الرومانسي والتحرر الجنسي تنشأ في ظل وضعيات اجتماعية محددة تتناسب مع مراحل محددة من مراحل التطور الاجتماعي التاريخي. فالظواهر السيكولوجية منتجات عقلية خلقت بواسطة المجتمع و الحياة الاجتماعية ولذلك فمن الصعب تفسيرها على أساس الوعي الفردي، كما أن الدين واللغة و العادات لم يكتشفها الأفراد بالمصادفة الخالصة، لأن الوظائف النفسية العليا هي نتاج المجتمع الإنساني كما يحاول فيكوتسكي أن يبرهن وأن يجعلنا نعتقد.

المراجع والهوامش :

[1] Schneuwly, B.; Bronckart, J. P. (eds.). 1985. Vygotsky aujourd’hui, Neuchâtel,Paris, Delachaux & Niestlé.
[2] - فيكوتسكي، ل.س (2000). السيكولوجيا وعلم الجمال، ترجمة أحمد محمد خنسة ، دار علاء الدين، دمشق.
[3] Vygotsky, L. S. (1997a). Collected works (Vol. 3). New York: Plenum.P 341.
[4]1Vygotsky, L. S. (1997a). Collected works (Vol. 3). New York: Plenum.P 331.
[5] Vygotsky, L., & Luria, A. (1993). Studies on the history of behavior. Ape, primitive, and child. Hillsdale, NJ: Erlbaum. (Original work published 1930)pp 213-228.
[6] فيكوتسكي، ل.س (2002) الخيال والإبداع عند الأطفال، ترجمة جمال سليمان، بيروت، مؤسسة الرسالة.
[7] Vygotsky, L. S. (1997b). Educational psychology. Boca Raton, FL: Ingram. (Originally written 1921- 1923).
[8] Ratner, C. (1991). Vygotsky's sociohistorical psychology and its contemporary applications. New York: Plenum.
[9] Luria, A. (1978). Vygotsky and the problem of functional localization. In M. Cole (Ed.), The selected writings of A R. Luria (pp. 27 3 - 28 1). New York: Sharpe.
[10] - Donald, M. (1991). Origins of the modem mind. Cambridge: Harvard University Press.
[11] Meyerson, I. 1948. Les fonctions psychologiques et les oeuvres. Paris, Vrin. Perret-Clermont, A. N. 1979. La construction de l’intelligence dans interaction sociale, Berne, Peter Lang.​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى