في “باندونج ” كانت طلقات المدافع المكتومة تتردد أصداؤها ، عبر الجبال في الليل حظر التجول قد بدأ ، انقطعت الرجل من الشوارع المحيطة بالفندق ، صوت سيارات الجيش وحده يعلو ثم ينخفض ثم ينقطع فجأة عند مفترق الطريقالنازل إلي الهوة المعتمة .
قالوا لنا إن الميلشيات الشيوعية تحشد صفوفها وتتخذ مواقعها الحصينة في الجبال والهضاب حولنا ، قالوا إن عصابات المأجورين من فلول عملاً الاستعمار الهولندي تلوذ بأوكارها في الوديان التي تتكاثف فيها غابات أشجار المطاط والجوز الهندي .
كان فريق بنات السكرتارية عديلة وآرليت وجانين وماجدة وجوزيت قد خرجن لجولة حول البلد ، قبل الجلسة الافتتاحية للمجلس الثالث للتضامن الأفريقي الآسيوي أعطيتهن إذناً بالتغيب ساعتين بالضبط علي أن يعدن قبل السادسة مساءً ، أعدت لهن اللجنة المصيفة سيارة ميكروباص قوية يقودها جندي مسلح خرج معهن شوقي التايبست الناحل القصير وقد فرغ من شرب الزجاجة الكبيرة التي اشتراها في المطار ، كلمة ونزل معهن يبحث عن تموين جديد ، كان أصلع جاحظ العينين قليلاً ، لكنه قوي مكين لا يلعب الشرب يرأسه مهما أسرف ، وقادر علي السهر يكتب علي الآلة الإنجليزية والعربية سواء ، يطبع علي ماكينة الاستنسل التي أحضرناها معنا من القاهرة – لم تكن آلات التصوير الزيروكس قد ظهرت بعد يعمل بلا كلل ولا نوم تقريباً دون أن يخرم حرفاً أو تفوته وثيقة .
خرج مع البنات أيضاً محمد رفيق درب اللسان دمث الوجه فارغ القوام ، ومنير صبحي الذي كانت العلاقة بينه وبين البنات ملتبسة ، يرتحن إليه علي نحو ما، يشعرن معه بألفة وقربي وبنوع من الغرابة في الوقت نفسه .
لكن الميركوباص لم يرجع إلي الفندق بعد ، حل ميعاد حظر التجول ، أخذ الوقت يمر بطيئاً مشحوناً بالقلق .
اتصلت بالهاتف ، الذي كان يتقطع وتعاوده الحياة ويشخشخ ويصفر ، بأرقام مسئولي الاتصال الغندونيسيين لغتهم الإنجليزية محدودة ، قولون لي بلهجة آسيوية مميزة أوكي سيجاراً لا تقلق يا سيدي أوكي فتزداد هواجسي ويتفاقم توجسي لحظة بعد لحظة .
الصمت الموحش خارج الفندق في الشوارع النائمة الآن ، وعبر الوهاد والوديان والقمم المخضرة بالشجر الأثيث سوداً ، مظلمة تخايلني بغموض من نافذة البهو الخاوي المنير بإضاءة خافتة ، مهددة ومنذرة ، لايقطعه إلاقصف المدافع البعيدة ودقدقات الرشاشات الحادة السريعة تتجاوب أصداؤها من قمة إلى قمة معتمة . ولم تصل سارة الميكروياص بعد . كنا قد غادرنا جاكرتا في الصباح الباكر ، قافلة عسكرية من السيارات تسبقها موتوسيكلات الحراسة وتقفوها سيارة جيب مصفحة ومدججة بالمدافع الرشاشة ، بعد ليلة تدفقت فيها سيول المطر علينا بمجرد أن دخلنا فندق ترانساييرا ، في ميدان ميرديكا تيمور .
رحب بنا الرجل الطيب شعبان سراج الدين عباس ، ومعاونوه من اللجنة الإندونيسية كان لا يعرف من العربية إلا الفاتحة ورسم اسمه بالخط النسخ الجميل ، ويصغر بالمودة ، يقول – بالإنجليزية – إننا كنا إخواناً في محنة الاستعمار وقد خلصنا من نيره فتوثقت بيننا أواصر الزمالة ، وإننا إخوة في الإسلام ، كان واثقاً أن ك لعربي هو ومسلم بالضرورة ، ولم أشأ أن أبصره بغير ذلك .
كان وجهه أسمر داكناً عريضاً لكنه صابح طلق ، عظامه قوية ناتنة عند الوجنتين ، وجسمه راسخ متين الأسر .
سبقنا إلي منصة الاستقبال في الفندق ، قال للموظف كلمتين وإذا بمفاتيح الغرف في أيدينا علي الفور .
ومع حُسن إسلامه وسماحة روحه فقد اختفي اسمه من سجلات التضامن ولم نعد نراه بعد رحيل سوكارنو ، وبعد المذابح الجماعية التي راح ضحيتها حشود حاشدة من آلاف الشيوعيين واليساريين والوطنيين علي السواء .
لم أكد أنام بعد أن دخلنا غرفنا في الفندق ليلتها ، قطرات المطر المتصلة الثقيلة تسقط بلا انقطاع علي الجدران تدق بطرقان جوفاء مبتلة علي الستائر المعمولة من الحصير ، التي تحمي الشرفات تقعقع بين الحين والحين بفرقعات قصيرة مدوية إذ تهب الريح فجأة فيمتلئ الحصير بالهواء ، كشراع المراكب ، ثم يندفع خارجاً منه كطلقات الرصاص .
في الصباح الأستوائي الباكر كان السكون قد هبط علي المدينة ورائحة الشجر الغض المبلول عطرة ، والسماء زرقاء ليس فيها سحابة واحدة .
استيقظت بعد نوم مضطرب كانت غلطتي تفصلها عن غرفة منير صبحي فسحة من الأسمنت بها الحمام دوش عال ثابت تحته ما يشبه جدار بئر مستديرة تدخل إليها من فتحة طولية وتقف فيها تحت الماء المنهمر الذي ينسرب من ثقوب في اسفل الجدار الدائري المرتفع حتي الخاصرة تقريباً وينسال علي سطح الأسمنت اللزج إلي مزاريب ينصب منها إلي الشارع .
