مهند الرفوع - سُبات العِطاش

28/8/2032
السادسة والنصف صباحاً

محاولات الحصول على الماء فشلت كلها. الدول المجاورة لا تسقي إلا نفسها. في هذا العام تقلّص نصيب العائلة إلى متر مكعب واحد من الماء شهرياً. رائحة الأجساد العطنة باتت عادية ومألوفة. آخر فنجان قهوة ركلته عمّان قبل سنة. الشاي أيضاً توقّف استيراده. صورٌ كثيرة نُصبت في عمّان لشاب ابتكرَ طريقة جديدة للاستحمام الشهري استحق عليها الشكر والثناء؛ عشرون قطرة من الماء فقط لمسح الجسد كاملاً. يتزاحم الناس في هذه الساعة الباكرة في محيط "البوليفارد" لاستقبال صهريج ماء صغير. انتهى النوم المتأخر الذي اعتادوا عليه. ينتظر الناس في أماكن حدّدتها أمانة عمّان العطشى حاملين قوارير بلاستيكية مختلفة؛ صفراء خضراء زرقاء، وأخرى مهشّمة الأطراف. عشرات الآلاف بانتظار الماء الذي انحسر عن خزانات البيوت. اليوم دور أهالي الشيمساني والعبدلي وجبل الحسين وضاحية الأمير حسن. وجوه مختلفة ولهجات متعددة. ليس لخمسة منهم هيئة متشابهة! بدأ النهار يتنحنح من جهة الشرق. عناصر كثيفة من رجال الشرطة، وسيارات الإسعاف الشاحبة بانتظار ضحايا التدافع. بكاء الأطفال لا يتوقف وتذمّرٌ هادر يخنق النفس. ينقل الهاتف أخبار السرقات اليومية للماء الموجود في "رديتر" السيارات الكبيرة. أمّا باقي السيارات فهي كهربائية بالكامل. ينزلقون ليلا تحت محرك السيارة ويسرقون الماء. الناطق الرسمي ينقل للناس يومياً عدد السيارات التي تعطّلت بسبب تلك السرقات. ما إن تقطع مسافة قصيرة حتى يموت محركها من الحرارة. ثمّة حمار أسود قادم من جهة الغرب يحمل على ظهره عجوزاً. الفندق الذي يستوعب ظله عدداً كبيراً من الناس مهجور ونوافذه ترفرف. أبناء مدينة العطش تشقّقت شفاههم وجفّت وجوههم. مساعدات مائية كبيرة من النرويج والبرازيل وكندا تصل تباعاً، لكنّ الناس يتهمون المسؤولين الكبار بالاستيلاء عليها. تهمة جاهزة لمسؤولين لا يعرفهم أحد. لا شكل لهم ولا لون ولا رائحة. منذ عشرات السنين لم يعرفهم أحد. عمّان الازدحام أصبحت شوارعها شبه فارغة. يتابع الناس حركة الحمار باهتمام وينتظرون قِربة ماء قد يحملها. يسير الحمار بحرية فوق الشارع الهابط من إشارات "شارع النقابات". نظرات الناس الكثيفة حرّضت عيون الآخرين على المتابعة فاستدارت الوجوه نحو الحمار. صمتٌ ثقيل بعد موجة تذمّر صاخبة. شاعرٌ كهل يعتلي دَرَجاً ويتأمل فتاة تقابله. بقعة كبيرة من العرَق ترتسم على قميصها من الخلف وشعرها كثيف وجاف. تغزّل بها في ذهنه واختار كلمات أول شطر لقصيدة مؤجلة: "ما أنبلَ الوجه لولا آفة العطش"! ستيني قصير القامة توقف عن مضغ الذكريات بعد أن تكلّم كثيراً عن ماء عمّان الغزير وأمطارها المرعبة. لم ينسَ سنابلها السمينة وأثلام الملفوف الضخمة في عبدون. وفي الوقت الذي أنصتت إليه مجموعة كبيرة من الناس داهمهم بالسؤال عن بيادر وادي السير؛ ألم تسمعوا عن البيادر؟ سألهم وما انتظر الإجابة، ثم راح يصف لهم أكوام القمح الكبيرة والزبد يتطاير من فمه. يقترب الحمار أكثر والعيون تُمسك بخطواته المتسارعة. مضت نصف ساعة على موعد وصول الماء. المواعيد هي هي؛ كاذبة ومُضلِّلة. ألف وفاة يومياً بسبب نقص المياه. يتناقل بعض الحاضرين أخبار انتحار جماعي قرب مطار الملكة علياء. صافرات الإنذار لم تتوقف عن تحذير الناس من التدافع. يقترب الحمار متجاوزاً كومة كبيرة من أنابيب المياه الحديدية التي اقتلعها الناس من باطن الأرض لتصفية ما فيها من قطرات. تحذيرٌ جديد من أبراج الدفاع المدني للعالقين في المطار. نزوح واسع للسفر إلى الخارج. تهاوت أسعار الشقق عشرة أضعاف. لا أحد يفكر إلا في الماء. أخيراً يصل الحمار إلى مكان تجمع الناس. أخذت تقاسيم العجوز تتبدّى؛ وجهٌ مجعّد كحبة جوز وعينين صلبتين. الرأس مغطى بمنديل بُني والقدمين عاريتين. وحالما دنا الحمار من بؤرة التجمع تهافتت العيون للبحث عن قربة قد يحملها. أعشاب خضراء وبقايا طين ملتصقة بحوافره كأنما هو آتٍ من أرض تُغرقها المياه! لم يظهر على العجوز تعبٌ أو عطش. ينظر نحو الأمام ولا يلتفت كثيراً. حتى تجمُّع الناس الكبير ما لفت انتباهه. ولو تكلّم مع أحدهم لما فَهمَ ولا فُهِم! شاب عاري الصدر كاد أن يصطدم بالحمار لولا أنه تراجع عن مساره قليلاً. يتابع الناطق الإعلامي عبر البث المباشر: "قُمنا بتأمين مليار عبوة ماء ونأمل بزيادة الأعداد". تتلاقى وجوه الحاضرين المندهشة من ذلك الكلام وتعلو الشتائم. يركض فتى نحو إحدى النساء ويُخرج من علبة خبّأها في جيبه سبع عشرة قَطرة ويعطيها لابنها الرضيع. يحاول أحدهم الصراخ ولا يستطيع. لم يخرج منه سوى بحّة جارحة قصيرة المدى. كانت السماء خالية قبل أن تفرشها طائرة كبيرة بالضجيج. تركوا الحمار وانشغلوا بالطائرة التي ظهرت لهم راشحة بالماء. سقوط تلك الطائرة كان أمنية جماعية، لكنها مزقت الفضاء وابتعدت كثيراً بعد أن لملمت ضجيجها، ثم عادوا إلى الحمار. الذباب يغزو الأجساد ولا تردعه تلويحات الأيدي المتواصلة؛ ينهشُ بلؤمٍ ويستعذب تكرار النهش في المكان نفسه. عينا الحمار استوعبت المئات من الذباب، وعلى الرغم من ذلك واصل سيره بانتظام حتى اجتاز الجموع بسلام. وحالما ابتعد كثيراً ولامس قلب العاصمة، أخرج صاحبه قربة ماء من تحت البَرْذَعة وظلّ يصبُّ في فمه من أعلى حتى ارتوى وانتعش حماره من الماء المتطاير.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى