بنا شغف المقاهي، ألفى المقهى البرازيلية، مقصد هوايتنا ومطالعتنا، نلتقي في المكان ذاته كل أسبوع، شلة من الشباب الجامعيين، أطراف حديثنا تتهادى بلهجة واضحة، نتكلم بحماسة تصل حد الهذيان، نلهث بجمل طريفة وضحكات مع تعليقاتنا الساخرة، كانت قلوبنا حية تتلذذ بسماع حكايات الشارع القديم، نقرأ الماضي، نطلق نبوءاتنا، ملامح وجوهنا تبدو عابسة من حاضر مقلق ومستقبل نتمنى نرسم فيه أفراحنا، ندخل باراً نحتسي كاساً من شراب، بعد عدة رشفات، نستجمع قوة تماسكنا، نشرب ثم نشرب وكؤوسنا ملأى بالأحلام، صفاء غريب وساحر يحيط المكان، شعرت بانتشاء لذيذ، أخيراً سكبنا كلمات وداعنا في ثنايا كأس أخيرة، نلثم بقاياه في جوفنا، نفترق ونسير وسط الازدحام، سرت مع صديقي وقد انتابني دوار لذيذ مع خدر ناعم مثير من كأسي الأخير، حاولت أن أكون مثل طائر القدوس؛ القطرس؛ الغطاس، سموه ما شئتم فأنا أحلق بخفة جناحيه بين العالم الأرضي والعالم الروحي الخارج من الضباب، خطواتنا تندمج مع حشد الناس، نخرج من الشارع القديم، ندخل ساحة التحرير، شعرت أني جزء من نصب الحرية، قلت لصديقي:
- تعال نقيم علاقة بيننا وبين المكان، هيا نحط تحت نصب جواد سليم، نقدم نذورنا، لا بدّ من تقديم الشكر والانحناء للحرية
وقفنا في وسط الساحة، بإلقاء مسرحي قدمنا نذورنا بالانحناء، هتفنا:
- تحيا الحرية، شكراً جواد.
على غرة من ذلك، خرج من حديقة الأمة، انضباط وهو يعدل سحاب بنطاله العسكري، وبصوته الأجش طلب منا الوقوف، وإبراز دفتر الخدمة العسكري، الساعة توقفت عند منتصف الخراب، أبرز صديقي الدفتر، وأنا ابرزت له هوية طالب، نحى صديقي جانباً وسألني:
- في أي كلية تدرس؟
- في كلية الهندسة، جامعة بغداد.
زاغ بصره، بنظرة غاضبة منهُ أدخل الرعب في قلبي، اسودت الدنيا، غرقت في فزع، وهو يسحبني من ياقة قميصي:
- ولك هاي" هوية مزورة.
حاول صديقي منعه، التفت وصفعه بكف غليظة، سقط على خده كالحجر، حاولت منعه، صفعني أنا الآخر، دارت بي الأرض، التفّ من حولنا الزنابير (الانضباط)، أوسعونا ضرباً، اقتادونا إلى ضابط المفرزة في الجهة المقابلة من الساحة:
- سيدي هذا هارب وليس لديه دفتر خدمة ويقول أنه طالب، والآخر حاول أن يتجاوز على عملنا.
قرأ الضابط الهوية وصرخ في وجوهنا:
- قفوا هناك يم الجدار.
وجدنا أنفسنا ملتصقين على حائط، كأننا جزءٌ منه، تهيأّ لي أنّ وطني أصبح بدون سقف، وبدون حيطان، فقط هذا الحائط الذي ألتصق به، حاولت أن أنفض الغبار عن كل الصور والمشاهد، أصغيت جيداً لأتبين ما حولنا، في فسحة من الصمت القاتم، امتدت فوق نهايات الأصوات الواقفة، موسيقى موحشة حد البكاء المر، أصغيت بكلي لأتأكدّ من موضعي فيما تبقّى من الوطن.
يمر الانضباط مترفعاً أمامنا، لا ينفك يقذفنا بكلماته الوقحة، الشفاه تريد أن تتكلم، قوة غريبة تبقيها مطبقة، يطوف حول المكان، دافع الخوف حلّ على الجميع، أي هواجس راحت تعصف برؤوسهم، هل أضاعوا ألسنتهم، أريد أن أتكلم:
- لماذا نحن هنا؟ ومن أجل ماذا؟! أسئلة محنة موجهة من نفسي لنفسي، تهرب الإجابات وتهرول بحمة المعنى الرهيب للأسئلة، أنا لم أفعل شيئاً، لأكون معهم.
من بعيد رأيت شباناً خارجين من سينما، يسيرون ويتكلمون بحماسة عن فلم شاهدوه، قلت مع نفسي: لماذا لم يلتفتوا إلينا ولو للحظات، إنهم سعداء وأحرار، ألقى سكير نظرة على هياكلنا، أطلق ضحكة طويلة، نهره انضباط، ولوح له بعصا، سار مسرعاً بخطوات متعرجة.
المصابيح كانت تلقي ظلالاً صفراء خافتة، البنايات بدت كأنها أشباح مدينة، المارة يسيرون بعجالة كما لو أنهم مطاردون، ويضيعون في لمحة بصر في ظلام مخملي، صوت الرياح التي تطوف في امتدادها اللانهائي من فراغ يطلّ على مطلق يفضي للإجابة التي تلح على سؤالنا، تشتدّ أحياناً تتسلّى بنا.
صرت أتحسّس الحائط، ألمسه كان حاراً، في تلك اللحظة، قبل قليل كان جزءاً مني، والآن أصبح جزءاً غريباً عني، تمنيت سيجارة أشعلها، أشهق دخانها وأزفره، أحاول أن أعلق بخيط الدخان وأختفي معه وهو يتلاشى، صمت ممتد فوق ركامنا، بدا أكثر رعباً من التهمة الملفقة، كنت ما أزال ملتصقاً بالحائط، أتحسّس الفراغ بأطراف أصابعي، ألمسه فيتراجع، خشيت أن يفرّ الحائط مثل السقف، فنكون بلا وطن ولا سقف ولا حيطان، لم يبقَ أحد سوانا، الآخرون أما صعدوا سيارة الانضباط أو أطلق سراحهم، شعرت برغبة البكاء، وجدنا نفسينا في نهاية الحدود، ما يحيط بنا، وأنا أتبع اليد التي ساقتنا إلى قدرنا:
- أمشو ولكم قشامر، السيد الضابط يريدكم.
صديقي مهّد طريقي، أزال من أمامي عوائق الخوف والتردد، همس في أذني:
- تشجع، لا تعطهم فرصة النيل منك.
وأمام نبرة صوتي المختنق بارتعاشة مقهورة، ونظرة يائسة، استحالت إلى غيمة على وشك أن تمطر، أصبح لزاماً أن أستحضر سيلاً من كلمات الاعتراض والرفض، التقطني الضابط ككرة سقطت في مرماه:
- قشمر ولك وين دفتر الخدمة.
رد العريف على فوره:
- سيدي شايل هوية مزورة.
انتفضت من أعماق خوفي، نظرت إليه بغضب واشمئزاز:
- على كيفك عريف هاي وثيقة رسمية وصادرة من الجامعة.
أغدق عليّنا الضابط بشتائم ثقيلة وهو ممسك بالهوية:
- انجب ولك، لا تحجي لا أفرك حلكك، أنتم بس تعرفون تصادقون الطالبات، والجيش يقاتل بالجبهات، مرة أخرى إذا رأيتك لا تحمل دفتر الخدمة أشبعك رفسات حتى معسكر الرشيد، وهناك "ربك ما يشفعلك".
ضربنا بعصا يمسكها بقوة:
- والله إذا شفتكم مرة ثانية أشبعكم قنادر يلله ولو.
هربنا، لم نلتفت إلى الخلف، رفعت رأسي رأيت جواد سليم يحمل نصب الحرية على ظهره، ويركض أمامنا.
المقهى البرازيلي / مقهى شهير في شارع الرشيد في بغداد
نصب الحرية إلى النحات العراقي جواد سليم في وسط بغداد
معسكر الرسيد في بغداد وفيه سجن الانضباط العسكري
الكاتب رسول يحيى
من العراق
- تعال نقيم علاقة بيننا وبين المكان، هيا نحط تحت نصب جواد سليم، نقدم نذورنا، لا بدّ من تقديم الشكر والانحناء للحرية
وقفنا في وسط الساحة، بإلقاء مسرحي قدمنا نذورنا بالانحناء، هتفنا:
- تحيا الحرية، شكراً جواد.
على غرة من ذلك، خرج من حديقة الأمة، انضباط وهو يعدل سحاب بنطاله العسكري، وبصوته الأجش طلب منا الوقوف، وإبراز دفتر الخدمة العسكري، الساعة توقفت عند منتصف الخراب، أبرز صديقي الدفتر، وأنا ابرزت له هوية طالب، نحى صديقي جانباً وسألني:
- في أي كلية تدرس؟
- في كلية الهندسة، جامعة بغداد.
زاغ بصره، بنظرة غاضبة منهُ أدخل الرعب في قلبي، اسودت الدنيا، غرقت في فزع، وهو يسحبني من ياقة قميصي:
- ولك هاي" هوية مزورة.
حاول صديقي منعه، التفت وصفعه بكف غليظة، سقط على خده كالحجر، حاولت منعه، صفعني أنا الآخر، دارت بي الأرض، التفّ من حولنا الزنابير (الانضباط)، أوسعونا ضرباً، اقتادونا إلى ضابط المفرزة في الجهة المقابلة من الساحة:
- سيدي هذا هارب وليس لديه دفتر خدمة ويقول أنه طالب، والآخر حاول أن يتجاوز على عملنا.
قرأ الضابط الهوية وصرخ في وجوهنا:
- قفوا هناك يم الجدار.
وجدنا أنفسنا ملتصقين على حائط، كأننا جزءٌ منه، تهيأّ لي أنّ وطني أصبح بدون سقف، وبدون حيطان، فقط هذا الحائط الذي ألتصق به، حاولت أن أنفض الغبار عن كل الصور والمشاهد، أصغيت جيداً لأتبين ما حولنا، في فسحة من الصمت القاتم، امتدت فوق نهايات الأصوات الواقفة، موسيقى موحشة حد البكاء المر، أصغيت بكلي لأتأكدّ من موضعي فيما تبقّى من الوطن.
يمر الانضباط مترفعاً أمامنا، لا ينفك يقذفنا بكلماته الوقحة، الشفاه تريد أن تتكلم، قوة غريبة تبقيها مطبقة، يطوف حول المكان، دافع الخوف حلّ على الجميع، أي هواجس راحت تعصف برؤوسهم، هل أضاعوا ألسنتهم، أريد أن أتكلم:
- لماذا نحن هنا؟ ومن أجل ماذا؟! أسئلة محنة موجهة من نفسي لنفسي، تهرب الإجابات وتهرول بحمة المعنى الرهيب للأسئلة، أنا لم أفعل شيئاً، لأكون معهم.
من بعيد رأيت شباناً خارجين من سينما، يسيرون ويتكلمون بحماسة عن فلم شاهدوه، قلت مع نفسي: لماذا لم يلتفتوا إلينا ولو للحظات، إنهم سعداء وأحرار، ألقى سكير نظرة على هياكلنا، أطلق ضحكة طويلة، نهره انضباط، ولوح له بعصا، سار مسرعاً بخطوات متعرجة.
المصابيح كانت تلقي ظلالاً صفراء خافتة، البنايات بدت كأنها أشباح مدينة، المارة يسيرون بعجالة كما لو أنهم مطاردون، ويضيعون في لمحة بصر في ظلام مخملي، صوت الرياح التي تطوف في امتدادها اللانهائي من فراغ يطلّ على مطلق يفضي للإجابة التي تلح على سؤالنا، تشتدّ أحياناً تتسلّى بنا.
صرت أتحسّس الحائط، ألمسه كان حاراً، في تلك اللحظة، قبل قليل كان جزءاً مني، والآن أصبح جزءاً غريباً عني، تمنيت سيجارة أشعلها، أشهق دخانها وأزفره، أحاول أن أعلق بخيط الدخان وأختفي معه وهو يتلاشى، صمت ممتد فوق ركامنا، بدا أكثر رعباً من التهمة الملفقة، كنت ما أزال ملتصقاً بالحائط، أتحسّس الفراغ بأطراف أصابعي، ألمسه فيتراجع، خشيت أن يفرّ الحائط مثل السقف، فنكون بلا وطن ولا سقف ولا حيطان، لم يبقَ أحد سوانا، الآخرون أما صعدوا سيارة الانضباط أو أطلق سراحهم، شعرت برغبة البكاء، وجدنا نفسينا في نهاية الحدود، ما يحيط بنا، وأنا أتبع اليد التي ساقتنا إلى قدرنا:
- أمشو ولكم قشامر، السيد الضابط يريدكم.
صديقي مهّد طريقي، أزال من أمامي عوائق الخوف والتردد، همس في أذني:
- تشجع، لا تعطهم فرصة النيل منك.
وأمام نبرة صوتي المختنق بارتعاشة مقهورة، ونظرة يائسة، استحالت إلى غيمة على وشك أن تمطر، أصبح لزاماً أن أستحضر سيلاً من كلمات الاعتراض والرفض، التقطني الضابط ككرة سقطت في مرماه:
- قشمر ولك وين دفتر الخدمة.
رد العريف على فوره:
- سيدي شايل هوية مزورة.
انتفضت من أعماق خوفي، نظرت إليه بغضب واشمئزاز:
- على كيفك عريف هاي وثيقة رسمية وصادرة من الجامعة.
أغدق عليّنا الضابط بشتائم ثقيلة وهو ممسك بالهوية:
- انجب ولك، لا تحجي لا أفرك حلكك، أنتم بس تعرفون تصادقون الطالبات، والجيش يقاتل بالجبهات، مرة أخرى إذا رأيتك لا تحمل دفتر الخدمة أشبعك رفسات حتى معسكر الرشيد، وهناك "ربك ما يشفعلك".
ضربنا بعصا يمسكها بقوة:
- والله إذا شفتكم مرة ثانية أشبعكم قنادر يلله ولو.
هربنا، لم نلتفت إلى الخلف، رفعت رأسي رأيت جواد سليم يحمل نصب الحرية على ظهره، ويركض أمامنا.
المقهى البرازيلي / مقهى شهير في شارع الرشيد في بغداد
نصب الحرية إلى النحات العراقي جواد سليم في وسط بغداد
معسكر الرسيد في بغداد وفيه سجن الانضباط العسكري
الكاتب رسول يحيى
من العراق