بعد ذلك بنحو تسع أو عشر سنوات عقدنا في الكويت مؤتمراً حافلاً لنصرة شعب فلسطين ما أكثر المؤتمرات والندوات وحلقات البحث والمظاهرات التي قامت لنصرة هذا الشعب الذي لم ينتصر حتي الآن فهل له انتصار ؟
كان رئيس وفد طلبة فلسطين عندئذ شاباً وسيماً نحيلاً طويلاً إلي حد ما غزير الشعر ممتلئاً بالحيوية ذلق اللسان متدفق الحماسة ، كان له اسم غريب علي السمع حينذاك جميل شمير أصبح فيما بعد وزيراً مرموقاً فيما سُمي بالسلطة الفلسطينية ، أصلع كرشاً ما زال ذلق اللسان .
المهم – أو غير المهم علي الإطلاق – أن منير صبحي اشتغل معنا في هذا المؤتمر في الكابينة الإنجليزي طبعاً ، مترجماً فورياً ، أدي ما كان مطلوباً منه بكفاءة ونجاح ثم اختفي آخر أيام المؤتمر .
كانت مدينة الكويت أيامها أشبه بحي من أحياء بيروت قبل الحرب الأهلية توحي أيضاً بشارع سوق غزة قبل حرب 1967 ، بيوت منخفضة ومتواضعة إلي حد ما ، دكاكين صغيرة فيها كل بضاعة الغرب والشرق ، كنا في مصر “محرومين” من ترف هذه النفايات الشامبو سان سيلك للشعر ، التوينز ، قمصان النايلون ، الراديوهات والمسجلات وزبالات السلع الأخري التي أغرقت فيها أسطورة بورسعيد القديمة ، أيام السادات ، ثم أغرقت فيها البلد كلها أيام الانفتاح والخصخصة .
لم يكن في الكويت إلا فندق واحد فخم ، أما نحن فقد نزلنا في خندق صغير من طابقين لعله كان مجرد بيت صغير ، يشتغل فيه لبنانيون وفلسطينيون تفطر باللبنة ونتغذي كبيبة وتبولة .
بعد اجتماعنا في باندونج باثنين وعشرين عاماً كتب حلمي جورجي ماجستير في الصحافة إلي بريد الإهرام الشهير ، تحت عنوان ” يا عسل يا سكر ” وقفنا في ميدان الألف مسكن كل ينادي في لهفة وتوسل علي التاكسي صاح الأول : ” العباسية يا هندسة ” وصرخ الثاني عباسية ياجنتلة ! ” ونادي الثالث : ” عباسية يا عسل ” .. ولكن توسلاتنا ضاعت هباء فلم تحرك ساكناً في ” الهندسة ” أو ” الجنتلة ” وفجأة نسمع صوتاً ناعماً رقيقاً يصبح : ” العباسية يا سكر ! ” وإذا بالسكر يذوب وإذا بصوت فرملة التاكسي تعوي لتصم آذاننا فانطلقنا مهرولين نحوه ، وبعد أن تأكد السيد السائق أن كلا منهم ليس في صحبة الآخر تعطف مشكوراً وسمح لنا بالركوب والجلوس في المقعد الخلفي ، وجلست الآنسة – وهي صاحبة الفضل – بجواره في تأفف ظاهر ، فقد كان يرتدي جلباباً متسخاً ، وعلي رأسه طاقية تغطي من شعره الأشعت ، عند وصولنا ناوله الراكب الأول ورقة من فئة الخمسين قرش ( كان ذلك في عام 1983 ) وهنا تجهم وجه السائق وكشر عن أنيابه منذراً بالشر قائلاً : ” كان ربع ” ودفع الجميع صاغرين المطلوب أي أن التوصيلة تكلفت 3 جنيهات وهي بحساب المرحوم ” عداد التاكسي ” لا تزود عن خمسين قرشاً ( تري كم تتكلف الآن في العام 1998 ؟ ) وعندما انطلق التاكسي بعد أن شحن بأربعة آخرين وقعت عيناي علي الشعار المألوف الذي تعارف عليه سائقو التاكسي : ” يا ناس يا شر كفاية أر ” .
الأمازونة الفتية عارية الصدر علقت جعبة السهام علي جانبها الأيسر ، جلد الجعبة العريضة قد حفر علي كتفها اليسري التي لوحتها الشمس ندبة سوداء في جلدها الناهم وهبط مشدوداً إلي النهد الأيمن ضغطه منذ يفاعتها فلم يزدهر ولم يتدور بل ذيل تحت وطأة الجعبة المثقلة بالسهام الحديدية اللامعة طويلة مسننة الشباة ، قدماها علي العشب الأخضر الكثيف المفوف وفي يدها سكينها الحاد تلمع شفرته في الشمس عليها دم غضير طري يسيل بلزوجة وتسقط قطراته القانية علي ردفها المكشوف انشق عنها إزار الجلد الحيواني الذي يطوق خصرها .
” عقب نشر خبر القبض عليها ، كشفت الإدارة العامة لمباحث تنفيذ الأحكام بوزارة الداخلية عن أحكام جديدة صادرة ضد سيدة الأعمال ف . ن حيث ارتفعت الأحكام إلي مائة وثلاثين حكماً بلغت العقوبة فيها حوالي خمسمائة سنة حبس كان عدد من التجار بمنطقة الأزهر وعدد من المحامين قد تقدموا إلي مدير إدارة المعلومات بأحكام صدرت لصالحهم ضد سيدة الأعمال بشأن شيكات اصدرتها عن أقمشة اشترتها قيمتها 9 ملايين جنيه . وما زال عدد هائل من القضايا المرفوعة ضدها متداولاً أمام المحاكم ” .
هل هذا منير صبحي يأتي إلي الأمازونة سيدة الأعمال سيدة الضحايا ، وهو علي حصان أحمر اللون عارياً بلا سراج يمسك فقط بالعنان الطويل الذي يشكم جواده ، يده الأخري علي ظهر الحصان كأنما تهدهد من جماحه ، الحصان صافن رافعحافره عن أرضية العشب التي صوحتها شمس شهوات اشتعلت سماؤها ، شامخ الرأس بإزاء غيوم مدلهمة في أفق غير مرئي كفله مكين الأيد ، عريض شديد الأزر عليه الجسم نصف الصبياني نصف النسوي ، صدره المنبسط الأمسح تند عنه النبقتان السوداوان الصغيرتان صلعته الخفيفة يغطيها شعره الهفهاف المفروق ساقاه تضمان جسم الجواد الضخم بلا كبير جدوي ، فالحيوان النبيل هو الذي يحكم من يمتطي متنه يشق به عنان سحابة حمراء مستطيلة متوهجة لا يخمد لها أوار .
الأمازونة ترفع يدها بقلب الفهد الساقط تحت ساقيها انتزعته من عمق صدره تقضم منه مزعة حارة بأسنانها القوية تمضغ اللحم الدامي بعناد يبدو عادياً مألوفاً فمها المشدوق تنحدر منه الدماء النزرة ، شفتاها مضرجتان مصبوغتان بالروج الوحشي ، وقد تلطخت ثنوتها فوق الشفتين وحنكها ومعظم ذقنها البارزة باللون القاني الذي يسيل قليلاً ينحسر عن إهاب الوجه الناعم مكحول العينين صدر الفهد تحت فخذها تند عنه أضلاع مكسورة وعضلات ممزقة متدلية وجذاذات مشعشة الحيوان الطعين يبدو الآن صغيراً هامداً لاخطر منه عيناه مفتوحتان علي أخواه الموت الوخي المخوف لم تكد تمر عليه لحظة وجيزة ما الفرق بينها وبين خمسمائة عام أو دهور الأبد التي لا نهاية لها .
في الطريق إلي باندونج وعلي قمة ربوة مرتفعة منعشة بين الغابات المبهمة الحارة التي تكسو حنايا الجبل ومكاسره ، تغدينا في مشرب صغير كوخ من الخشب ليس فيه إلا مائدتان أو ثلاث ويضع مقاعد من خوص نخيل جوز الهند المجدول أخذنا شطائر جبن وجامبون كان الفندق قد أعدها لنا في صناديق من الورق المقوي وشربنا كوكاكولا ، نحن وعساكر الحرس وكان الهواء نقياً يملأ الصدر بآمال غامضة خفيفة الوقع وإدانة غامضة لمظالم تبدو الآن بعيدة وإن ظلت مهمة والأفق علي الربوة الصغيرة فسيح منير يمتد بما لا يبدو له نهاية .
هل أطبقت الغيوم السوداء علي الأفق أم تظل الشمس وراءه ساطعة ومتربصة ؟
بعد أن وصلنا علي آخر المساء إلي فندق باندونج الصغير نزلنا إلي شوارع المدينة المضاءة بمصابيح الغاز التي تفح علي عواميدها العالية وعلي الجنابين دكاكين صغيرة صغيرة تعلق علي واجهاتها قمصان الباتيك الملونة إذ تكتسب ألوانها لمعة غير مألوفة في نور الغاز الأبيض الساطع وتتكدس أمامها وفي أحشائها المعتمة قليلاً بقية نفايات العالم الصناعي المألوفة من اليابان والصين وهولنده – لم تكن تايوان ولا سنغافورة ولا تايلاند قد أصبحت نموراً بعد – الساعات الزهيدة وأجهزة الراديو الصغيرة والكاميرات المعدنية هشة الشكل والقان والبلوزات والبنطلونات لامعة النسيج والمسدسات والطيارات البلاستيك والدبابات للصغار – في باندونج يبعلون بالحرب ! – وسائر زبالة صناعات عواصم المتروبول الآسيوية والغربية المغوية الجاثمة علي الصدور ، أمام الدكاكين جلسا بائعات الموز المقلي في زيت النخيل ، رائحته الزهمة الثقيلة تفعم أرواحنا بما يشبه كآبة مكتومة البائعات علي الأرض ، تبدو عليهن شيخوخة مجعدة الجلد ، أفواههن فارغة منقبضة الشفاة إذا يمضغن ذلك النبات – أو بذوره – فإذا صبغة حمراء قانية علي الشفاه واللثة وإذا الأسنان متآكلة وخوخها التلمظ باللذة والخدر .
في جواهاتي بالهند القريبة أعلنت الشرطة يوم 22 يونيو 1997 “إلقاء القبض علي مواطنين هنديين في إحدي القري بأقصي شرق الهند لإقدامهما علي قتل أحد جيرانهما والتهام قلبه في العلن ، قال الرجلان سيفاً كرومي ويادمسوار كرومي انهما قتلا جارهما لأنه هو حاول قتلهما في عملية سحر وشعوذة فتحا صدره وانتزعا منه القلب قطعاه إلي شطرين وأكلاه أمام بعض القرويين ، قالا إنه كان طيب المذاق شهياً ” .
في شارع براجا دخلت الدكان الصغير المضئ بكلوب فاحش النور يفح علي الحقائب الجلدية الصغيرة والصنادل والإشاربات والقمصان الباتيك وسائر المنتجات السياحية المعتادة ، خرجت لم اشتر شيئاً كان بدل السفر المقرر لي عندئذ سبعة جنيهات إسترلينية عن أيام العمل الفعلية ونصفها عن ايام السفر ، تقاضيتها من بنك القاهرة في شارع قصر النيل بعد إجراءات ووثائق لانهاية لها . وماله .. كان فيها البركة .. وعل يناصبة معتمة قليلاً فرش الفنان ” الشعبي ” المعتاد الذي لا اسم له ، بضاعته علي الأرض مباشرة ، التماثيل الخشبية والأقنعة السوداء من الأبنوس والعصي بمقابضها العاجية والتمائم والقلائد والخواتم من الديوريت الأخضر تصورت – وكنت محقاً – أن صنعته هي التماثيل الخشبية وحدها ، أفرد لها جانباً من فرشته ولما سألته بالإنجليزية وبالإشارة أنغض رأسه مؤكداً ،كان قد استوقفني وجهه الناحل الطويل علي غير لمألوف في آسيا بصفرته داكنة السمرة ، وشبابه الجاف وشئ يشبه الكرامة والعزة الأولية إذ يقعي علي رجليه صامتاً وساهما كأنه لا يبالي لا ينادي ولا يشير ولا يكاد لا يلتفت إلي أحد .. واستوقفني ذلك التمثال الخشبي لامرأة طويلة بل فارعة ، مشدودة الجسم ،ممشوقة ورشيقة الجوارح المرهفة المرققة ، كانه من عمل جياكو ميتي إندونيسي متميز ، ساقاها منضمتان مدورتان ولكن مسحوبتان في كتلة مسطحة صاعدة في فراغ هي توجده لنفسها ، وثدياها الصغيران عاريان فيهما وداعة وتحد في آن الخشب فاتح اللون خام لم يكد يصقله الفنان بنعومة رهيفة حيية خجول ، توحي بجسدانية مصفاة ولكن كامنة ومتوترة نازعة إلي فوق .
ما زلت أحتفظ وأعتز كثيراً بهذا الشمال الروح من باندونج دفعت لصاحبة ما طلب علي الفور دون مساومة علي غير المعتاد في أسواق وشوارع آسيا وإفريقيا وبلاد العرب .
أخيراً وصل الميكروباص الذي كان يقل فريق السكرتارية كانت البنات قد انحسر عنهن الخوف من استثارة المغامرة أو وطأة المحنة .
عرفت من حكاياتهن المضطربة المتداخلة يسردنها بلهفة وعيون تبرق بالانفعال أن السيارة أوشكت أن تقع في كمين مناوئ للحكومة لم يعرف أحد هوية المقاتلين فيه علي أي حال ، انطلق سيل من الرصاص فجأة من الاحراش علي جانب الطريق ، زاغ السائق بسرعة ومهارة واضح ا،ه كان جندياً مدرباً حاضراً البديهة ومرق بين الأشجار في فسحة معشوشية واستدار راجعاً شق لنفسه طريقاً ملتوياً علي مدقات غير ممهدة ، وعاد بسلام وفي طريق عودته غير المأمونة التقي بدورية حكومية خرجت بعد ميعاد حظر التجول تبحث عنه وعاد في حراستها ، كانت كلمة السر أمام النقاط العسكرية الحكومية في الطريق إفريقيا آسيا .
سعدت البنات جداً بكلمة السر بينما كان شوقي ينظر إليهن باستغراب قليل وهن مهتاجات بالحكي واستعادة لحظات الخطر ، كأنهن كائنات من كوكب خر وواضح أن خمسينية الكونياك التي لمحتها في جيب بنطلونه الخلفي قد أتت فعلها اشتراها من السوق بلا شك قبل ميعاد الإغلاق أما منير صبحي فقد كان يتخطر بينهن علي سجادة ببهو الفندق بخطي قصيرة رشيقة متوثبة ، وهو مضرج الوجه قليلاً من الانفعال لم تكن حكايته وفيها كلمات إنجليزية مختارة بعناية تختلف عن حكايتهن وإن كانت لهجته اقوي وأخشن ذكرتني بصوت نسوي له غوايته الخاصة مثل صوت جوان كراوفورد أو مارلين ديتريتش .
عندما دخلنا الديسكوتيك كانت الفتيات يرتدين المايوه البكيني من القماش السميك اللامع مخططاً علي غرار جلد الفهد ، الأضواء المتناوية مع لحظات إظلام ترتطم فيها صدمات الموسيقي بعضها ببعض تسقط علي بطون مسحوبة مستوية ليست فيها استدارة أنثوية صفرة الجلد الخفيفة ، تحت سطوع الضوء ، تعطي الجسم ملمساً يكاد يكون غير إنساني كأنه جلد جذع زهرة قائمة تهتز بخفة علي إيقاع متراوح ذيل الفهد الملتوي إلي أعلي مصنوعاً من المطاط المقوي بلا شك مغلفاً بجلد الفهد المخطط ، ومعلقاً بمشابك فضية صغيرة .
وبينما جلست عديلة وآرليت إلي الموائد المعدنية المشغولة وطلبتا كوكاكولا : لم تلبث جانين وجوزيت أن قامتا للرقص وتقدم منير صبحي إلي البيست ورقص وحده مع فتيات العرض الفهديات اللاتي أسدلن علي نصف الوجه العلوي قناعاً شبيكة اسود تتخايل تحت عيون مكحولة تطل علي ساحات خاوية من الملل ، الوجوه الآسيوية الصغيرة المنمنمة تحت البيشة المشبكة تبدو إذ يسقط عليها النور القاسي قانية للشفاة مطروحة الوجات مخططة الحواجب ثم تغيب الوجوه والقامات المتمايلة وفي وسطها منير صبحي في ستر ظلام الصخب الموسيقي المقرقع ، تكرار مشهد الصنعة مبتذل قليلاً .
قلت لنفسي : ساخراً قليلاً من نفسي :
– آكل العيش مر ماحدش بياكلها بالساهل ، بعد ذلك بستة وثلاثين عاماً قرأت في
” الأهالي ” يوم 27 يناير 1997 أن جنرالاً صهيونياً هو آرييه بيرو اعترف علي الإنترنيت بأنه قتل خمسين عاملاً مصرياً عام 1956 في ممر ” متلا ” وسط سيناء ذبح ثمانية عشر منهم كالخرفان وأنه غير نادم ، ولا يخشي اللجنة التي تم تشكيلها من الحكومة الإسرائيلية لبحث اعترافاته إذ أن قرار الأدانة من اللجنة ضده سيجعله يفتح النار علي نصف الجيش الإسرائيلي هذه اللجنة انتهت إلي أن تسعمائة مصري قتلوا بالفعل بعد اسرهم سنة 1967 في منطقة العريش علي ايدي كوماندوز شاكد فضلاً عن ست مذابح أخري في ممر متلا وخان يونس .
كتب عبدالفتاح عبدالمنعم أن محاكم مصر تشهد 26 دعوي قضائية ضد الحكومة الإسرائيلية رفعها أهالي الأسري القتلي يطالبون فيها بتعويض قدرته لجنة الدفاع بأكثر من خمسين مليون جنيه .
فماذا حدث للدعاوي القضائية الستة والعشرين وللتعويضات التي لا يمكن أن تعوض شيئاً لا يمكن أن تبرر وتغفر شيئاً ؟
ماذا حدث ؟
قالوا لنا إن الميلشيات الشيوعية تحشد صفوفها وتتخذ مواقعها الحصينة في الجبال والهضاب حولنا ، قالوا إن عصابات المأجورين من فلول عملاً الاستعمار الهولندي تلوذ بأوكارها في الوديان التي تتكاثف فيها غابات أشجار المطاط والجوز الهندي .
كان فريق بنات السكرتارية عديلة وآرليت وجانين وماجدة وجوزيت قد خرجن لجولة حول البلد ، قبل الجلسة الافتتاحية للمجلس الثالث للتضامن الأفريقي الآسيوي أعطيتهن إذناً بالتغيب ساعتين بالضبط علي أن يعدن قبل السادسة مساءً ، أعدت لهن اللجنة المصيفة سيارة ميكروباص قوية يقودها جندي مسلح خرج معهن شوقي التايبست الناحل القصير وقد فرغ من شرب الزجاجة الكبيرة التي اشتراها في المطار ، كلمة ونزل معهن يبحث عن تموين جديد ، كان أصلع جاحظ العينين قليلاً ، لكنه قوي مكين لا يلعب الشرب يرأسه مهما أسرف ، وقادر علي السهر يكتب علي الآلة الإنجليزية والعربية سواء ، يطبع علي ماكينة الاستنسل التي أحضرناها معنا من القاهرة – لم تكن آلات التصوير الزيروكس قد ظهرت بعد يعمل بلا كلل ولا نوم تقريباً دون أن يخرم حرفاً أو تفوته وثيقة .
خرج مع البنات أيضاً محمد رفيق درب اللسان دمث الوجه فارغ القوام ، ومنير صبحي الذي كانت العلاقة بينه وبين البنات ملتبسة ، يرتحن إليه علي نحو ما، يشعرن معه بألفة وقربي وبنوع من الغرابة في الوقت نفسه .
لكن الميركوباص لم يرجع إلي الفندق بعد ، حل ميعاد حظر التجول ، أخذ الوقت يمر بطيئاً مشحوناً بالقلق .
اتصلت بالهاتف ، الذي كان يتقطع وتعاوده الحياة ويشخشخ ويصفر ، بأرقام مسئولي الاتصال الغندونيسيين لغتهم الإنجليزية محدودة ، قولون لي بلهجة آسيوية مميزة أوكي سيجاراً لا تقلق يا سيدي أوكي فتزداد هواجسي ويتفاقم توجسي لحظة بعد لحظة .
الصمت الموحش خارج الفندق في الشوارع النائمة الآن ، وعبر الوهاد والوديان والقمم المخضرة بالشجر الأثيث سوداً ، مظلمة تخايلني بغموض من نافذة البهو الخاوي المنير بإضاءة خافتة ، مهددة ومنذرة ، لايقطعه إلاقصف المدافع البعيدة ودقدقات الرشاشات الحادة السريعة تتجاوب أصداؤها من قمة إلى قمة معتمة . ولم تصل سارة الميكروياص بعد . كنا قد غادرنا جاكرتا في الصباح الباكر ، قافلة عسكرية من السيارات تسبقها موتوسيكلات الحراسة وتقفوها سيارة جيب مصفحة ومدججة بالمدافع الرشاشة ، بعد ليلة تدفقت فيها سيول المطر علينا بمجرد أن دخلنا فندق ترانساييرا ، في ميدان ميرديكا تيمور .
رحب بنا الرجل الطيب شعبان سراج الدين عباس ، ومعاونوه من اللجنة الإندونيسية كان لا يعرف من العربية إلا الفاتحة ورسم اسمه بالخط النسخ الجميل ، ويصغر بالمودة ، يقول – بالإنجليزية – إننا كنا إخواناً في محنة الاستعمار وقد خلصنا من نيره فتوثقت بيننا أواصر الزمالة ، وإننا إخوة في الإسلام ، كان واثقاً أن ك لعربي هو ومسلم بالضرورة ، ولم أشأ أن أبصره بغير ذلك .
كان وجهه أسمر داكناً عريضاً لكنه صابح طلق ، عظامه قوية ناتنة عند الوجنتين ، وجسمه راسخ متين الأسر .
سبقنا إلي منصة الاستقبال في الفندق ، قال للموظف كلمتين وإذا بمفاتيح الغرف في أيدينا علي الفور .
ومع حُسن إسلامه وسماحة روحه فقد اختفي اسمه من سجلات التضامن ولم نعد نراه بعد رحيل سوكارنو ، وبعد المذابح الجماعية التي راح ضحيتها حشود حاشدة من آلاف الشيوعيين واليساريين والوطنيين علي السواء .
لم أكد أنام بعد أن دخلنا غرفنا في الفندق ليلتها ، قطرات المطر المتصلة الثقيلة تسقط بلا انقطاع علي الجدران تدق بطرقان جوفاء مبتلة علي الستائر المعمولة من الحصير ، التي تحمي الشرفات تقعقع بين الحين والحين بفرقعات قصيرة مدوية إذ تهب الريح فجأة فيمتلئ الحصير بالهواء ، كشراع المراكب ، ثم يندفع خارجاً منه كطلقات الرصاص .
في الصباح الأستوائي الباكر كان السكون قد هبط علي المدينة ورائحة الشجر الغض المبلول عطرة ، والسماء زرقاء ليس فيها سحابة واحدة .
استيقظت بعد نوم مضطرب كانت غلطتي تفصلها عن غرفة منير صبحي فسحة من الأسمنت بها الحمام دوش عال ثابت تحته ما يشبه جدار بئر مستديرة تدخل إليها من فتحة طولية وتقف فيها تحت الماء المنهمر الذي ينسرب من ثقوب في اسفل الجدار الدائري المرتفع حتي الخاصرة تقريباً وينسال علي سطح الأسمنت اللزج إلي مزاريب ينصب منها إلي الشارع .
بعد ذلك بنحو تسع أو عشر سنوات عقدنا في الكويت مؤتمراً حافلاً لنصرة شعب فلسطين ما أكثر المؤتمرات والندوات وحلقات البحث والمظاهرات التي قامت لنصرة هذا الشعب الذي لم ينتصر حتي الآن فهل له انتصار ؟
كان رئيس وفد طلبة فلسطين عندئذ شاباً وسيماً نحيلاً طويلاً إلي حد ما غزير الشعر ممتلئاً بالحيوية ذلق اللسان متدفق الحماسة ، كان له اسم غريب علي السمع حينذاك جميل شمير أصبح فيما بعد وزيراً مرموقاً فيما سُمي بالسلطة الفلسطينية ، أصلع كرشاً ما زال ذلق اللسان .
المهم – أو غير المهم علي الإطلاق – أن منير صبحي اشتغل معنا في هذا المؤتمر في الكابينة الإنجليزي طبعاً ، مترجماً فورياً ، أدي ما كان مطلوباً منه بكفاءة ونجاح ثم اختفي آخر أيام المؤتمر .
كانت مدينة الكويت أيامها أشبه بحي من أحياء بيروت قبل الحرب الأهلية توحي أيضاً بشارع سوق غزة قبل حرب 1967 ، بيوت منخفضة ومتواضعة إلي حد ما ، دكاكين صغيرة فيها كل بضاعة الغرب والشرق ، كنا في مصر “محرومين” من ترف هذه النفايات الشامبو سان سيلك للشعر ، التوينز ، قمصان النايلون ، الراديوهات والمسجلات وزبالات السلع الأخري التي أغرقت فيها أسطورة بورسعيد القديمة ، أيام السادات ، ثم أغرقت فيها البلد كلها أيام الانفتاح والخصخصة .
لم يكن في الكويت إلا فندق واحد فخم ، أما نحن فقد نزلنا في خندق صغير من طابقين لعله كان مجرد بيت صغير ، يشتغل فيه لبنانيون وفلسطينيون تفطر باللبنة ونتغذي كبيبة وتبولة .
بعد اجتماعنا في باندونج باثنين وعشرين عاماً كتب حلمي جورجي ماجستير في الصحافة إلي بريد الإهرام الشهير ، تحت عنوان ” يا عسل يا سكر ” وقفنا في ميدان الألف مسكن كل ينادي في لهفة وتوسل علي التاكسي صاح الأول : ” العباسية يا هندسة ” وصرخ الثاني عباسية ياجنتلة ! ” ونادي الثالث : ” عباسية يا عسل ” .. ولكن توسلاتنا ضاعت هباء فلم تحرك ساكناً في ” الهندسة ” أو ” الجنتلة ” وفجأة نسمع صوتاً ناعماً رقيقاً يصبح : ” العباسية يا سكر ! ” وإذا بالسكر يذوب وإذا بصوت فرملة التاكسي تعوي لتصم آذاننا فانطلقنا مهرولين نحوه ، وبعد أن تأكد السيد السائق أن كلا منهم ليس في صحبة الآخر تعطف مشكوراً وسمح لنا بالركوب والجلوس في المقعد الخلفي ، وجلست الآنسة – وهي صاحبة الفضل – بجواره في تأفف ظاهر ، فقد كان يرتدي جلباباً متسخاً ، وعلي رأسه طاقية تغطي من شعره الأشعت ، عند وصولنا ناوله الراكب الأول ورقة من فئة الخمسين قرش ( كان ذلك في عام 1983 ) وهنا تجهم وجه السائق وكشر عن أنيابه منذراً بالشر قائلاً : ” كان ربع ” ودفع الجميع صاغرين المطلوب أي أن التوصيلة تكلفت 3 جنيهات وهي بحساب المرحوم ” عداد التاكسي ” لا تزود عن خمسين قرشاً ( تري كم تتكلف الآن في العام 1998 ؟ ) وعندما انطلق التاكسي بعد أن شحن بأربعة آخرين وقعت عيناي علي الشعار المألوف الذي تعارف عليه سائقو التاكسي : ” يا ناس يا شر كفاية أر ” .
الأمازونة الفتية عارية الصدر علقت جعبة السهام علي جانبها الأيسر ، جلد الجعبة العريضة قد حفر علي كتفها اليسري التي لوحتها الشمس ندبة سوداء في جلدها الناهم وهبط مشدوداً إلي النهد الأيمن ضغطه منذ يفاعتها فلم يزدهر ولم يتدور بل ذيل تحت وطأة الجعبة المثقلة بالسهام الحديدية اللامعة طويلة مسننة الشباة ، قدماها علي العشب الأخضر الكثيف المفوف وفي يدها سكينها الحاد تلمع شفرته في الشمس عليها دم غضير طري يسيل بلزوجة وتسقط قطراته القانية علي ردفها المكشوف انشق عنها إزار الجلد الحيواني الذي يطوق خصرها .
” عقب نشر خبر القبض عليها ، كشفت الإدارة العامة لمباحث تنفيذ الأحكام بوزارة الداخلية عن أحكام جديدة صادرة ضد سيدة الأعمال ف . ن حيث ارتفعت الأحكام إلي مائة وثلاثين حكماً بلغت العقوبة فيها حوالي خمسمائة سنة حبس كان عدد من التجار بمنطقة الأزهر وعدد من المحامين قد تقدموا إلي مدير إدارة المعلومات بأحكام صدرت لصالحهم ضد سيدة الأعمال بشأن شيكات اصدرتها عن أقمشة اشترتها قيمتها 9 ملايين جنيه . وما زال عدد هائل من القضايا المرفوعة ضدها متداولاً أمام المحاكم ” .
هل هذا منير صبحي يأتي إلي الأمازونة سيدة الأعمال سيدة الضحايا ، وهو علي حصان أحمر اللون عارياً بلا سراج يمسك فقط بالعنان الطويل الذي يشكم جواده ، يده الأخري علي ظهر الحصان كأنما تهدهد من جماحه ، الحصان صافن رافعحافره عن أرضية العشب التي صوحتها شمس شهوات اشتعلت سماؤها ، شامخ الرأس بإزاء غيوم مدلهمة في أفق غير مرئي كفله مكين الأيد ، عريض شديد الأزر عليه الجسم نصف الصبياني نصف النسوي ، صدره المنبسط الأمسح تند عنه النبقتان السوداوان الصغيرتان صلعته الخفيفة يغطيها شعره الهفهاف المفروق ساقاه تضمان جسم الجواد الضخم بلا كبير جدوي ، فالحيوان النبيل هو الذي يحكم من يمتطي متنه يشق به عنان سحابة حمراء مستطيلة متوهجة لا يخمد لها أوار .
الأمازونة ترفع يدها بقلب الفهد الساقط تحت ساقيها انتزعته من عمق صدره تقضم منه مزعة حارة بأسنانها القوية تمضغ اللحم الدامي بعناد يبدو عادياً مألوفاً فمها المشدوق تنحدر منه الدماء النزرة ، شفتاها مضرجتان مصبوغتان بالروج الوحشي ، وقد تلطخت ثنوتها فوق الشفتين وحنكها ومعظم ذقنها البارزة باللون القاني الذي يسيل قليلاً ينحسر عن إهاب الوجه الناعم مكحول العينين صدر الفهد تحت فخذها تند عنه أضلاع مكسورة وعضلات ممزقة متدلية وجذاذات مشعشة الحيوان الطعين يبدو الآن صغيراً هامداً لاخطر منه عيناه مفتوحتان علي أخواه الموت الوخي المخوف لم تكد تمر عليه لحظة وجيزة ما الفرق بينها وبين خمسمائة عام أو دهور الأبد التي لا نهاية لها .
في الطريق إلي باندونج وعلي قمة ربوة مرتفعة منعشة بين الغابات المبهمة الحارة التي تكسو حنايا الجبل ومكاسره ، تغدينا في مشرب صغير كوخ من الخشب ليس فيه إلا مائدتان أو ثلاث ويضع مقاعد من خوص نخيل جوز الهند المجدول أخذنا شطائر جبن وجامبون كان الفندق قد أعدها لنا في صناديق من الورق المقوي وشربنا كوكاكولا ، نحن وعساكر الحرس وكان الهواء نقياً يملأ الصدر بآمال غامضة خفيفة الوقع وإدانة غامضة لمظالم تبدو الآن بعيدة وإن ظلت مهمة والأفق علي الربوة الصغيرة فسيح منير يمتد بما لا يبدو له نهاية .
هل أطبقت الغيوم السوداء علي الأفق أم تظل الشمس وراءه ساطعة ومتربصة ؟
بعد أن وصلنا علي آخر المساء إلي فندق باندونج الصغير نزلنا إلي شوارع المدينة المضاءة بمصابيح الغاز التي تفح علي عواميدها العالية وعلي الجنابين دكاكين صغيرة صغيرة تعلق علي واجهاتها قمصان الباتيك الملونة إذ تكتسب ألوانها لمعة غير مألوفة في نور الغاز الأبيض الساطع وتتكدس أمامها وفي أحشائها المعتمة قليلاً بقية نفايات العالم الصناعي المألوفة من اليابان والصين وهولنده – لم تكن تايوان ولا سنغافورة ولا تايلاند قد أصبحت نموراً بعد – الساعات الزهيدة وأجهزة الراديو الصغيرة والكاميرات المعدنية هشة الشكل والقان والبلوزات والبنطلونات لامعة النسيج والمسدسات والطيارات البلاستيك والدبابات للصغار – في باندونج يبعلون بالحرب ! – وسائر زبالة صناعات عواصم المتروبول الآسيوية والغربية المغوية الجاثمة علي الصدور ، أمام الدكاكين جلسا بائعات الموز المقلي في زيت النخيل ، رائحته الزهمة الثقيلة تفعم أرواحنا بما يشبه كآبة مكتومة البائعات علي الأرض ، تبدو عليهن شيخوخة مجعدة الجلد ، أفواههن فارغة منقبضة الشفاة إذا يمضغن ذلك النبات – أو بذوره – فإذا صبغة حمراء قانية علي الشفاه واللثة وإذا الأسنان متآكلة وخوخها التلمظ باللذة والخدر .
في جواهاتي بالهند القريبة أعلنت الشرطة يوم 22 يونيو 1997 “إلقاء القبض علي مواطنين هنديين في إحدي القري بأقصي شرق الهند لإقدامهما علي قتل أحد جيرانهما والتهام قلبه في العلن ، قال الرجلان سيفاً كرومي ويادمسوار كرومي انهما قتلا جارهما لأنه هو حاول قتلهما في عملية سحر وشعوذة فتحا صدره وانتزعا منه القلب قطعاه إلي شطرين وأكلاه أمام بعض القرويين ، قالا إنه كان طيب المذاق شهياً ” .
في شارع براجا دخلت الدكان الصغير المضئ بكلوب فاحش النور يفح علي الحقائب الجلدية الصغيرة والصنادل والإشاربات والقمصان الباتيك وسائر المنتجات السياحية المعتادة ، خرجت لم اشتر شيئاً كان بدل السفر المقرر لي عندئذ سبعة جنيهات إسترلينية عن أيام العمل الفعلية ونصفها عن ايام السفر ، تقاضيتها من بنك القاهرة في شارع قصر النيل بعد إجراءات ووثائق لانهاية لها . وماله .. كان فيها البركة .. وعل يناصبة معتمة قليلاً فرش الفنان ” الشعبي ” المعتاد الذي لا اسم له ، بضاعته علي الأرض مباشرة ، التماثيل الخشبية والأقنعة السوداء من الأبنوس والعصي بمقابضها العاجية والتمائم والقلائد والخواتم من الديوريت الأخضر تصورت – وكنت محقاً – أن صنعته هي التماثيل الخشبية وحدها ، أفرد لها جانباً من فرشته ولما سألته بالإنجليزية وبالإشارة أنغض رأسه مؤكداً ،كان قد استوقفني وجهه الناحل الطويل علي غير لمألوف في آسيا بصفرته داكنة السمرة ، وشبابه الجاف وشئ يشبه الكرامة والعزة الأولية إذ يقعي علي رجليه صامتاً وساهما كأنه لا يبالي لا ينادي ولا يشير ولا يكاد لا يلتفت إلي أحد .. واستوقفني ذلك التمثال الخشبي لامرأة طويلة بل فارعة ، مشدودة الجسم ،ممشوقة ورشيقة الجوارح المرهفة المرققة ، كانه من عمل جياكو ميتي إندونيسي متميز ، ساقاها منضمتان مدورتان ولكن مسحوبتان في كتلة مسطحة صاعدة في فراغ هي توجده لنفسها ، وثدياها الصغيران عاريان فيهما وداعة وتحد في آن الخشب فاتح اللون خام لم يكد يصقله الفنان بنعومة رهيفة حيية خجول ، توحي بجسدانية مصفاة ولكن كامنة ومتوترة نازعة إلي فوق .
ما زلت أحتفظ وأعتز كثيراً بهذا الشمال الروح من باندونج دفعت لصاحبة ما طلب علي الفور دون مساومة علي غير المعتاد في أسواق وشوارع آسيا وإفريقيا وبلاد العرب .
أخيراً وصل الميكروباص الذي كان يقل فريق السكرتارية كانت البنات قد انحسر عنهن الخوف من استثارة المغامرة أو وطأة المحنة .
عرفت من حكاياتهن المضطربة المتداخلة يسردنها بلهفة وعيون تبرق بالانفعال أن السيارة أوشكت أن تقع في كمين مناوئ للحكومة لم يعرف أحد هوية المقاتلين فيه علي أي حال ، انطلق سيل من الرصاص فجأة من الاحراش علي جانب الطريق ، زاغ السائق بسرعة ومهارة واضح ا،ه كان جندياً مدرباً حاضراً البديهة ومرق بين الأشجار في فسحة معشوشية واستدار راجعاً شق لنفسه طريقاً ملتوياً علي مدقات غير ممهدة ، وعاد بسلام وفي طريق عودته غير المأمونة التقي بدورية حكومية خرجت بعد ميعاد حظر التجول تبحث عنه وعاد في حراستها ، كانت كلمة السر أمام النقاط العسكرية الحكومية في الطريق إفريقيا آسيا .
سعدت البنات جداً بكلمة السر بينما كان شوقي ينظر إليهن باستغراب قليل وهن مهتاجات بالحكي واستعادة لحظات الخطر ، كأنهن كائنات من كوكب خر وواضح أن خمسينية الكونياك التي لمحتها في جيب بنطلونه الخلفي قد أتت فعلها اشتراها من السوق بلا شك قبل ميعاد الإغلاق أما منير صبحي فقد كان يتخطر بينهن علي سجادة ببهو الفندق بخطي قصيرة رشيقة متوثبة ، وهو مضرج الوجه قليلاً من الانفعال لم تكن حكايته وفيها كلمات إنجليزية مختارة بعناية تختلف عن حكايتهن وإن كانت لهجته اقوي وأخشن ذكرتني بصوت نسوي له غوايته الخاصة مثل صوت جوان كراوفورد أو مارلين ديتريتش .
عندما دخلنا الديسكوتيك كانت الفتيات يرتدين المايوه البكيني من القماش السميك اللامع مخططاً علي غرار جلد الفهد ، الأضواء المتناوية مع لحظات إظلام ترتطم فيها صدمات الموسيقي بعضها ببعض تسقط علي بطون مسحوبة مستوية ليست فيها استدارة أنثوية صفرة الجلد الخفيفة ، تحت سطوع الضوء ، تعطي الجسم ملمساً يكاد يكون غير إنساني كأنه جلد جذع زهرة قائمة تهتز بخفة علي إيقاع متراوح ذيل الفهد الملتوي إلي أعلي مصنوعاً من المطاط المقوي بلا شك مغلفاً بجلد الفهد المخطط ، ومعلقاً بمشابك فضية صغيرة .
وبينما جلست عديلة وآرليت إلي الموائد المعدنية المشغولة وطلبتا كوكاكولا : لم تلبث جانين وجوزيت أن قامتا للرقص وتقدم منير صبحي إلي البيست ورقص وحده مع فتيات العرض الفهديات اللاتي أسدلن علي نصف الوجه العلوي قناعاً شبيكة اسود تتخايل تحت عيون مكحولة تطل علي ساحات خاوية من الملل ، الوجوه الآسيوية الصغيرة المنمنمة تحت البيشة المشبكة تبدو إذ يسقط عليها النور القاسي قانية للشفاة مطروحة الوجات مخططة الحواجب ثم تغيب الوجوه والقامات المتمايلة وفي وسطها منير صبحي في ستر ظلام الصخب الموسيقي المقرقع ، تكرار مشهد الصنعة مبتذل قليلاً .
قلت لنفسي : ساخراً قليلاً من نفسي :
– آكل العيش مر ماحدش بياكلها بالساهل ، بعد ذلك بستة وثلاثين عاماً قرأت في
” الأهالي ” يوم 27 يناير 1997 أن جنرالاً صهيونياً هو آرييه بيرو اعترف علي الإنترنيت بأنه قتل خمسين عاملاً مصرياً عام 1956 في ممر ” متلا ” وسط سيناء ذبح ثمانية عشر منهم كالخرفان وأنه غير نادم ، ولا يخشي اللجنة التي تم تشكيلها من الحكومة الإسرائيلية لبحث اعترافاته إذ أن قرار الأدانة من اللجنة ضده سيجعله يفتح النار علي نصف الجيش الإسرائيلي هذه اللجنة انتهت إلي أن تسعمائة مصري قتلوا بالفعل بعد اسرهم سنة 1967 في منطقة العريش علي ايدي كوماندوز شاكد فضلاً عن ست مذابح أخري في ممر متلا وخان يونس .
كتب عبدالفتاح عبدالمنعم أن محاكم مصر تشهد 26 دعوي قضائية ضد الحكومة الإسرائيلية رفعها أهالي الأسري القتلي يطالبون فيها بتعويض قدرته لجنة الدفاع بأكثر من خمسين مليون جنيه .
فماذا حدث للدعاوي القضائية الستة والعشرين وللتعويضات التي لا يمكن أن تعوض شيئاً لا يمكن أن تبرر وتغفر شيئاً ؟
ماذا حدث ؟