فلاديمير نابوكوف - القارئ الجيد.. الكاتب الجيد.. ت: د. حبيب مونسي

منذ مائة عام أبدى «فلوبير» “G. FLAUBERT” في رسالة كتبها لعشيقته الملاحظة التالية: «كم نزداد علماً إذا اقتصرنا على المعرفة الجيدة والدقيقة لخمسة أو ستة من الكتب»..يجب علينا أثناء القراءة ملاحظة وتذوق الجزئيات، وليس ثمة ما يضاف ليلاً في ضوء القمر من أفكار عامة إذا كنا قد التقطنا بحب وشغف الومضات الصغيرة للشمس من الكتاب. فإذا بدأنا من عموميات جاهزة، فقد بدأنا من المدخل السيئ. وسنبتعد من الكتاب قبل البدء في الفهم. وليس هناك أقبح، ولا أقل لياقة للمؤلف من الشروع في قراءة رواية «مادام بوفاري» “Madame Bovary” مثلاً، مع تبييت الفكرة الجاهزة بأنها انتقاد وفضح للبرجوازية، بل يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن كل أثر إبداعي إنما هو ـ دائماً ـ إبداع لعالم جديد. وأول مطلب نضطلع به، هو دراسة هذا العالم عن قرب ، وكأنه “شيء” جديد كل الجدة، لا يملك أدنى رابطة مع العالم الخارجي الذي نعرف. ولا يجوز لنا البحث في روابطه مع الواقع، ومع الحقول المعرفية الأخرى، إلاّ بعد المقاربة الدقيقة لعالمه الخاص.
سؤال آخر! هل يمكننا أن نأمل في الظفر بمعلومات تتعلق بمكان ما، أو بحقبة تاريخية، من رواية نقرأها؟ وهل من ساذج يعتقد أنه في مقدوره تطوير معرفته التاريخية استناداً إلى بعض الروايات الشهيرة التي تكتظ بها رفوف المكتبات والأندية تحت نعت الروايات التاريخية؟ وفيما يخص الروايات الخالدة، هل يجوز لنا تصديق الصورة التي قدمتها «جان أوستين» “JANE AUSTEN” لإنجلترا، عن ملاك الأراضي، والحدائق، والبالونات، وهي التي لم تعرف سوى الصالون الصغير لقسيس الكنيسة؟ وهل يجوز لنا أن نتخذ من «بليك هاوس» ”Bleak House” ـ تلك الرواية العجيبة التي تجري أحداثها في لندن العجيبة ـ وثيقة عن المدينة في قرن مضى؟ قطعاً لا! الحقيقة أن كل الروايات الكبيرة إنما هي حكايات جنيّات وحسب.
إن الزمن والمكان، واللون والمواسم، وحركة العضلات والفكر، كل ذلك بالنسبة للكاتب العبقري لا تشكل معطى من المعارف التي يمكن الحصول عليها من الحقائق العامة. ولكنها سلسلة من الاكتشافات الخاصة التي تعوّد الكتاب الكبار التعبير عنها بطرائقهم الخاصة. ويبقى تنميق الأماكن المألوفة للذين هم أقل دربة ومرتبة.إذ ليس لديهم همّ إبداع العالم، وإنما يكتفون باستغلال النظام الكائن للأشياء جهد المستطاع، بحسب الطرائق التقليدية للرواية.
وما ينحته هؤلاء الكتاب من التركيبات الممكنة ـ وفي حدودها ـ لون من الإنتاج الطريف ـ المهذب والزائل ـ ما دام القراء الأدنى درجة يحبون مصادفة أفكارهم الخاصة تحت طلاءات جذابة. ولكن المؤلف الحق، ذلك الذي يفرض حركته على الكواكب، ذلك الذي يبدع إنساناً نائماً، ثم يقبل على تفعيل قيمة النائم. هذا المؤلف ليس في متناول يده القيم جاهزة، بل يجب عليه ابتداعها بنفسه. وسيكون فن الكتابة فناً تافهاً إذا لم يرَ في العالم المحيط مجالاً خصباً للخيال. قد تكون مواد هذا العالم واقعية ـ إذا كانت هناك واقعية ـ بيد أنها غير موجودة في تصور شامل مدرك ومقبول. وإنما هناك فوضى.. ولهذه الفوضى يقول المؤلف: «تحركي» عندها، يرتجّ العالم ويدخل في سلسلة من التفاعلات. ولا يتشكل في عناصره الظاهرية وحسب، وإنما في ذراته كذلك. والمؤلف هو أول إنسان يرسم خريطته و يسمي أشياءه.. هذه العنبية أكيلة، هذا الكائن المرقط الذي وثب في طريقي يمكن تدجينه، هذه البحيرة بين الأشجار أسميها بحيرة «الحجر الكريم» ”Opale”، أو أدعوها فنياً بحيرة «الحساء» “Lavasse”، هذا الضباب جبل، وهذا الجبل يجب اقتحامه. ويتسلق المؤلف هضبة عذراء، ويصل إلى القمة مجانباً رأساً حجرياً تعول فيه الرياح.. من تظنون يصادف هناك؟ يصادف القارئ لاهثاً.. يتعانقان إلى الأبد، إذا قدر للكتاب أن يعيش الأبد.
ذات مساء، في مدرسة قصية ريفية، قادتني إليها سلسلة من المحاضرات، اقترحت لعبة صغيرة: من بين عشرة تعريفات للقارئ المثالي كان على الطلبة اختيار أربعة منها، وعند تركيبها تعطينا التعريف الصادق للقارئ الجيد.. لقد فقدت القائمة الأصلية، ولكني أذكر معطيات المشكلة. والاقتراحات العشرة هي كالتالي:
ـ على القارئ أن يكون مشاركاً في نادٍ للقراءة.
ـ على القارئ أن يتعرف على ذاته في شخصية البطل أو البطلة.
ـ على القارئ أن يركز على الجانب الاجتماعي ـ الاقتصادي.
ـ على القارئ أن يفضل رواية تقوم على الحركة والحوار، على العاطلة منها.
ـ على القارئ أن يكون قد شاهد القصة، فلمَ قبل قراءة الرواية..؟
ـ يجب على القارئ أن يكون روائياً بالقوة.
ـ لابد للقارئ من خيال جامح.
ـ لابد للقارئ من ذاكرة قوية.
ـ لابد للقارئ من قاموس.
ـ لابد للقارئ من حس فني.
لقد راهن الطلبة على المعطيات العاطفية، والحركة، والجوانب الاجتماعية ـ الاقتصادية ـ التاريخية.. ولكن ـ مثلما فكرتم في ذلك ـ فإن القارئ الجيد هو ذاك الذي يمتلك ذاكرة، وخيالاً، وقاموساً، وحساً فنياً. أكتفي بذلك دون الحاجة إلى بسط.
إنني أستعمل لفظ «قارئ» في معناه الشاسع الواسع. ومن العجيب أننا لا نستطيع قراءة كتاب، وإنما نعيد قراءته، لأن القارئ الجيد، الفعّال، المبدع، إنما هو «قارئ معيد» “RE-LECTEUR” وسأقول لكم لماذا! عندما نقرأ الكتاب أول مرة، فإن عملية تحريك العينين في صبر ومشقة من اليسار إلى اليمين، ومن سطر لآخر، ومن صفحة إلى أخرى.. فإن هذا الفعل الفيزيقي المعقد الذي يفرضه الكتاب، زيادة على ضرورة اكتشاف المكان، والزمان، والأحداث لفظاً.. كل ذلك يحول دون القارئ والحكم الفني. وعندما نتأمل لوحة فليس علينا تحريك العينين بطريقة خاصة، حتى وإن كانت اللوحة تقدم لنا ـ شأن الكتاب ـ مادة للتأمل والتفكير العميقين.
إن عامل الوقت لا تأثير له عند اللقاء الأولي باللوحة، ولكننا في حاجة إليه عندما نقرأ كتاباً للتعرف عليه، وليس لنا عضو فيزيقي كالعين إزاء اللوحة، يمكّننا من الإدراك الكلي لمجموع اللوحة، ثم يتفرس ـ فيما بعد ـ في الجزئيات، بيد أنه يمكننا في القراءة الثانية والثالثة والرابعة أن نتصرف في الكتاب بنفس الطريقة التي هي لنا إزاء اللوحة، مهما يكن الكتاب.. تأليف خيال، أو تأليف علم ـ الحدود بينها لاتزال غير واضحة دائماً ـ فكتاب الخيال يخاطب قبل كل شيء العقل.. العقل، المخ، قمة النخاع الشوكي، أين تجري الرعشات.. الجهاز الوحيد الذي يصلح للقراءة.
بعد هذا يحق لنا التفكير في المسألة! ومن ثم البحث في الكيفية التي يشتغل بها العقل في اللحظة التي يواجه فيها القارئ الخامل وهج الكتاب. في البدء يختفي عبوسه، وعلى الرغم من كل شيء، يدخل اللعبة. إن جهد الشروع في القراءة، خاصة إذا كان الكتاب يحظى بالحب عند العامة من الناس، ويراه القارئ الشاب في قرارة ذاته قديماً، أو جاداً.. هذا الجهد يكون عادة صعباً أول وهلة، ولكنه يعود ـ بعد إسدائه ـ بمكافآت طيبة. فإذا كان المؤلف قد استند إلى خياله الواسع لإنشاء الرواية، فإنه ـ من الطبيعي ـ أن يكون على القارئ بذل القدر المناسب من خياله الخاص.


فلاديمير نابوكوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى