د. علي زين العابدين الحسيني - مناقب الشافعي ومكانته

هو نادرة الأمة وفرد الزمان وعميد الفقهاء وأحد عباقرة الإسلام وقبة تاج الفقه وفارس ميدان الأصول وصاحب "الرسالة" ورابطة العقد بين فقهاء عصره وساحر الألفاظ والمعاني ورائد الحجج والفقيه الذي قعد القواعد وأحد المطوفين في الأرض وشيخ طائفة "أهل الحديث" وأفصح العرب في عصره وأسلمهم نطقاً وأبلغهم بياناً!
يعظم الإمام الشافعي في قلب المصريين حتى لتكاد عراه تنفصم من جلاله، وتتصدع لذكره، وتضطرب خفقاناً من مهابته، فهو أحد أقطاب المذاهب الأربعة المجمع على تعظيمها والأخذ بها، المجتهد الأعظم، والحبر المكرم، إمام الأنام ونظام الإسلام، أفضل العلماء وأعلم الفضلاء، صدر البدور وبدر الصدور، هادي الدعاة وداعي الهداة، وتفصح لنا شهادات علماء عصره أننا أمام شخصية فريدة في مختلف الفنون والاتجاهات، فقد توافرت له كل وسائل النبوغ مبكراً، كما توافرت له كل وسائل الإمامة في الدين، وشهرة الشافعي كإمام من أئمة الدين الإسلامي ملء الأسماع والبقاع، عرف بالشجاعة، والفصاحة، والفروسية، وعلو الهمة، وحسن الاستنباط، وسرعة الجواب، والبراعة، والعبقرية، وسيلان الذهن، والعلم والتدريس، وصراحته في الكلام، وصلابته في الحق.
لقد آتى الله الشافعي حظاً من المواهب المتعددة التي أهلته ليكون في الذروة الأولى من رجال وعلماء الأمة، وقد بلغ من إكبار الأئمة لشخصه الشيء الكثير، فخلدت لنا كتب التراجم قولة الإمام أحمد بن حنبل حين سأله ابنه عبد الله عن كثرة حديثه عن الشافعي والدعاء له، فأجابه بقوله: " كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من عوض أو خلف؟".
وقوله عنه: "لولا الشافعي ما تعلمنا فقه الحديث"، وفي مقولة أخرى له قال: "كان الفقه مغلقاً على أهله حتى فتحه الله بالشافعي"، وقال أيضاً: "ما علمت أحداً أعظم منة على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي"، وقال: "ما رأيت أحداً أفقه في كتاب الله تعالى من هذا القرشي".
وتذكر لنا كتب التراجم نظرة أعدائه له، وكيف أن عقلية الإمام الشافعي قد بهرت كل من حوله حتى خصومه، ومن ذلك قولة خصمه "بشر المريسي" رأس المعتزلة في زمانه عنه: "هو رجل معه نصف عقل أهل الدُنيا".
الإمام الشافعيّ: هو من أولئك الأعلام الذين تُرَدِّد الأمة أسماءهم مقرونة بالإعجاب والإكبار والإجلال، وينفرد الشافعيّ القرشيّ عن غيره بجليل الصفات وعظيم المواهب وكثرة المناقب، فإذا ذكر أهل اللغة اللسان العربيّ ذكروا فصاحة الشافعيّ وبيانه، وإذا ذكر العلماء العلم والفقه في الدين ذكروا فقه الشافعي ودينه، وإذا ذكروا قوة الإدراك والنظر ذكروا عقل الشافعي وعمق تفكيره، وإذا ذكروا الورع والزهد ذكروا تقوى الشافعي وتدينه، وإذا ذكروا قوة الحجة ذكروا أدلة الشافعي وبراهينه، وإذا ذكروا حركة العلوم وتأسيسها ذكروا رسالة الشافعي وعلم أصول الفقه، وإذا ذكروا الإنصاف المطلق غير مشوب بشائبة ذكروا عدل الشافعي مع مخالفيه.
وأحسب أنّ هذا الإمام الطاهر النقيّ قد كتب عدة صفحات لامعة في التاريخ المعرفي والحضاري للأمة، لعل أهمها أن بعض العلوم كعلم أصول الفقه تؤرخ بجهوده وكتبه، ومنها قدرته الفائقة في استيعابه لمذاهب أهل عصره ودراستها دراسة وافية مما ساعده على قوة الإدراك وحسن الحوار، فأحاط بالمعارف المتعددة في مختلف الميادين، والتهم كل ما كان في عصره من آثار، أعانه على ذلك ذاكرة قوية وحافظة واعية وذكاء مفرط، وهو أيضاً معدود من العلماء الذين يحتج بلغتهم من أهل الفصاحة والبيان من قبل علماء اللغة، وقد كان رجلًا -كما نقل تلاميذه- لسانه أكبر من كتبه، فعن الربيع بن سليمان: "كان الشافعي -والله- لسانه أكبر من كتبه، لو رأيتموه لقلتم إن هذه ليست كتبه"، وسمع الحافظ أبو نعيم بن عدي الربيع مراراً يقول: "لو رأيت الشافعي وحسن بيانه وفصاحته لعجبت، ولو أنه ألف هذه الكتب على عربيته التي كان يتكلم بها معنا في المناظرة لم نقدر على قراءة كتبه لفصاحته وغرائب ألفاظه غير أنه كان في تأليفه يوضح للعوام".
استشهد السيوطيّ في كتابه "همع الهوامع" ج٣، ص٢١٨ بكلام إمامنا الشافعي رضي الله عنه في مسألة استعمال (ليس) حرف عطف، وهي مسألة خلافية بين النحاة.
قال: "وبه نطق الشافعي فإنه قال في (الأم) في أثناء مسألة (لأنّ الطهارة على الظاهر ليس على الأجواف) أي لا".
واحتجّ الفيوميّ في كتابه (المصباح المنير) ص 470 بقول الشافعي: "افترق المتبايعان" راداً به على ابن الأعرابي الذي جعل افترق المخفف في المعاني، وتفرق المشدد في الأعيان، حيث قال: "قال ابن الأعرابي فرقت بين الكلامين فافترقا مخفف وفرقت بين العبدين فتفرقا مثقل فجعل المخفف في المعاني والمثقل في الأعيان والذي حكاه غيره أنهما بمعنى والتثقيل مبالغة، قال الشافعي إذا عقد المتبايعان فافترقا عن تراض لم يكن لأحدهما رد إلا بعيب أو شرط فاستعمل الافتراق في الأبدان وهو مخفف".
ولقد أشار أستاذ أساتذتنا العلامة سعيد بن محمد الأفغاني إلى هذا المعنى في كتابه "في أصول النحو" ص٧٥ حين قال: "لقد أخطؤوا حين تهاونوا بكتب الإمام الشافعي ومن في طبقته من الفصحاء الذين نشؤوا في بيئة سليمة ولم يتطرق الفساد إلى لغتهم، وهذه إضاعة أسف لها حتى علماء المشرقيات من الأجانب والحق كل الحق معهم".
ونقل الأستاذ سعيد الأفغاني عن المستشرق الألماني جوتهلف برجستراسر قوله في كتابه (التطور النحوي) حيث ذهب وغيره من المستشرقين إلى أن: "بتدوين مثل الشافعي علوم الشريعة إغناءً للغة العربية بوسائل التأدية أكثر مما أغناها به كثير من الشعراء، وهذه الناحية -مع الأسف- أهملها علماء المشرق إهمالًا تاماً واشتغلوا بشواهد لشعراء مجهولين، فكان هذا الاشتغال عبثاً إذا قيس بذلك الإهمال".
ولأجل ذلك كان كتاب "الأم" للإمام الشافعي مادة تراثية ينهل منه الأدباء ينابيع اللغة، وعمق المعاني، وترقية الذوق بنموذج رفيع، وكنتُ أتعجب من صنيعهم، كيف لكِتاب فقهيّ يتخذه المتأدبون مادة أدبية يرقون بواسطته في مستواهم الأدبي؟!
شرعتُ بنفسي في قراءته لأستكشف الأمر، شعرتُ أنّي أقرأ مسائلَ فقهيةً بلغةٍ إبداعيةٍ، وألفاظٍ شموليةٍ، ليس معنى ذلك أنّ قلم الأديب قد جارَ على حقيقة الفقيه، وإنّما ارتفعَ الفقيهُ بأسلوبه الفقهيّ ارتفاعاً بلغَ قمةَ الإبداع، وذروة اختيار الألفاظ، وسموّ إدراك المعاني، وروعة تنوع الأساليب، لتتجلى تلك الحقيقة الغائبة في كون كتب الفقهاء المتقدمين مادة غنية للفقيه والأديب على حدّ سواء، كلٌّ ينهل منها ما يروقه.
لقد استطعتُ مِن خلال كتاب "الأم" أن أملأ فراغاً في رأسي لم يكتمل إلا به، وأهذب طبعاً طالما أرقني، وفي إدمان النظر في أمثاله لذةٌ من غير تعنت، وأسلوبٌ من غير تكلف، وإدراكٌ من غير تحديد.
ولا يمكن أن يذكر الإمام الشافعي دون أن تذكر معه "الرسالة الشافعية" فهي من الكتب العظيمة عند المسلمين، وقد رسمت صورة واضحة لعقلية الشافعي النادرة في فهم نصوص الشريعة وأسرار الفهم والإدراك، وبنظرة سريعة من قارئها يدرك المرء عظمة هذا الرجل، فأقلّ ما يستفيده قارئ كتاب "الرسالة" له: تأصيلُ الأصول، وتقعيدُ القواعد، وصحةُ النظر، وقوةُ الحجة، وبلاغةُ القول، وعمقُ التفكير، وفصاحةُ النثر، ومنهجيةُ النقد، وجمعُ المتعارض، ودقةُ الاستنباط، ونصاعةُ البيان، وسلاسةُ الرأي، ورقةُ الحوار، وجلالةُ اللغة، وهيبةُ المعرفة، وعلوُ البصيرة، ونصرةُ السنة، وفقهُ الحديث، وتعلمُ الجدل، واستكشافُ الطريق، وزهدُ القوم.
ولحبي للإمام الشافعي وانتسابي إلى مذهبه كنت أحفظ -وأنا طالبٌ في المعهد الأزهري- كثيراً من الأقوال التي قالها العلماء في بيان منزلته، وقد نسيت أكثرها الآن، لكن مما لا يزال عالقاً بذاكرتي مع بعض الخواطر والنقولات التي وقفت عليها مؤخراً مكتوبة بخط يدي في "كشكول الفوائد" منذ سنوات: كان رحمه الله مكثراً من الحديث ولم يكثر من الشيوخ كعادة أهله؛ لإقباله على الاشتغال بالفقه، ومعظم أحاديث الأحكام حاصلة عنده لا يشذ منها إلا النادر، متمسكاً بالأحاديث الصحيحة معرضاً عن الأخبار الواهية والضعيفة، ولا يعلم أحد من الفقهاء اعتنى في الاحتجاج بالتمييز بين الصحيح والضعيف كاعتنائه ولا قريباً منه، بارعاً في فهم نصوص السنة وما ترمي إليه، عارفاً بغريب الحديث وغريب الكلام، مطلعاً على ما خفي من المعاني، مستنبطاً الحكم مما دق من دلالة السنة، من أبصر الناس في إدراك دلالات النصوص، ولم يعرف في عصره من له قدرة الشافعي على المناظرة وإفحام الخصم، متميزاً بحدة ذكائه وسرعة خاطره وتوثب الحجج إلى ذهنه ولمح الوهن في أدلة خصمه وبيانه الذي لا يجارى فيه، وثروته اللفظية والتعبيرية الهائلة مع قوة جنانه وثباته عند اصطراع العقول ورمق العيون للعيون، من أنبغ أدباء العربية وكتابها وشعرائها، وكان أهل العربية يحضرون مجلسه، وقد اتفق الجميع أنه عربي فقيه وقوله حجة يعتد، واللغة من مثله أولى لعلمه وفقهه وفصاحته، وهو من القوم الذين تغلب لغاتهم على سائر اللغات، وكان أكابر علماء اللغة يرحلون إليه لمعرفة لسان العرب، ومنهم الأصمعي؛ حيث قرأ عليه أشعار الهذليين مع جلالة قدره وعلو كعبه في اللغة، عالماً بأيام الناس، عارفاً بأنسابهم، على معرفة تامة بالطب، وكان يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب.
ولإمامنا – رضي الله عنه – من أنواع المحاسن المحل الأعلى والمقام الأسنى، لما جمع الله الكريم له من الخيرات ووفقه له من جميل الصفات وسهله عليه من أنواع المكرمات فمن ذلك :العنصر الباهر، واجتماعه هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم في النسب، واجتماع أربع جدود من أجداده في النسب، وبشارة المصطفى صلى الله عليه وسلم به، وقرشيته وذلك غاية الشرف ونهاية الحسب، والمولد والمنشأ حيث ولد بالأرض المقدسة ونشأ بمكة خير البقاع، وكمال قوته، وعلو همته، وبراعته في جميع أنواع الفنون، واضطلاعه منها أشد اضطلاع، وبروزه في الاستنباط من الكتاب والسنة، وبراعته في معرفة الناسخ والمنسوخ والمجمل والمبين والخاص والعام وغيرها من تقاسيم الأبواب، وأنه أول من صنف أصول الفقه بلا خلاف ولا ارتياب، وأنه إمام حجة في لغة العرب، وقد اشتغل فيها عشرين سنة مع بلاغته وفصاحته، وأنه عربي اللسان والدار والعنصر، وتمكنه في العلوم حتى عجز لديه المناظرون من أهل الطوائف من أصحاب الفنون، وتصدره في عصر الأئمة المبرزين للإفتاء والتدريس والتصنيف، وأنه أُخِذ عنه العلم في سن الحداثة مع توفر العلم في ذلك العصر، وشدة اجتهاده في نصرة الحديث واتباع السنة، وجمعه في مذهبه بين أطراف الأدلة مع الإتقان والتحقيق والغوص التام في المعاني والتدقيق حتى لقب حين قدم العراق بناصر الحديث، وغلب في عرف العلماء المتقدمين والفقهاء الخراسيين على متبعي مذهبه لقب أصحاب الحديث في القديم والحديث، ووصيته بالعمل بالحديث الصحيح، وترك قوله المخالف للنص الثابت الصريح، وتمسكه بالأحاديث الصحيحة، وإعراضه عن الأخبار الواهية والضعيفة، وأخذه بالاحتياط في مسائل العبادات، وسلوك طرائق الورع، والسخاء والزهادة ومتانة الدين وغير ذلك كثير.
أليس من حق الشافعي كإمام من الأئمة تردد الألسن اسمه من قديم الزمان ويتعبد غالب أهل مصر بمذهبه وتستظهر القلوب مناقبه الكثيرة أن نتحرى الدقة في ترجمته وندرس شخصيته دراسة وافية قبل الإقدام على أيّ عمل يتعلق بشخصه الكريم؟!
الحق خير ما يرجوه المنصفون، والله خير حافظاً من الزلل، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير.



د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري
جريدة الأمة العربية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى