محمد العرجوني - إدراك الشعر

جرت العادة القول بأن الشعر ديوان العرب. فالشعر وجد عن سليقة، هكذا كان يُتصور. فكانت العرب تتحدث شعرا إن صح التعبير. وكانت له وظائف عدة: مدح وهجاء ورثاء الخ... بمعنى كانت العرب تصوغ شعرها في المناسبات، أي الشعر مرتبط بالأغراض. ولهذا الغرض كانت تفضل أجمل ما في القول من بديع ومحسنات لإيصال الغرض وترسيخه. وحينما جاء الخليل بفكره العلمي اتضح له بأن ما يبدو قولا عن سليقة، يتشكل عن لاوعي، حسب قوانين مستترة، فأخرجها للوجود وهي البحور...
الشعر إذن هو ما يكتب حسب هذه القوانين عن وعي (كما ينظم الشعراء ما بعد الخليل) أو عن لا وعي (كما كان النظم قبل الخليل)، هدفه الأول هو إيصال فكرة ما، لكن بأسلوب مؤثث ومزين. هو ذا الشعر. ومن حق من تربى على هذا التراث ان يتشبث به كما هو في الأصل. وكما هو الشأن بالنسبة لأي صناعة تقليدية وجب الحفاظ عليها من قبل صناع تقليديين مهرة...
لكن ما يكتب تحت مصطلح قصيدة النثر، بتأثير من الشعر الغربي، وبوازع حداثي، بالنسبة إلي لا يدخل في خانة الشعر، لأنه ببساطة لا يُكتب حسب القوانين التي جعلت من الشعر شعرا، ولأن الحداثة تعني أيضا التحرر، فإن قصيدة النثر هدفها التحرر من قوانين الشعر، بل ومن الشعر نفسه. لكن بالمقابل لا يمكن اعتباره نثرا كذلك، لأن للنثر قوانينه. لهذا حاول البعض إيجاد مصطلح لقصيدة النثر. لكن متناسين إخراجها من دائرة الشعر. لهذا نجد هذا التجاذب والنقاش بل والصراع بين كتاب /صناع/شعراء القصيدة الأصلية (التقليدية) وبين كتاب قصيدة النثر، وكلاهما يتشبث بشعرية كتابته.
للخروج من هذه النقاشات في نظري هو القول بصراحة بأن ما يكتب حسب القوانين الخليلية هو الشعر. لأنه يحترم تلك القوانين البدائية الملتصقة بهذا الجنس الذي اصطلح عليه الشعر. وما يسمى قصيدة نثر، ليس شعرا وإنما قد ندخله في دائرة نطلق عليها ماوراء الشعر. كيف ذلك؟ لأن الشعر كائن فزيائي أي مدرك بفضل قوانينه الخاضعة للعقل، بما فيها ما يسمى بوحدة الموضوع التي تتشكل من منطق الفكرة كمنطلق لإيصالها سالمة إلى المتلقي الذي يرتاح لها، في غلاف فني مقنن كذلك. أما ما سمي بمصطلح هجين، أي قصيدة النثر، فهي كتابة لا تخضع لقوانين معينة وثابتة، لهذا ليست فيزيائية ومدركة كما هو الشأن بالنسبة للشعر، ما يجعلها تبدو للعقل وكأنها هلوسات أو هذيان لأنها لا تخضع لمنطق تربى عليه العقل، وبطبيعة الحال، تربت عليه أيضا اللغة، بصفتها وسيلة تواصل قبل كل شيء، خاضعة لمنطق العقل. فاللغة في قصيدة النثر، هدفها التحرر من منطق العقل السائد البائد، خاصة على مستوى المحور الاستبدالي، وبشكل أقل على مستوى المحور التركيبي. لهذا الغرض استدل غالبا ببعض الأمثلة. اكتفي بقول الشاعر الفرنسي بول إلوار:
زرقاء هي الأرض كبرتقالة
la terre est bleue comme une orange
فكما وضحت أن الشاعر هنا تحرر على مستوى المحور الاستبدالي. لأنه استعمل في تشبيهه، مشبه به يستحيل للعقل الخاضع لمنطق اللغة، أن يجد بينه وبين المشبه اية علاقة. لكن لو تحرر قليلا، سوف تأخذه دهشته إلى البحث عن هذه العلاقة التي تبدو في غير انسجام. يكفي الدخول إلى جوجل ليجد المتلقي مبتغاه. لكن يبقى التأويل مفتوحا، ولن أبوح بما توصلت إليه شخصيا حتى لا أفسد المتعة على المتلقي...
فالشعر اذن كائن فزيائي مدرك، كما هو الشأن بالنسبة للأجسام المرئية حسب الفيزياء التقليدية وما سمي بقصيدة النثر، كائن غير مدرك وزئبقي كما هو الشأن بالنسبة للجسيمات ما دون الذرة، حسب الفيزياء الكمومية. لهذا يمكن وصفه بكائن ماورائي.
وأخيرا يمكن القول بان عقلنا العربي تربى على أن يقيس الجديد على القديم فأصبح النص(الشعر هنا ) هو السلطة المرجعية، كما قال الفيلسوف المغربي الجابري، وإلا تعطل بل وهكذا يتعطل بكل تأكيد. لأن القياس على هذا النحو لا يأخذ بعين الاعتبار عدة عوامل ومن بينها وأهمها السياق التاريخي والتطورات المتسارعة المفروضة علينا، سواء تكنولوجيا أو علميا أو اجتماعيا الخ...
ا*+*+*+
محمد العرجوني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى