د. علي أسعد وطفة - الانكسار الرمزي للهوية

"إننا لسنا مجرد ما نراه في المرآة، بل نحن ما يراه الآخرون فينا."
إريك أرين

1- مقدمة:
الإنسان كائن رمزي يتفاعل مع الكون ويتشكل في الوقت نفسه على نحو رمزي، وإذا كانت الهوية تتشكل فعليا على نحو رمزي فإن تدمير الهويات يمكن أن يتم بفعاليات رمزية. وهذا يعني أيضا أن الهوية تبنى رمزيا وتهزم رمزيا أيضا، أي: أنها تتصدع ثم تنكسر على وقع الصدمات الرمزية، بالدرجة نفسها التي تتشكل فيها على ترجيعات العنف الرمزي بتنويعاته وتجلياته المختلفة. فالرموز في حقيقة الأمر تعمل على تشكيل الهوية بطريقة تؤكدها كذات مفترضة أو كهوية ثابتة من جهة ومن ثم يمكنها أن تعمل على تفكيكها وتدميرها عبر إخراجها من الشعور بالقيمة الذاتية والوجودية من جهة أخرى.
فالعلاقة التي تربط بين العنف الرمزي والهوية علاقات تتجاوز حدود المألوف في طبيعة العلاقة بين الأشياء، إذ يتغلغل العنف الرمزي بأدواته السحرية إلى العمق الوجودي للهوية فيعمل على تشكيلها أو تدميرها وفقا لنسق من الآليات والديناميات التي تحكم العلاقة بين الهوية في الصميم وبين الرموز في القاع والأعماق. فالهوية لا تعدو أن تكون في نهاية الأمر أكثر من تشبعات رمزية أسقطتها الفعاليات الثقافية في بوتقة العلاقة بين الأنا والآخر بين الذات والوجود المتكاثف في تشكيلات رمزية.
فالرمز ينطوي في ذاته على قوة ويحمل في ثناياه عنفا، إذ يمتلك القدرة على التغلغل في أعماق النفس الإنسانية فيعمل على هندستها وتشكيلها. ولا يمكن الرمز أن ينفصل عن جوهر القوة بوصفه طاقة تمتلك القدرة على التأثير والفعل والتشكيل. ويكاد السلوك الإنساني يكون تجسيدا لصيرورات رمزية تشبعت بها الهوية والأنا والذوات الاجتماعية بكيفيات تأخذ طابعا الحتميات السلوكية الراسخة في الطباع البشرية.
فسلوك الأفراد لا يعدو حدود الأنساق الرمزية التي تشبعت بها عقولهم وهذه الأنساق تأخذ صورة حتميات وجدانية تفرض على الناس ما هم عليه من استجابات تتعلق بالكون والعالم والوجود. لقد أضفى الإنسان الكون طابعا رمزيا ثم ارتسم على صورة الطاقة الرمزية لهذه الأنساق الرمزية التي تشكله وتهبه صورته الذاتية وتمنحه قدرته على استكناه العالم رمزيا وفقا للصورة الرمزية التي تشكل بها وتعيّن في حدودها.

2- الهيمنة الرمزية وانكسار الهوية
من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن العنف ضد الآخر يتحدد بالاعتداء الفيزيائي على الأشخاص والأشياء مثل الضرب والتدمير والقصف الجوي والتمرد والمذابح وعنف الجماهير فحسب، فهذه الأنماط من العنف لا تقف نتائجها عند حدود الموت والآلام الجسدية أو عند حدود التدمير وإحداث الفوضى المادية، بل تؤدي أيضا إلى توليد آلام وخسائر وأحزان نفسية، وهذه الآثار النفسية تتكشف على صورة نتائج شديدة الوقع والتأثير: الاضطهاد، فقدان الإحساس بالأمن، الحقد والكراهية، ومن ثم تدمير المرجعيات الأخلاقية. هذه الظواهر تبدو من حيث المظهر متباعدة ولكنها في جوهرها تشير إلى عنف من نوع آخر وثيق الصلة بالعنف الفيزيائي وهو ما يسمى بالعنف الرمزي وهي تسمية تطرح بذاتها إشكالية معرفية لأنها غالبا ما توظف في أدبيات علم الاجتماع بمعاني ودلالات مختلفة.
دأب بيير بورديو على استخدام مفهوم العنف الرمزي في أغلب كتاباته الأدبية والتربوية كما في أعماله التي تحمل طابعا اجتماعيا وذلك لتفسير ما يطلق عليه الهيمنة الذكورية. ويلاحظ في هذا السياق أن بورديو قد استخدم هذا المفهوم كنقيض للعنف الاقتصادي ولاسيما في دراسته لأوضاع طبقة الفلاحين في منطقة القبائل الجزائرية كما أنه قد وظفه نقيضا للعنف المادي.
يعرف بورديو العنف الرمزي (الهيمنة الرمزية) بأنه: "عنف ناعم خفي غير مرئي وأنه فوق ذلك كله مجهول من قبل ممارسيه وضحاياه، ويتجلى هذا العنف في ممارسات قيمية ووجدانية حيث يتجسد في قيم الثقة والواجب والإخلاص الشخصي والكرم والعطاء والدين والعرفان والشفقة والرحمة وهذا التجلي يشمل جميع الفضائل التي يعبر عنها بالشرف والأخلاق والسعادة". فالهيمنة الرمزية تمثل في جوهرها عملية تطبيع الآخر على دونية الهوية وضعف الإحساس بالقيمة الذاتية وازدراء الأنا عبر عملية تمويه تعتمد الفعاليات الرمزية في تحقيق أهدافها وغاياتها.
فالعنف الفيزيائي يؤدي إلى توليد آثار نفسيه عند ضحاياه: الشعور بالضعف، الشعور بالحيرة والضياع، ومن ثم الشعور بالدونية. إن إحراق سيارة أو تفجير منزل عمل عدائي ضد الممتلكات، وهو في الوقت نفسه اعتداء ضد مشاعر المالكين أي ضحايا هذا العنف. وكذلك فإن تعرض الفرد إلى الضرب في مظاهرة من قبل مجهولين أمر سيشعره بأنه غير قادر على حماية نفسه. وهذا يعني بالضرورة أن أي اعتداء فيزيائي جسدي سيولد مشاعر المهانة والدونية لدى هؤلاء الذين يتعرضون له. فالآلام الناجمة عن الإحساس بالضعف والدونية والهامشية تشكل عوامل أساسية في عملية تشويه الهوية وتدمير مكوناتها.
ولكن العنف الرمزي، سواء أكان مقترنا بالعنف الفيزيائي أو لم يكن، يولد جروحا نرجسية كبيرة تنال العمق الأساسي للهوية والكينونة. وهذا يتشكل بتأثير التصورات الرمزية التي تأخذ صورة نسق من التصورات والإيماءات والإشارات والتنبيهات والذكريات والفعاليات اللاشعورية التي يستبطنها الفرد ويعتمدها في عملية فهم العالم وإدراك دوره وتحديد وضعياته، وهي نفسها التي تسمح لأفراد جماعة ما أن تأخذ مكانها بالمقارنة مع الجماعات الأخرى التي تجاورها في الوسط الجغرافي والاجتماعي. ومثل هذه التصورات والمحددات الرمزية التي يستبطنها الفرد رمزيا تعمل على تشكيل هويته الفردية والاجتماعية. وغالبا ما تكون هذه الأنساق والتصورات نتاجا للعنف الرمزي الذي يمارس بصورة مباشرة أو عبر فعاليات ثقافية لاشعورية يستبطنها الفرد خلال عملية التنشئة أو التفاعل الاجتماعي وتمارس هذه الفعاليات الرمزية دورا حيويا وحاسما في بناء نواة الهوية.

3- العنف الرمزي وجروح الهوية:
تستمد الفعالية الرمزية المُشَكِّلة للهوية وجودها من الحاجة إلى تأكيد وحدة الشخصية واستمراريتها وصيرورتها الإنسانية. وهذه الحاجة ضرورية وذلك لأن وحدة الهوية معرضة للخطر بصورة دائمة تحت تأثير عوامل الانشطار والانكماش والتجزؤ والتفكك والإحساس بالدونية وهذا ما يطلق عليه علماء النفس قلق التفكك والانشطار (Angoisse de morcellement). فالفرد رغم شعوره بوحدته وتماسكه وتفرده ليس واحدا على مرّ الزمن، فقد لا تكون أفعاله في لحظة ما من لحظات حياته تعبيرا خالصا للشعور بالأنا ووحدة الهوية وذلك عندما نأخذ بعين الاعتبار وضعيات المعاناة والإكراه التي يكابدها في التكيف مع كل حالة من حالات الوجود والاستمرار.
فالفرد يكوّن جوهر هويته ويشكلها في مختلف مراحل التنشئة الاجتماعية تحت تأثير فعالية رمزية مكثفة تنطلق من تشكيلات ثقافية سائدة في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه. وهنا في دائرة هذا الحقل الرمزي ترتسم أنماط التجاوب مع التحديات في سياق درامي في مختلف المستويات الحياتية: من أكون أو من أنا بالتحديد؟ ما معتقداتي وولاءاتي الأساسية؟ حيث يرتسم في هذا النسق من الأسئلة الحقل الرمزي المشكل للهوية والأنا.
فاسم الفرد يشكل فعالية رمزية مؤثرة لأن الاسم غالبا يحدد جنس الفرد وفقا لأغلب الثقافات، كما يرمز إلى صفات ومعاني يختزنها الفرد لاشعوريا في مختلف مراحل تكونه النفسي والاجتماعي، وهذا ما يعبر عنه القول الدارج في الثقافة الشعبية: (لكل من اسمه نصيب). وهذا يعني أن الاسم الدال على الجنس يرسخ رمزيا في الوعي الفردي نواة الهوية ومركزيتها. ومن المهم في هذا السياق معرفة الدور الكبير الذي يمارسه النسق الرمزي في علاقته مع التحديات التي يواجهها الفرد عبر مسارات الحياة اليومية عبر الزمن. فالفرد يرسم نفسه ويحددها عبر تجاربه الحية في الحياة كعلامات راسخة ونقاط علاّم أساسية توجه مسار حياته نفسيا ورمزيا، وهنا فإن كل المعايير والدلالات التي تثبت وتقاوم الظروف الزمنية تشكل محورا أساسيا للهوية حيث يرمز الثبات إلى انتصار الأنا والذات في مواجهة الموت والعدم.
فالفرد عندما يريد أن يعزز شعور الهوية والإحساس بالأنا يعمل على تزكية قيم أخلاقية مرجعية تشكل مصدرا للسلوك والفعل لديه. وهذه القيم تعطي سلوكه طابع المشروعية التي تؤكد وحدة الشخصية وتماسكها، ومن هنا يمكننا أن ندرك أن عملية اكتشاف الهوية وتنميتها ترتبط جوهريا بالعقائد الدينية والفلسفية كأن يكون المرء مسلما أو مسيحيا أو عقلانيا أو ملحدا.

4- التبخيس عنفاً رمزياً:
فالعنف الرمزي القائم لا يأخذ صورة سلوك متعمد مقصود، وإذا كانت هناك أفعال ومقولات تهدف بصورة متعمدة إلى ازدراء الآخر وإهانته فهذه الأفعال والأعمال هي من نمط آخر مختلف تماما أي ليست رمزية أو لا تحمل طابعا رمزيا. ويمكن للعنف الرمزي هذا أن يؤدي إلى عملية تدمير المرجعيات الأخلاقية والقيمية التي تؤكد الهوية وتنميها وترسم أبعادها. ويمكن لنا في هذا السياق الاستفادة من النماذج الشعرية التي أوضحت عفويا هذا النوع من العنف الرمزي أو الهيمنة الرمزية إذ يقول الشاعر أحمد شوقي:​
قد تعيش النفوس على الضيم حتى...... لترى في الضيم أنها لا تضام
وفي هذا البيت من الشعر مثال واضح وصريح عن تأثير الهيمنة الرمزية في تشكيل الهوية واستلابها أيضا، فالتبخيس المستمر المذل قد يؤدي إلى تدمير المكون الأخلاقي للهوية وتحويل الذات إلى صورة مبتذلة تغتذي بنسغ المذلة والمهانة والقبول بالضيم على أنه هوية ووجود.
وجاء في بيت شعري آخر نموذج آخر للتأثير الرمزي في تشكيل الهوية حيث يقول عنترة في وصف حي لقوة الرمز والتصورات التي تحيط بالفرد في تدمير الهوية بيتا خالدا من الشعر فحواه:​
وَمَنْ يَكنْ عَبْدَ قوْمٍ لا يُخَالِفُهُمْ ......إذا جَفَوْهُ وَيَسْتَرْضي إذا عَتِبُوا
وفي هذا تكمن عبقرية عنترة الشعرية في إدراك أهمية التصورات الرمزية في تشكيل هوية الفرد حيث عانى بنفسه من جروح ساحقة للهوية في القبيلة (قبيلة عبس) التي رسمت حوله تصورات تبخيسية دونية بوصفه عبدا لا فارسا يحمي حماها وشاعرا يذود عن حياضها.
وفي هذا المقام يرى جورج ميد George Mead كل تأكيد للذات في الحياة يتضمن أحكاما قيمية ضرورية، ومهما يكن الأمر فإن عملية بناء الهوية تتم عبر العلاقة بالآخر. فالتبخيس والازدراء وتهميش الهوية أمر صادم، وهو يمثل عملية اغتصاب لقيمة إنسانية ضرورية في عملية توازن المجتمعات الإنسانية ولاسيما في المجتمعات الديمقراطية. فالتبخيس والتهميش يأخذ صورة إهانات وتحقير وتصغير وتشهير وتمييز وهي أفعال تمييزية تنتقص من قيمة الفرد وتدمر مرجعيات هويته الإنسانية. وهذا الأمر يشمل السلوك العدواني ضد الآخرين تحت ذريعة أصولهم الدنيا وانحدارهم في مستوى التطور.
لقد دأبت السياسات الاستعمارية على توظيف هذا النوع من التبخيس والتدمير الثقافي للهوية ضد الشعوب المستعمرَة تحت ذريعة التنوير والتبشير والديمقراطية. ويمكن تصنيف تسميات النمو وبلدان العالم الثالث والبلدان النامية تحت هذا العنوان التبخيسي للهوية. ومما لا شك فيه أن هذه التسميات وغيرها التي أطلقت على الشعوب المغلوبة تمثل أحكاما قيمية غامضة بذاتها ترمز إلى تقدم المجتمعات الغربية وتفوقها قياسا إلى تخلف الآخر. حتى أن الحملة الكريمة التي أعلنت من أجل المثل الديمقراطية وحقوق الإنسان التي وظفت في عملية التدخل الإنساني كانت تنطوي على أحكام قيمية تبخيسية ضد الأنظمة الاجتماعية والثقافات الإنسانية لهذه البلدان.
فالسياسات الاجتماعية التي رسمت لتقديم العون والمساعدة إلى الفئات المهمشة والضعيفة مثل العاطلين عن العمل والمعوقين والمهجرين والفقراء كانت وما زالت متشبعة بأحكام قيمية مدمرة لمرتكزات الهوية الاجتماعية لهذه الفئات. فالحياة في الأحياء الفقيرة حيث تغيب الخدمات الاجتماعية تشكل شاهدا على عملية تدمير مرتكزات الأنا والهوية حيث تهمل هذه الأحياء من قبل المؤسسات السياسية والإدارية، ويتعرض سكانها لعملية تبخيس دائم ومستمر يؤدي في النهاية إلى استبطانهم الإحساس بالدونية وفقدان القيمة الإنسانية وعدم الأهلية.
فالنزعة القومية الأصولية، وهذه المضادة للفكر الديني، والاشتراكية الثورية، تيارات وقوى سياسية وجدت نفسها في زحمة التنافس الانتخابي وعملت على نشر أيديولوجيات عمياء ترتكز إلى ثقافة تعصبية مهينة ولكنها فعالة في مجال الحياة السياسية. وفي هذا الثقافة السياسية الجديد يجد الخطاب التبخيسي مصادره ويأخذ مداه ويمارس تأثيره بقوة واضحة المعالم.
لقد أدت الحروب الأهلية في أوروبا في القرن العشرين إلى إيقاظ وعي عام جمعي مضاد لثقافة التبخيس والكراهية إزاء مختلف التكوينات والجماعات والأقليات في هذه البلدان. وعلى خلاف ذلك فإن التصورات التي ترمز إلى دولة الرفاهية والتقدم والرفاه الاقتصادي قد عززت فكرة بناء نمط من التصنيفات الغامضة التي تأخذ طابعا لا يخلو من التبخيس المبطن الذي تعاني منه الفئات الاجتماعية المهيضة والمهمشة. ووفقا لهذا المقياس كان يتم الحكم على فئات المهاجرين الذي تدفقوا في أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين، وبحكم الظروف السائدة آنذاك وجد هؤلاء المهاجرون أنفسهم بالضرورة في وضعية تبخيس وازدراء وشكلوا موضوعا للكراهية والتعصب من قبل السكان الأصليين.

5- العنف الرمزي وتدمير المرجعيات الثقافية.
نعني بالمرجعيات الثقافية للهوية منظومة من المعايير والقيم والمشاعر الأساسية والتصورات التي تسمح للفرد بأن يتشكل وأن يشعر بتماسك هويته وأن يتخذ وضعية محددة في العالم الذي يعيش فيه وفق مخطط من التصورات والمشاعر والمعايير التي تتسم بالوضوح والوحدة والتكامل، وهذه التصورات تشكل بدورها المحددات الثقافية والتربوية التي تمكن الفرد من أن يرسم نسقا من المسارات التي تسمح له بعملية التكيف والاستمرار بوصفه ذاتا وهوية مع مختلف مثيرات وفعاليات وظروف الوسط البيئي الإنساني والاجتماعي والثقافي الذي يحتضنه. وهذه المرجعيات تسمح للفرد على سبيل المثال أن يقدم إجابات واضحة حول قضايا حيوية ترتبط به في علاقاته بالوسط والآخر حيث يفرض المرء بالاستناد إلى شروط وجوده مخططا واضح المعالم للحياة والوجود يرسم من خلاله مختلف المعايير التي يعتمدها في وجوده واستمراره وتكيفه حيث تكون هذه المعايير نقاط علام بارزة في مسار التكيف والاستمرار والوجود من مثل: ما الأشياء التي تخصني وما التي تخصك أنت؟ من خصومي ومن أعدائي؟ كيف أفرض نوعا من الأمن الذي يتعلق بوجودي وكينونتي؟ مع من أتضامن وإلى من ألجأ ساعة الخطر؟ ما أنماط السلوك المشروعة وغير المشروعة التي يمكن أن أؤديها؟ ما الأمور المرغوبة والمرفوضة التي يمكن أن أقوم بها؟ ما الأشياء المهمة وغير المهمة؟ ما الأمور التي يمكن أن ثمن عاليا وما تلك التي تكون هامشية؟ ما المقدس وما المدنس في الحياة؟ ما الغاية وما الوسيلة في الوجود؟ هذه الأسئلة تشكل مسار وحدود المرجعيات الخاصة بالهوية التي تشكل نواة الوجود والهوية والإحساس بالأنا والتمايز والتكوين.
وفي هذا الخصوص يمكن القول: إن أي خلل أو ضرر أو تدمير يصيب هذه المرجعيات سيؤدي بالضرورة إلى عملية هدم للهوية ذاتها. وهذا يتم تحت تأثير مجموعة من العوامل والتأثيرات المقصودة وغير المقصودة التي تشكل نوعا من العنف الرمزي المدمر للهوية. فأي تبخيس واستصغار وإشعار بالدونية وأية أحكام سلبية رمزية تباشر هذه المكونات الأساسية للهوية يمكنها أن تشكل خطرا على مكونات الهوية ووحدتها. والأمثلة على هذا النوع من العنف الرمزي تتعدد وتتنوع بتعدد وتنوع الديناميات النفسية الاجتماعية.
ويمكن القول أيضا: إن الشكل الأول للعنف الرمزي يتجلى في الخلل الذي يعتري الوسط العاطفي والانفعالي المرجعي للفرد، وهذا يمكن ملاحظته في هذا الخلل الذي أفرزته الحداثة الغربية التي أدت إلى تناول المرتكزات الرمزية للأديان السماوية، وهذا بدوره شكل فوضى قيمية كبيرة في مجال الإحساس بالهوية الدينية. فالمؤمنون اليوم يعيشون في عالم انقلب فيه نسق الأسباب فحلت السببية العلمية مكان السببية الإلهية، وحلت فكرة التقدم العلمي مكان العناية الإلهية، وتركت فكرة الكمال الإلهي مكانها للأخلاق العملية بصورة عفوية مستقلة عن أية دعاية "بروباغاندا" مضادة للدين، ويشكل هذا الانقلاب الرمزي مرتعا لعملية تدمير الهوية الدينية التقليدية مرجعياتها القائمة على أنساق من التصورات الدينية المثقلة بالرموز.
إن قوة الرفض التي تبديها هذه الجماعات المهمشة من أجل الحفاظ على هويتها تعمل على معاقبة هؤلاء الذين ينتهكون قيمها ووصمهم بالخيانة والعار، ومع ذلك فإن هذه الجماعات والأقليات تبدي قلقها وخوفها بصورة واضحة. فالعقائد المنغلقة تعزز أفكارها وتصوراتها لدى أفرادها والمنتسبين إليها، وهي تفعل هذا وفق آلية التغذية الذاتية العفوية حفاظا على مكونات هويتها التي تتعرض للضغط والفوضى بتأثير عوامل الصدمة مع معتقدات الآخر وأنماط وجوده. والشكل الأكثر تطرفا لهذا النمط من العنف الرمزي عملية تدمير الرموز والأيقونات الدينية أو عملية تدمير ورفض لكل المعاني والرموز التي تتصل بالعقائد الدينية حيث يتم تدمير المقدس وانتهاكه ولاسيما في المعابد والمراكز الدينية.
ويشهد العالم المعاصر تنامي أشكال مختلفة من العنف الرمزي الذي يستهدف مرجعيات الهوية وأسسها المركزية، وهذه الأشكال ليست نوعا من التبشير الكلاسيكي الذي يتصف بالعدوانية ويفرض نفسه بقوة المؤسسات الكبرى مثل هذا الذي مارسته الكنائس التبشيرية.
وفي النهاية يمكن القول بأن النتائج السياسية لهذا العنف الرمزي تتميز بالأهمية والحضور والتواتر. ومن المناسب هنا التركيز على مختلف وجهات النظر فيما يتعلق بطريقة معالجة هذه الوضعيات الرمزية ومنها: التراجع إلى ثقافة المتاريس التي تؤدي إلى توليد التناقضات والتوترات في مكونات الهوية، أي وفقا لمفهوم "الأنومية" (Anomie= الفوضى الأخلاقية والقيمية لدى دوركهايم)، أي استبطان مشاعر الدونية واستصغار الذات والهوية وأحيانا توليد مشاعر النقمة والتعويض للضحية عبر العنف من خلال التماهي بسلوك المتسلط أو الجلاد، ومن المؤكد أن العنف الرمزي يؤدي إلى تعزيز وتوليد العنف الفيزيائي، وهو عنف يؤدي إلى تجاوز الحصانة القانونية والمعايير الأخلاقية التي تعمل على حماية الجماعات القوية أو المهيمنة.

6- خلاصة: انشطارات الهوية
يتكاثف الاستلاب الرمزي للهوية في المجتمعات التقليدية المعاصرة ولاسيما في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، ويأخذ هذا الانكسار صيغا متعددة في مستوى الفرد وفي مستوى المجتمع. وما نراه اليوم يكشف عن انفجارات متواترة في الهويات الوطنية في عدد كبير من الدول العربية. فالهويات الوطنية تتشظى إلى هويات طائفية وإثنية وعرقية مغلقة ومتصادمة أيضا في سوريا والعراق ومصر والسودان وغيرها من البلدان العربية. وفي دائرة هذا الانشطار نجد هوسا تدميريا للرمز في معارك التصادم بين الهويات المنشطرة. فكل هوية طائفية أو عرقية وليدة أو مستقرة تنطلق من أنساق رمزية في تثبيت هويتها وفي كسر الهويات المجاورة: التصورات السلبية التي ترسخها كل هوية طائفية أو عرقية ضد الأخرى والتصورات الإيجابية التي ترسمها كل طائفة عن ذاتها في تداعيات إثبات الهوية وترسيم حدودها. وغالبا ما نواجه هويات منكسرة جزئيا أو كليا مستلبة بهذا القدر أو ذاك وهذا الاستلاب يشمل الأبعاد العالمية والإقليمية والمحلية.
ومن الضرورة بمكان أيضا الإشارة في هذا السياق إلى الاستلاب الفردي للهوية فالتربية السائدة تشكل بوتقة من التصورات السلبية التي يتنمذج عليها افراد المجتمع ولاسيما من الطبقات الفقيرة والمهمشة في مختلف جوانب الحياة التربوية والسياسية والاجتماعية. ويمكن القول في النهاية إن هذه المقالة يمكنها أن تشكل منطلقا لدراسات أمبيرقية حول فاعلية الطاقة الرمزية في انتهاك الهويات الفردية والجمعية في مجتمعاتنا العربية المعاصرة واستلابها.​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى