حامد حبيب - محاكمة التاريخ فى رواية ( ليلة في حياة كاتب ) للروائي مجدي جعفر

*هناك رواياتٌ يصعُبُ علي القارئ قراءتها، ولانعنى بذلك تلك القراءة المعتادة ، إنما نعنى بقراءتها ،

سبر أغوارهِا وفهم أسرارها، والوقوف على مغزاها

…تلك القراءةُ التى نعنيها.

وقد يضيقُ بها بعضُ الادباءِ صدراً ، لأنهم اعتادوا

قراءة الروايات التقليدية وليس لديهم الرغبةُ فى

التعامُل مع تلك النوعية من الروايات ، ولاالصبر

عليها.

فنحنُ أمام رواية تفكيكية ، تحتاجُ من القارئ أن يُعيد تركيبها والوصول إلى جُملةِ مغزاها ، فإن لم يحدث فلم تُقرأ الرواية كما ينبغى ، وتحتاجُ إلى

إعادة قراءة ، فهى أشبه بكنزٍ مدفون في الأعماق فى مكانٍ ما ، مَن يريد الوصول إليه يحتاجُ إلى مُعدات حفرٍ حديثة ، وكيفية التدريب عليها ، ومعارف حسابية دقيقة لتقدير العُمق، والاستعانة بعوامل أخرى ، أهمها الصبر، وأن يكونَ دقيقاً حذِراً عند الوصول إليه، حتى لاتضيعُ جهودَه ، فالجهلُ في مثل هذا الأمر يُشبه ماذكره(الهمدانى) فى كتابِه "الإكليل " فى باب "القبوريات" ، حيث استحضر مثالاً لأُناس خرقوا قلعة "ضهر" _وهى قلعة معروفة باليمن _ لاعتقادهم أن فيها كنز،

ودخلوا ومعهم السّرج (المصابيح) ، فلما تغلغلوا انطفأت السّرج، فغادروا على أعقابهم معتقدين أنّ الجنَّ أطفأها" فقال:

إن الأمر ليس كذلك، إنما وصلوا لمرحلة انقطع فيها النسيم، فكان لابد من انطفاء السّرج.

والمقصود ، أنه من يقرأ هذه الروايات لابد أن يكون لديه من السعة الثقافية والغِنى الفكرى مايُمكّنه من تخطّى عتباتها والوصول للمغزى الحقيقى.

*زمن الرواية…

تمّ اختزاله في ليلةٍ ، من خلال ماحكاه بطل الرواية

للمحرّر الصحفي ، مع اعتبار اختلاف الأزمنة وامتدادها عبر فترات تاريخية عميقة امتدت من عصر الأسرات الأولى حتى وقتنا الحاضر ، وما اكتنفته من أحداث واعتقادات ومذاهب وأنظمة ومواقف ورؤى متعددة ومتباينة.

*الأماكن…

تعدّدت بين الريف والحضر والغابة..

*الشخصيات….

وصل تعدادها إلى نحو خمس وأربعين ومائة شخصية تقريباً (بطريقة إحصائية قمنا بها) مابين

شخصيات مؤسِّسة للرواية ، وشخصيات مُستدعاة

من التاريخ ، وشخصيات هامشية وشخصيات من حيوانات الغابة ،لكنها قامت بأدوار هامة أيضاً فى مجريات الرواية.

وتلك الكثرة فى تعدّد الشخصيات مغزاها : أنّ الشخصية بالنسبة لعامِلَى الزمان والمكان ، كان لها الدور المؤثِر والفعّال فى كل زمان ومكان، باعتبارها

صاحبة اليد العليا في التأثير والتغيير والتحويل ، وكأنّ الكاتب يريد أن يثبت فى النهاية : أننا أولاً وأخيراً بيدنا الأمر ، وكل تأثير إيجابي أوسلبى

مرجعه للشخصية فى كل زمان ومكان.

وقد كانت الرواية محاكمة للشخصيات التاريخية

على مدار الزمن ، وفى كل مكان ، وإثبات مدى الانفصال بين الحاضر والماضي مُمثَّلاً فى تلك العلاقة التى أوردتها الرواية فى شغف الأب " أستاذ التاريخ " لرؤية ابنه أولقائه أوسماع صوته دون جدوى…جمود الحاضر فى الاستفادة من الماضي

..عدم الانصات إلى عِبَره وعظاته وتجاربه.

كانت هناك تعرية للتاريخ وافتضاحه عبر أشخاصه وأحداثه ، وعدم الرضى عن كثيره.

وفى صفحتى(٧٠/٦٩) يقول:" اسمع ياولدى ..اسمع منى.. ماأقوله لك ، لايصلح معه كلمة "ثيوقراط" -

أو أيديولوجيا ، لاختلاف التركيبات الدينية بين

الدينيين، ولكن حتى تنتهى من فقهٍ لانرى له داعٍ،

فقه الأمامة ، فسيورثنا سيدى وسيدك ( معاوية) ل(يزيد) ، فإذا وصلنا ل( مروان الحمار ) ، أُطعِمت

لحم (ابن المقفّع) على مائدة (المنصور) ، وفى ليلة

واحدة طُف على خمسين امرأة ، وصلِّ خمسين ركعة، واذبح خمسين برمكياً مع ( هارون الرشيد ).

ومع الحرف (ق) الذي يضاهى جبل قاف ، أقم المشانق، لأنّ رأي الخليفة غير رأيك. وحتى لو كنت الملك الصالح ( صلاح الدين ) ، وزّع الممالك على أبنائك وأبناء أخيك ، وليقايض أحدهم فلسطين بعكا ،

مجاملةً لصديقه من الأجانب أو خمسين امرأة من اللدن.بِع نفسك مثل( برقوق ) في سوق النخاسة

حتى تصل وتحكم على شرط احتقار الأرض وآلفلاح وابن مصر". ويدّعى البعض أنّ(محمد على) هو بانى مصر، وهذا كذب،إنما كان يبحث عن أرضٍ يأخذها ، وجَدها..أصلحها، ونحن كما نحن ، مثل طُعم الأرض، مهما قُطِعنا تنمو ، ولايعنينا الأمر".

ويحاول الكاتب إثبات مسألة أنّ الزمن يعيد نفسه،

مسألة تدوير التاريخ عبر الشخصيات، وان اختلف الزمان والمكان ومسمّيات تلك الشخصيات.

وهو ما تستطيع ملاحظته عبر قراءتك للرواية التى

ارتحل فيها الكاتب بين الحاضر والماضي فى ارتداد سريع بينهما عبر تقابل بينهما لإثبات ذلك النسخ الذى تحدثنا عنه، باعتبار الحاضر نسخاً للماضى، ومع ذلك لانستفيد بعبرِه وعظاتِه .

..............................................

يتبع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى