قد تخوننا الكلمات، لكن لا تخوننا المشاعر عندما نتحدث عن الذين ننتمي إليهم مثل ما انتموا الينا، دون مقابل سوى أنهم أحبونا لأنهم أحبوا وطنهم وأحبوا الإنسان فخدموه حتى لحظاتهم الأخيرة تاركين وراءهم إرثا ً أخلاقيا عظيماً..
هند الحسيني.. امرأة من بلادي..
امرأة بحجم وطن وتاريخ أمة وقلبٍ يحتضن البشرية، مُدرسةٌ ومربيةٌ فاضلة كرست حياتها وضخت مشاعرها ومحبتها لأطفالها الذين اختارت أن تكون أمهم بإرادتها وتفرغت لهم ورفضت الزواج لأجلهم، وكانت راعيةً لشعبها، للأيتام والفقراء وأبناء الشهداء، وقامت بإنقاذ ٥٥ طفلاً يتيماً من الناجين من مذبحة دير ياسين المروعة عام ١٩٤٨، فجمعتهم مع الأستاذ (عدنان التميمي) ووضعتهم في غرفتين في (سوق الحصر) وهو سوق شعبي في مدينة القدس مخصص لبيع السجاد والحصر، ولم تكن تملك سوى ١٣٨ جنيهاً فلسطينياً وقتها لكنها رفضت التخلي عنهم واعتبرت أن مصيرها وحياتها مرتبطٌ بهؤلاء الأطفال، وكانت البداية التي أسست دار الطفل العربي في مدينة القدس عام ١٩٤٨، وحاولت إعادة هؤلاء الأطفال إلى التعليم فجعلت من المرآب واصطبل الخيول صفوفاً مؤقتة لتدريس الطلاب تحت إشرافها المباشر..
وكانت هند تتذكر حالتها عندما وجدت الأطفال بعد مذبحة دير ياسين في ال ٢٥ من أبريل قائلةً "لم يكن في جعبتي سوى ١٣٨ جنيهاً.. آليت على نفسي أن أعيش بالأطفال أو أموت معهم، اذ تصورت وكأن الشعب الفلسطيني سيمحى وينقرض لو مات الأطفال، وكيف يمحى شعبنا العظيم ؟ لا وألف لا"..
وكانت هند قد أسست في سنة ١٩٦٠ في "دار الطفل العربي" متحفاً للتراث الشعبي الفلسطيني والذي ضم قطعاً أثرية ثمينة وأدواتٍ حرفية تقليدية وأزياءًا شعبية مطرزة من مناطق مختلفة من فلسطين، ودأبت بإستمرار على إثراء مقتنيات هذا المتحف..
وخلال العدوان الإسرائيلي في حزيران/ يونيو ١٩٦٧ حوّلت هند الحسيني مقر "دار الطفل العربي" مستوصفاً لعلاج الجرحى، فلم يسلم هذا المقر من اعتداء القوات الإسرائيلية إذ تم قصفه وتدمير نصفه بالكامل، غير أن الصليب الأحمر النرويجي قام بالمساعدة في إعادة بنائه..
وعلى مدار سنواتٍ من الصبر والتفاني والإيمان بالرسالة والدور الذي تؤديه، وبفضل التبرعات تمكنت عام ١٩٧٠ من بناء بناية لهؤلاء الأطفال، وتدرجت مؤسسة دار الطفل العربي إلى أن أصبحت حياً تعليمياً متكاملاً يضم الحضانة وبساتين الأطفال والمرحلة الإعدادية والثانوية وقسم الكمبيوتر والسكرتير ومكافحة الأمية والخياطة والتدبير المنزلي..
و في عام ١٩٨٢ تمّ شراء بيت الأديب الفلسطيني (إسعاف النشاشيبي) المتوفي ليصبح "مركز إسعاف النشاشيبي للثقافة والفنون"، وتمّ إعداده مركزاً للأبحاث الإسلامية ومعهداً عالياً.. فقامت هند الحسيني بمعاونة (إسحق موسى الحسيني) بتأسيس مكتبةٍ في المركز ضمّت آلاف كتب التراث العربي الإسلامي إلى جانب منحه درجة البكالوريوس، أما في عام ١٩٩٢ تم إنشاء معهد الآثار والحضارة الإسلامية والذي يمنح درجة الماجستير..
وكان لتجربتها الرائدة والفريدة والمعطائة أصداءٌ واسعة عربياً ودولياً لفتت الأنظار إلى جهودها فدعيت إلى العديد من المؤتمرات للتدريب المهني والندوات للحديث عن دور المرأة في النهوض بالمجتمع في دمشق وبيروت وسلطنة عمان، واستكملت دورها كمربية فالتحقت بجامعة هامبورغ الألمانية لثلاثة سنوات متتالية لمدة أربعة أشهر كل عام، لتحديث معلوماتها والإضافة إلى خبراتها كي تستطيع مواكبة العملية التعليمية وخدمة الطلاب والطالبات بشكلٍ أكبر، كما شاركت هند في عضوية العديد من الهيئات الاجتماعية والتعليمية، فهي من مؤسسي (جمعية المقاصد الخيرية) في القدس ورئيسة مجلس أمناء كلية الآداب للبنات في جامعة القدس، وعضو مجلس إدارة جمعية المشروع الإنشائي، وجمعية اليتيم العربي، والفتاة اللاجئة، ومجلس أمناء جامعة القدس..
ونالت العديد من الجوائز والأوسمة منها وسام البابا بولس بمناسبة زيارة القدس عام ١٩٦٤، وسام أديلاي دستوري التقديري الإيطالي للسيدات الرائدات في العالم عام ١٩٨٠، وسام الكوكب الأردني للتربية والتعليم عام ١٩٨٥، وسام الدرجة الأولى من الحكومة الألمانية عام ١٩٨٩..
ولا يعرف الكثيرون أن قصة هند الحسيني بدأت باكراً جداً، فكم الحنان الذي وهبته لوطنها وأطفاله لم تحظى به بشكل شخصي لأن والدها توفي وهي في الثانية من عمرها لتبدأ رحلتها العصامية مع العلم والتعليم بدراسة آداب اللغتين العربية والإنجليزية عام ١٩٣٨ وتصبح معلمةً فيما بعد، وتنتقل عام ١٩٤٥ إلى مرحلة العمل الإجتماعي التطوعي، حيث أنشأت (جمعية التضامن الإجتماعي النسائي) في القدس، والتي نشرت فروعها في أنحاء فلسطين حتي وصل عددها إلي ٢٢ فرعاً، فقامت مع مجموعةٍ من النساء بدراسةٍ لأحوال الأطفال في المدن والقرى التي وجدن فيها الأطفال مهملين، وقاموا بتنظيم جمعياتٍ محلية وبساتين أطفال ومراكز مكافحة أمية وتعليم خياطة في عددٍ من مدن وقرى فلسطين..
لترحل في ١٣ أيلول/سبتمبر عام ١٩٩٤ عن عمرٍ يناهز ال ٧٨ عاماً، بعد حياةٍ حافلة بالإنجازات والعطاء على أصعدة الوطن والإنسان والتعليم، لتكون قدوةً ومثالاً يحتذى به، ونموذجاً مشرقاً للمرأة بشكل عام والمرأة الفلسطينية بشكلٍ خاص، يحمل رسالة الأمومة والتضحية وإنكار الذات أملاً في خلق مستقبلٍ أفضل للوطن وأطفاله..
تظلين أيقونةً وطنية نتذكرها وندعو لها بالرحمة، وننظر لها ولتجربتها بكل تقديرٍ واحترامٍ وفخر.. هند الحسيني ابنة فلسطين والقدس.. أمثالك لا يموتون.. فالأمومة لا تموت، والإنسانية لا تموت والوطن قد يمرض لكنه لا يموت، تحية إلى روحك الطاهرة وفي هذه الحياة التي أعطيتيها من حياتك، كل يوم هو يومك وكل يوم هو ميلادك وذكراكي ستظل خالدةً بيننا..
خالد جهاد..
هند الحسيني.. امرأة من بلادي..
امرأة بحجم وطن وتاريخ أمة وقلبٍ يحتضن البشرية، مُدرسةٌ ومربيةٌ فاضلة كرست حياتها وضخت مشاعرها ومحبتها لأطفالها الذين اختارت أن تكون أمهم بإرادتها وتفرغت لهم ورفضت الزواج لأجلهم، وكانت راعيةً لشعبها، للأيتام والفقراء وأبناء الشهداء، وقامت بإنقاذ ٥٥ طفلاً يتيماً من الناجين من مذبحة دير ياسين المروعة عام ١٩٤٨، فجمعتهم مع الأستاذ (عدنان التميمي) ووضعتهم في غرفتين في (سوق الحصر) وهو سوق شعبي في مدينة القدس مخصص لبيع السجاد والحصر، ولم تكن تملك سوى ١٣٨ جنيهاً فلسطينياً وقتها لكنها رفضت التخلي عنهم واعتبرت أن مصيرها وحياتها مرتبطٌ بهؤلاء الأطفال، وكانت البداية التي أسست دار الطفل العربي في مدينة القدس عام ١٩٤٨، وحاولت إعادة هؤلاء الأطفال إلى التعليم فجعلت من المرآب واصطبل الخيول صفوفاً مؤقتة لتدريس الطلاب تحت إشرافها المباشر..
وكانت هند تتذكر حالتها عندما وجدت الأطفال بعد مذبحة دير ياسين في ال ٢٥ من أبريل قائلةً "لم يكن في جعبتي سوى ١٣٨ جنيهاً.. آليت على نفسي أن أعيش بالأطفال أو أموت معهم، اذ تصورت وكأن الشعب الفلسطيني سيمحى وينقرض لو مات الأطفال، وكيف يمحى شعبنا العظيم ؟ لا وألف لا"..
وكانت هند قد أسست في سنة ١٩٦٠ في "دار الطفل العربي" متحفاً للتراث الشعبي الفلسطيني والذي ضم قطعاً أثرية ثمينة وأدواتٍ حرفية تقليدية وأزياءًا شعبية مطرزة من مناطق مختلفة من فلسطين، ودأبت بإستمرار على إثراء مقتنيات هذا المتحف..
وخلال العدوان الإسرائيلي في حزيران/ يونيو ١٩٦٧ حوّلت هند الحسيني مقر "دار الطفل العربي" مستوصفاً لعلاج الجرحى، فلم يسلم هذا المقر من اعتداء القوات الإسرائيلية إذ تم قصفه وتدمير نصفه بالكامل، غير أن الصليب الأحمر النرويجي قام بالمساعدة في إعادة بنائه..
وعلى مدار سنواتٍ من الصبر والتفاني والإيمان بالرسالة والدور الذي تؤديه، وبفضل التبرعات تمكنت عام ١٩٧٠ من بناء بناية لهؤلاء الأطفال، وتدرجت مؤسسة دار الطفل العربي إلى أن أصبحت حياً تعليمياً متكاملاً يضم الحضانة وبساتين الأطفال والمرحلة الإعدادية والثانوية وقسم الكمبيوتر والسكرتير ومكافحة الأمية والخياطة والتدبير المنزلي..
و في عام ١٩٨٢ تمّ شراء بيت الأديب الفلسطيني (إسعاف النشاشيبي) المتوفي ليصبح "مركز إسعاف النشاشيبي للثقافة والفنون"، وتمّ إعداده مركزاً للأبحاث الإسلامية ومعهداً عالياً.. فقامت هند الحسيني بمعاونة (إسحق موسى الحسيني) بتأسيس مكتبةٍ في المركز ضمّت آلاف كتب التراث العربي الإسلامي إلى جانب منحه درجة البكالوريوس، أما في عام ١٩٩٢ تم إنشاء معهد الآثار والحضارة الإسلامية والذي يمنح درجة الماجستير..
وكان لتجربتها الرائدة والفريدة والمعطائة أصداءٌ واسعة عربياً ودولياً لفتت الأنظار إلى جهودها فدعيت إلى العديد من المؤتمرات للتدريب المهني والندوات للحديث عن دور المرأة في النهوض بالمجتمع في دمشق وبيروت وسلطنة عمان، واستكملت دورها كمربية فالتحقت بجامعة هامبورغ الألمانية لثلاثة سنوات متتالية لمدة أربعة أشهر كل عام، لتحديث معلوماتها والإضافة إلى خبراتها كي تستطيع مواكبة العملية التعليمية وخدمة الطلاب والطالبات بشكلٍ أكبر، كما شاركت هند في عضوية العديد من الهيئات الاجتماعية والتعليمية، فهي من مؤسسي (جمعية المقاصد الخيرية) في القدس ورئيسة مجلس أمناء كلية الآداب للبنات في جامعة القدس، وعضو مجلس إدارة جمعية المشروع الإنشائي، وجمعية اليتيم العربي، والفتاة اللاجئة، ومجلس أمناء جامعة القدس..
ونالت العديد من الجوائز والأوسمة منها وسام البابا بولس بمناسبة زيارة القدس عام ١٩٦٤، وسام أديلاي دستوري التقديري الإيطالي للسيدات الرائدات في العالم عام ١٩٨٠، وسام الكوكب الأردني للتربية والتعليم عام ١٩٨٥، وسام الدرجة الأولى من الحكومة الألمانية عام ١٩٨٩..
ولا يعرف الكثيرون أن قصة هند الحسيني بدأت باكراً جداً، فكم الحنان الذي وهبته لوطنها وأطفاله لم تحظى به بشكل شخصي لأن والدها توفي وهي في الثانية من عمرها لتبدأ رحلتها العصامية مع العلم والتعليم بدراسة آداب اللغتين العربية والإنجليزية عام ١٩٣٨ وتصبح معلمةً فيما بعد، وتنتقل عام ١٩٤٥ إلى مرحلة العمل الإجتماعي التطوعي، حيث أنشأت (جمعية التضامن الإجتماعي النسائي) في القدس، والتي نشرت فروعها في أنحاء فلسطين حتي وصل عددها إلي ٢٢ فرعاً، فقامت مع مجموعةٍ من النساء بدراسةٍ لأحوال الأطفال في المدن والقرى التي وجدن فيها الأطفال مهملين، وقاموا بتنظيم جمعياتٍ محلية وبساتين أطفال ومراكز مكافحة أمية وتعليم خياطة في عددٍ من مدن وقرى فلسطين..
لترحل في ١٣ أيلول/سبتمبر عام ١٩٩٤ عن عمرٍ يناهز ال ٧٨ عاماً، بعد حياةٍ حافلة بالإنجازات والعطاء على أصعدة الوطن والإنسان والتعليم، لتكون قدوةً ومثالاً يحتذى به، ونموذجاً مشرقاً للمرأة بشكل عام والمرأة الفلسطينية بشكلٍ خاص، يحمل رسالة الأمومة والتضحية وإنكار الذات أملاً في خلق مستقبلٍ أفضل للوطن وأطفاله..
تظلين أيقونةً وطنية نتذكرها وندعو لها بالرحمة، وننظر لها ولتجربتها بكل تقديرٍ واحترامٍ وفخر.. هند الحسيني ابنة فلسطين والقدس.. أمثالك لا يموتون.. فالأمومة لا تموت، والإنسانية لا تموت والوطن قد يمرض لكنه لا يموت، تحية إلى روحك الطاهرة وفي هذه الحياة التي أعطيتيها من حياتك، كل يوم هو يومك وكل يوم هو ميلادك وذكراكي ستظل خالدةً بيننا..
خالد جهاد..