حسن بولهويشات - وقت مستقطع من الحرب (16): حروبي السابقة التي خضتها على قدمٍ وساق!.. إعداد: سعيد منتسب

هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..



ابتدأت الحكاية بالأبيض والأسود من خلال التلفزيون حيث مشهد شبّان فلسطينيين يرشقون بالحجارة آلات عسكرية ضخمة. دائمًا هناك من يسقط جريحًا برصاص قنّاصٍ لا يظهر في الصورة، قبل أن يأتي من يحمله في اتجاه سيارة الإسعاف التي تظهر من بعيد وسط الأدخنة. كنتُ مشدودًا إلى الشّاب المحمول على الأكتاف ولباسه النظيفة. لقد تكرّر المشهد طوال سنوات حتى تعرّفت على مدن وقرى فلسطين بأكملها، وأيضًا على القادة الفلسطينيين، وعلى جميع ربطات عنق صائب عريقات وبحّة صوت ياسر عرفات وقصّة شَعر حنان عشراوي. ربّما لهذا السبب أحببتُ، فيما بعد، قصائد محمود درويش وسامح القاسم. وواظبتُ على شراء أعداد مجلة «الكرمل» التي كانت تصدر في رام الله، كنت أقلب أوراقها بتهيّب كما لو أني أقلب دفتر أسماء من حُملوا على الأكتاف.
كبرنا فصارت الصورة ملوّنة واتسعت المأساة مع حرب الخليج الثانية والثالثة، والآن أتابع أخبار الحرب الروسية الأوكرانية دون أن أتبيّن ملامح صاحب الأصابع الخبيثة التي تقدح نار الحرب ليموت بمجانية أبرياءٌ كثيرون وتهوي سقوف على أطفال وعجزة، ويقف آخرون في المعابر بحقائب الظهر كما لو أنهم ذاهبون في رحلة مدرسية.
من حسناتي، أكره مشهد الطائرات وهي تمزّق ثوب السماء بلا رحمة، وصوت الرصاص الأحمق يطوي أبرياءَ لا دخل لهم فيما يجري. أكره، أيضًا، حرب الطرقات ومشهد موتى وجرحى مرميين على الجانب يحيط بهم فضوليون وغرباء. أكره عويل سيارات الإسعاف وطبيب قسم الإنعاش الذي يخيط الجروح وهو يمضغ العلك. وأتجنّب حضور المآتم كي لا أرى هؤلاء الحمقى الذين يأكلون بشهية كما لو أن الأمر يتعلق بحفلة آخر السنة. وقد تسرّب جزءٌ كبير من هذه المشاهد الجنائزية إلى كتاباتي إمّا على شكل نصوص صريحة على قلّتها، وإما بشكلٍ ضمني ومن حيث لا أدري لدرجة أتساءل مع نفسي كيف غفوتُ وتأتّي لي كل هذا اللون الرمادي، وهذه السخرية السوداء التي تبطن وجعًا حقيقيا.
الحياة جميلة، لكن مزاج القادة العسكريين أفسد كلّ شيء. وقد اعترض المثقفون والكتّاب والشّعراء على الحرب وندّدوا بها على الدوام دون أن يستطيعوا إيقافها فانكبوا على كتابة قصائد وسرديات عظيمة، وهكذا قرأنا «وداعًا للسلاح» لأرنست هيمنجواي و»الحرب والسلام» لتولستوي و»رجال في الشمس» لغسّان كنفاني، فيما تكفّلت وسائل التواصل الجديدة بتقريب الصورة وتوثيق المأساة من مسافة قريبة.
أعتبر نفسي شاهد عيان قديم على حربٍ حقيقية يخوضها الإنسان من أجل العيش، حيث بؤساء يبدؤون النهار باكرًا، يحثون السير في اتجاه أوراش التعب والمعامل المظلمة بأطرافٍ باردة وبلا وجبة فطور حقيقية. يستهلكون النهار في تلقي الأوامر وتنفيذها كجنود حقيقيين قبل أن يعودوا في المساء ليتزاحموا في شقق السكن الاقتصادي وينتظروا اليوم الموالي. إنها الحرب المصيرية من أجل الدفاع عن حدود السيادة، من أجل الخبز والبقاء على قيد الحياة.
دعني أغيّر الوجهة فأحدثكم عن حروبي السابقة التي خضتها على قدمٍ وساق، والتي كانت صغيرة جدّاً وقريبة من أنفي. كانت محليّة وضد مشاعري المقسّمة مثل كوريا الشمالية وكوريا الجنوبيّة. ضد جواربي الضائعة وأزرار قمصاني الناقصة. ضدّ أفكارٍ كثيرة تتزاحم قدّام باب قصيدتي. ضدّ صناديق القمامة الواقفة في طريقي إلى العمل في الثامنة صباحًا. ضدّ مزاجي العاصف الذي أفسد على كلّ شيء. ضد كبريائي الغامض وأنفي المرفوع إلى الأعلى كالفاعل. ضدّ حساسيتي المفرطة من يوم الاثنين ومن اللون الأصفر ومن قنينة الغاز ومن ضيوف طارئين يطرقون باب البيت وقت الظهيرة. فعلتُ ذلك برأس مكشوف وبلا خوذة عسكرية أو خوذة دراجة نارية حتّى. أحب أن أواجه خصمي بلا مصدّات ولا وساطات.
بالمقابل، أتسلّى بمشاهدة حروب صغيرة ومقبولة، كأن تتبادل جارتان العتاب من نافذة إلى أخرى بسبب سطل قمامة مقلوب أو تتدافع تلميذتان بالأكتاف على قلب زميل مدرسة لا علم له بقصة حبّ نبتت جواره في صيغتين أو حين تتلاطم دفتا نافذة بسبب ضحكة ريح.

الكاتب : إعداد: سعيد منتسب


بتاريخ : 20/04/2022



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى