د. أحمد الحطاب - هل من دروس تعلمناها من وباءُ كورونا؟

يبدو أن بني البشر نسوا ما عانته البشريةُ من أزمات مختلفة حين اجتاحها، بكيفية شمولية، وباءُ كورونا. أزمات، على الخصوص، اجتماعية واقتصادية حوَّلت العالمَ إلى مكان مجهول الهوية والمستقبل. لكن أُمَّ الأزمات هي الأزمة النفسية التي أغرقت البشريةَ، بدون استثناء، في بحر من الرُّعب والهلع والخوف من الحاضر والمستقبل

لكن اللهَ سبحانه وتعالى، رأفةً ولُطفا بعباده، وهبَهم تِعمةً ما بعدها نعمة تُسمَّى النِّسيان. فمهما عظُمت الأزمة النفسية ومهما عظُمت آثارُها على الخَلق، فالنسيانُ يُقبرها في ثنايا الماضي رغم ترسُّخها في الذاكرة الفردية والجماعية. لكن، إذا استفدنا من نعمة النسيان، فلا يجب أن ننسى الاستفادة من ما خلّفه لنا وباءُ كورونا من دروس. دروسٌ فيها موعظةٌ لمَن أراد أن يتَّعظَ.

قبل أن أقفَ على ما خلَّفه لنا وباءُ كورونا من َدروس، يقول اللهُ عزَّ وجلَّ في الآية رقم 55 من سورة الذاريات : "وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ".

ما أريد أن أُذكِّرَ به هو أن فيروس كورونا ليس خليَّةً ولا كائنا حيا بالمعنى البيولوجي. بينما الإنسان كائن حي بالمعنى البيولوجي وعدد خلاياه يتراوح بين 10000 و 100000 مليار خلية، 100 مليار منها يتألف منها الجهاز العصي (الدماغ، المُخيخ، النخاع الشوكي و الأعصاب). هذه الخلايا المختلفة الأشكال والمضمون تتجمَّع على شكل أنسِجة، والأنسِجة تتجمَّع على شكل أعضاء. وكل عضو يقوم بمهمَّة تناسُقا وتكاملا مع الأعضاء الأخرى. وخلايا الأعضاء، سواءً كانت لحما أو عِظاما أو سائلا، هي التي تُعطي للجسم وَزنَه. بينما وزنُ فيروس كورونا يكاد يكون منعدما تقريبا، وحجمه يساوي نانومتر nanomètre واحد، أي جزء واحد من المتر مُقسم إلى مليار جزء.

بعد هذا التوضيح الذي له ثقلُه من الناحية المعنوية، سأقف على ما خلَّفه لنا وباءُ كورونا من دروس.

الدرس الأول : إذا كانت قوة الإنسان ظاهرةً للعيان من جراء تركيبته الجسمانية ومن جراء ما أوجده وما اخترعه من وسائل لتضعيف هذه القوة، فقوة فيروس كورونا خفية و غير ملموسة. وإذا كانت قوة الإنسان مرئيةً بالعين المجرَّدة، فالفيروس نفسُه لا يرى إلا بواسطة أقوى المجاهر microscopes puissants. وإذا كانت قوة الإنسان تُقاس بما لديه من أسلحة، ففيروس كورونا ليس له لا ترسانة نووية ولا حاملات طائرات ولا أسلحة دمار لكنه فتاك و متمرِّد.

الدرس الثاني : يبدو أن فيروس كورونا ديمقراطي إلى أقصى حد لأنه ساوى بين الغني والفقير وبين الضعيف والقوي وبين السَّيِّد والمَسود وبين المثقف والجاهل وبين الرئيس والمرؤوس وبين الأبيض والأسْود وبين المتقدِّم والمتخلِّف و… المساواة التي لم تستطع البشريةُ، منذ ظهورها على وجه الأرض، تحقيقَها بالكامل، استطاع فيروس كورونا تحقيقها في وقت وجيزة لا يساوي شيئا بالمقارنة مع تاريخ هذه البشرية.

الدرس الثالث : يبدو كذلك أن فيروس كورونا لا يعرف للسياسة سبيلا، بينما البشرُ مسيَّسون حتى النخاع. وتسيُّسُهم هذا هو الذي أنساهم أنه يوجد في هذا الكون ما هو أقوى منهم مهما تعاظموا ومهما استقووا. وحتى يُبيِّن للناس قوتَه، فيروس كورونا لا ولم يعترف بحدود الدول بل إنه اخترقها بسهولة وبدون أدنى جُهد. اخترقها حيث لا يهمُّه أن تكونَ هذه الحدود محروسةً بأرقى وأنجع التكنولوجيات ولا يهمه أن تكون هذه الدول مُصنَّفةً في خانة الشمال أو الجنوب، في الغرب أو الشرق. و لهدا، قلتُ، أعلاه، إنه متمرِّد. و هذا معناه كذلك أنه لا يعرف للنفاق سبيلا.

الدرس الرابع : إن هذا الفيروس لا يعترف كذلك بالجغرافيا إذ لا يهمُّه أن يكونَ مناخُ الدول باردا، حارّاً، صحراويا أو معتدلا. أن تكون تضاريسها سهْليةً أو جبلية، مرتفعةً أو منخفضةً. إنه يتكيَّف مع كل الظروف الجغرافية. بل إنه فد يستغل هذه الظروف ليعِث فتكا في البلاد والعباد.

الدرس الخامس : فيروس كورونا لا يعترف يشيء يُسمِّيه الإنسانُ الاقتصاد القوي أو التَّطوُّر العلمي والتكنولوجي. بل الفيروس، رغم صِغر حجمه وبساطة تركيبته، بيَّن للعالم أجمع أنه، بإمكانه، أن يُوقفَ الاقتصاد والتِّكولونيا والتَّطوُّر بجميع أشكالِه. وإذا استطاع أن ينطق بالكلام كما ينطق به البشرُ، فيقول: أنا أقوى منكم وأقوى من أقولكم.

الدرس السادس : فيروس كورونا على الخصوص، وبصفة عامة، الفيروسات المُسبِّبة للأمراض، لا تعترف بكل ما أنجزه الإنسان وما أنشأه وما اخترعه وما اكتشفه وما شيَّده وما أقامه وما طوَّره وما صَنَعه وما صَنَّعه و…

الدرس السابع : فعلى البشرية أن تطرحَ على نفسِها السؤالَ التالي : من بين مخلوق بشري ومخلوق فيروسي، مَن الضعيف ومَن القوي؟ ومَن الأقوى؟ هل بسيط التَّركيبة أم مَن هو تركيبتُه معقَّدة بيولوجيا، اقتصاديا، سلاحيا و تكنولوجياً؟

الدرس الثامن : منذ أواخر 2019 إلى يومنا هذا، مما لا شك فيه أن البشريةَ لاحظتْ أن الضعف أصبح قوةً و القوة أصبحت ضعفا مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا…" (الروم، 9).

ومَن يُنكر هذا التَّحوُّلَ من قوة إلى ضعف ومن ضعف إلى قوة، فإنه لا يرى الواقعَ بعين العقل. فكم من أممٍ بلغت من القوة أوجَها ومن الحضارة أرقاها، لكنها، بحكم ابتعادها عن الأخلاق الحميدة عن القيم الإنسانية والدينية، أصبحت في خبر كان واندثرت ولم يبق شاهدا عليها إلا الآثار.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى