مال العالم يدفعني إلى حافة الجنون، تلك الأحلام الغريبة والملعونة تملأ حالات نومي ويقظتي بذكريات تلتصق بي كحشرة القراض تنمو وتكبر داخلي كوحش كاسر، لتدفني في دوامة من الأفكار المضطربة مع هواجس فراق الشباب والحيوية والنضارة بعد ترهل جسدي وانطفاء روحي، وفوبيا البحث عن أفضل برامج الدايت، أمام سمانة الردفين والكرش والنهدين المتهدلين، وظلال سميكة تخفي هالات وتجعيدات كشباك العنكبوت تنسج خيوطها تحت عيناي، وعند جبهتي، سأبدأ منتصف الأربعينات، أعوام النضج، والصمت المرعب، تلك الحقائق المرعبة مثل أحلامي الملازمة لي.. الآن أشعر بتوسيع دائرة الاشتباك مع دهاليز الحياة الجديدة، ليس فقط باستخدام الحواس الخمس الموجودة لدى الجميع؛ وإنما تزيدهم الآن الحاسة السادسة، التي تخرج منها تجاوزات الفهم والاستيعاب لأدرك سبر أغوار الأشخاص والأمور في وقت قصير جدًّا، وأهزأ وأتعجب من تلك الحاسة الجديدة ذات الاستقصاء البعيد من مجرد مؤشرات مألوفة، وحركات باتت واضحة بكل بساطة كي أتفهم الأمر والشخص معًا سريعًا، إنها الخبرة الملعونة كأحلامي أيضًا.
أمس حلمت حلمًا غريبًا، بل أشبه بكابوس، أنني في منزل جدي القديم ذي الأبواب الخشبية القديمة الضخمة، والشبابيك الطولية لتلك الحجرات ذات الأسقف العالية، وعندما اتجهت إلى باحة المنزل الواسع الخلفية، رأيت أدراجًا كثيرة، وكأننا في فصل مدرسي كبير لا حدود له، وسرت إلى نهاية الأدراج، ثم مشيت في ردهة طويلة حتى وصلت إلى باب موصد عتيق الطراز مثل أبواب حكايات ألف ليلة وليلة، دفعته بكلتا يداي، وكان فصلاً دراسيا كبيرًا وواسعًا.. جدرانه رمادية اللون، والسقف معلق به مروحتين قديمتين على التوازي وتتدلى منهما الأسلاك، وتدوران بأقصى سرعة، حتى عندما أطلت النظر إليهما، ارتعبت بتخيل سقوطهما عليَّ وقتلي، واكتمل فزع المشهد بالتلاميذ المتراصين في الأدراج بنظام، منكفئين داخل رءوسهم على الأدراج كالنائمين نوم الميتين.. هلعت روحي، وتشتتت أفكاري، وكدت أصرخ، وجريت إلى آخر الفصل أحاول الاختباء وأنا أراقب ما يحدث من بعيد، وبعد سويعات من الوقت بدأ بعض التلاميذ يستيقظون، ويخرجون، والباقون ما زالوا على وضعية النوم الآشبه بالموت، وتخللت جسدي برودة كالصقيع، جمدت أطرافي، واصطكت أسناني، وقرقرت بطني، وكنت أرتجف من رأسي إلى عقب أصابع قدماي كغصن شجرة داخل الماء، وسقطت على الأرض أجلس القرفصاء دافسة رأسي داخل ذراعي، وبكيت بكل ما أوتيت من قوة، حتى أجهشت بتنهدات عالية كمَنْ يعدد بقهر من حزن ساحق وماحق، حتى على غفلة، تسللت فتاة صغيرة بخفة الأرواح، عينيها بهما نور خابي مخيف، وتشع منهما رائحة الموت، الذي عاد إلى الحياة بغتة كروح شيطانية، وربتت على كتفي وأمرتني أن أخرج سريعًا من هنا، وذهبت عني، واستجمعت قواي المتخاذلة، وأنفاسي لا ألتقطها من البكاء، والفتاة الصغيرة واقفة تنظر إليَّ نظرات أشبه بالسهام تكاد تصيبني في مقتل، وبمجرد أن خرجت من باب الفصل لمغادرة المنزل، استيقظ جميع التلاميذ بنفس عيون الفتاة الصغيرة ينوون اللحاق بي، هكذا شعرت، وحضرتني قوة الحياة والمقاومة، فجريت بأقصى سرعة وهم يجروون خلفي فعلاً، استيقظت على صرخة، أشهق كأنني كنت أجري حقًا، ونهضت فورًا.. غسلت وجهي ورأسي بالماء الساقع، حتى أهدأ، وعدت إلى فراشي يلزمني الصمت وأنا أحاول أن أتجاهل الأمر ، وأدعي أنه ليس إلا كابوسًا وسأتجاوزه.. لكن مع الأسف، بعد عدة أيام، وأنا جالسة بمفردي في البلكونة أستمتع بنسمات الصيف الهفهافة، رفعت سهوًا عيناي إلى السماء المظلمة أتامل وجودها وأشاركها اكتئابها عن حالها وحال الطبيعة، الذي أبان عن شحوب بواكير النجوم البازغة في سماء الليل، ومن بعيد يبدو نور خافت لقمر يتوارى كفتاة خجلة من الظهور كاملاً، ثم ألقيت نظرة إلى الأسفل، حيث يعيث البشر في الأرض فسادًا، فرأيتهم وحوشًا ضارية، ورغم كل ما يدعونه عن المحبة والمودة الإنسانية، فإن العنف بين البشر هو أساس الاستمرار في الحياة.. ذلك الإنسان ما هو إلا كائن قاسٍ بلا رحمة، يحارب أخاه الإنسان، والطبيعة والكون جميعًا من أجل رغائبه وطموحاته الغبية؛ لذا اعتقدت أننا نحن المخلوقات القاسية في هذا العالم، إذن من الأفضل أن يدمر هذا الكون، وتنهار الجبال، وتهب الرياح، وتعصف العواصف المدمرة، وتنشق الأرض، وتبتلع البشر، وكل المدن القائمة على أرض وطني بزهو وتعالٍ.. أنها من صنع ذلك المخلوق المتعجرف، المتيم بعبقرية الوجود.. فليذهب إلى الجحيم، وتتمرد الطبيعة الغاضبة من تخريبها والاستهانة بها، بأشجارها الخضراء الوارفة ونقائها، وأنهارها الجارية بانسيابية، وجبالها الشاهقة خلف التلال مع أربابها، من الحيوانات والطيور.
رجعت برأسي إلى الخلف، وأغلقت عيناي من تلك الأحلام الكابوسية التي تشغلني، وقررت هذه المرة أن آخذ دشًا باردًا وأضع رأسي وجسدي كله تحته فترة طويلة ربما أفيق من تمردي أنا والطبيعة.
الكاتبة المصرية / هدى توفيق
أمس حلمت حلمًا غريبًا، بل أشبه بكابوس، أنني في منزل جدي القديم ذي الأبواب الخشبية القديمة الضخمة، والشبابيك الطولية لتلك الحجرات ذات الأسقف العالية، وعندما اتجهت إلى باحة المنزل الواسع الخلفية، رأيت أدراجًا كثيرة، وكأننا في فصل مدرسي كبير لا حدود له، وسرت إلى نهاية الأدراج، ثم مشيت في ردهة طويلة حتى وصلت إلى باب موصد عتيق الطراز مثل أبواب حكايات ألف ليلة وليلة، دفعته بكلتا يداي، وكان فصلاً دراسيا كبيرًا وواسعًا.. جدرانه رمادية اللون، والسقف معلق به مروحتين قديمتين على التوازي وتتدلى منهما الأسلاك، وتدوران بأقصى سرعة، حتى عندما أطلت النظر إليهما، ارتعبت بتخيل سقوطهما عليَّ وقتلي، واكتمل فزع المشهد بالتلاميذ المتراصين في الأدراج بنظام، منكفئين داخل رءوسهم على الأدراج كالنائمين نوم الميتين.. هلعت روحي، وتشتتت أفكاري، وكدت أصرخ، وجريت إلى آخر الفصل أحاول الاختباء وأنا أراقب ما يحدث من بعيد، وبعد سويعات من الوقت بدأ بعض التلاميذ يستيقظون، ويخرجون، والباقون ما زالوا على وضعية النوم الآشبه بالموت، وتخللت جسدي برودة كالصقيع، جمدت أطرافي، واصطكت أسناني، وقرقرت بطني، وكنت أرتجف من رأسي إلى عقب أصابع قدماي كغصن شجرة داخل الماء، وسقطت على الأرض أجلس القرفصاء دافسة رأسي داخل ذراعي، وبكيت بكل ما أوتيت من قوة، حتى أجهشت بتنهدات عالية كمَنْ يعدد بقهر من حزن ساحق وماحق، حتى على غفلة، تسللت فتاة صغيرة بخفة الأرواح، عينيها بهما نور خابي مخيف، وتشع منهما رائحة الموت، الذي عاد إلى الحياة بغتة كروح شيطانية، وربتت على كتفي وأمرتني أن أخرج سريعًا من هنا، وذهبت عني، واستجمعت قواي المتخاذلة، وأنفاسي لا ألتقطها من البكاء، والفتاة الصغيرة واقفة تنظر إليَّ نظرات أشبه بالسهام تكاد تصيبني في مقتل، وبمجرد أن خرجت من باب الفصل لمغادرة المنزل، استيقظ جميع التلاميذ بنفس عيون الفتاة الصغيرة ينوون اللحاق بي، هكذا شعرت، وحضرتني قوة الحياة والمقاومة، فجريت بأقصى سرعة وهم يجروون خلفي فعلاً، استيقظت على صرخة، أشهق كأنني كنت أجري حقًا، ونهضت فورًا.. غسلت وجهي ورأسي بالماء الساقع، حتى أهدأ، وعدت إلى فراشي يلزمني الصمت وأنا أحاول أن أتجاهل الأمر ، وأدعي أنه ليس إلا كابوسًا وسأتجاوزه.. لكن مع الأسف، بعد عدة أيام، وأنا جالسة بمفردي في البلكونة أستمتع بنسمات الصيف الهفهافة، رفعت سهوًا عيناي إلى السماء المظلمة أتامل وجودها وأشاركها اكتئابها عن حالها وحال الطبيعة، الذي أبان عن شحوب بواكير النجوم البازغة في سماء الليل، ومن بعيد يبدو نور خافت لقمر يتوارى كفتاة خجلة من الظهور كاملاً، ثم ألقيت نظرة إلى الأسفل، حيث يعيث البشر في الأرض فسادًا، فرأيتهم وحوشًا ضارية، ورغم كل ما يدعونه عن المحبة والمودة الإنسانية، فإن العنف بين البشر هو أساس الاستمرار في الحياة.. ذلك الإنسان ما هو إلا كائن قاسٍ بلا رحمة، يحارب أخاه الإنسان، والطبيعة والكون جميعًا من أجل رغائبه وطموحاته الغبية؛ لذا اعتقدت أننا نحن المخلوقات القاسية في هذا العالم، إذن من الأفضل أن يدمر هذا الكون، وتنهار الجبال، وتهب الرياح، وتعصف العواصف المدمرة، وتنشق الأرض، وتبتلع البشر، وكل المدن القائمة على أرض وطني بزهو وتعالٍ.. أنها من صنع ذلك المخلوق المتعجرف، المتيم بعبقرية الوجود.. فليذهب إلى الجحيم، وتتمرد الطبيعة الغاضبة من تخريبها والاستهانة بها، بأشجارها الخضراء الوارفة ونقائها، وأنهارها الجارية بانسيابية، وجبالها الشاهقة خلف التلال مع أربابها، من الحيوانات والطيور.
رجعت برأسي إلى الخلف، وأغلقت عيناي من تلك الأحلام الكابوسية التي تشغلني، وقررت هذه المرة أن آخذ دشًا باردًا وأضع رأسي وجسدي كله تحته فترة طويلة ربما أفيق من تمردي أنا والطبيعة.
الكاتبة المصرية / هدى توفيق