فنون بصرية نزار سليم - المقهى السويسري والجنود البولونيون المتحف العراقي واشياء اخرى

بين ازيز الطائرات واندلاع اللهب المتصاعد من اصطدام المنطق بالجشع الانساني وبين الاف الازواج التي تصاعدت بهدوء عجيب اثر صرخة مدفع وحركة دبابة، دبج العراق في السنين الست الصاخبة الخطوط الاولية في صفحة الفن العراقي الحديث.
فقد رمى البركان الذي لا نزال نرى الدخان المتصاعد من فوهته بعد ان انفجر بحمم بشرية ارتدت لباسها الخاكي وفوق هذه الامواج الخاكية التي جاءت عن طريق خليج البصرة ارتفع زبد البيض فغسل الساحل الرملي ورسم على صفحته تلك الخطوط المتعرجة التي استقاها الفن العراقي الحديث.
وفي بغداد كان الشباب العراقي متاهبا ليغتنم الفرصة النادرة التي يسرها له "مارتن" ومن بين هؤلاء كان جواد.
وارتطمت الموجتان في بغداد، فاكتض المقهى السويسري باناس غرباء يرتدون الخاكي الا انهم يتكلمون في الفن.
ـ هات لي يا سليم قهوة باردة.
ويرتشف الجميع ما امامهم وهم يتحدثون ويرسمون.. وهناك قطعة ليزليوز او شوبا يستمع اليها جنديان بولنديان فيتذكرا بولندا وصورهم التي احرقت.
في هذا الجو الغريب المخنوق بالدخان حاول جواد الوصول الى ذاته فتعرف على بعض المتطوعين البولنديين مثل باريما ومانوشاك.
وقد ظهر تأثير الفن البولوني على صور جواد في معرض اصدقاء الفن، هو وفائق حسن حتى ان الاستاذ فائق حسن عمم المذهب البولوني في معهد الفنون الجميلة وكان استاذا للرسم في المعهد، وكان هذا خير مثال على التجرد الذي يتصف به الفن العراقي الحديث.
وقد اقام البولنديون والانكليز عدة معارض وحفلات موسيقية فتدفق النشاط في عروق الشباب.
وفي 12 شباط 1944 ارسل خلدون من بيروت رسالة لجواد يقول فيها (الفنانون البولونيون اقاموا هنا معرضهم.. اظن انهم اصدقاؤك.. هل تريد رأيي فيهم انهم لوحاتهم المعروضة.. انا لم ار في حياتي رسامين مقلدين لا شخصية لهم، لا اصالة لهم بقدر هؤلاء.
في 22 ك 2 زرت المعرض لاول مرة كانت اللوحات معروضة في قاعة بالطابق الثاني من أوتيل سان جورج.
وبمجرد دخولي لهذه القاعة، وادارتي نظري بين حيطانها المعلقة عليها الصور، شعرت انني انتقلت للقرن التاسع عشر، شعرت بذلك قبل ان اقترب من اللوحات وانظر اليها بدقة قلت في نفسي: هنا باريس القرن التاسع عشر، وبعد ذلك اقتربت من الصور. كنت انتظر ان ارى قليلا من الشخصية او قليلا من الزيادة على القرن التاسع عشر، ولكني فشلت.. هؤلاء فنانون من الدرجتين الثانية والثالثة يقلدون تقليدا اعمى POST-IMPRISIONSTS ضحكت كثيرا امام مناظر بغداد التي رسمها هؤلاء، لا اظن ان ياربما وزيكمونت اتوشيك راوا بغداد.. ربما كانوا في بغداد. المؤكد انهم لم يروا بغداد لانهم كانوا يضعون على انوفهم عوينات مدارس القرن التاسع عشر الافرنسية وتلك اكبر غلطة يرتكبها فنان، ان يرى من خلال نظارات يستعيرها من فنان اخر. هذه الغلطة لا يرتكبها الا فنان من الدرجة الثانية، ياخذها من فنان الدرجة الاولى ويضعها على عينه دون ان يبدل حتى زجاج عين واحدة.
وقفت امام مناظر بغداد التي رسمها ماتوشيك. حاولت بدون نتيجة ان ارى بغداد واشم ترابها واحس حرارتها، لم ار شيئا في ذلك، رايت تقليدا لسيزان، سالت نفسي، ترى لو رجع سيزان للحياة وزار بغداد هل كانت لوحاته التي يرسمها هناك تشبه هذه اللوحات الباردة.. قلت لنفسي: ترى لو رجع سيزان للحياة وزار بغداد هل كانت لوحاته التي يرسمها هناك تشبه هذه اللوحات الباردة..؟ قلت لنفسي: مستحيل لا سيزان كان من الدرجة الاولى ولا بد انه كان يعطيني في لوحاته تراب بغداد وحر بغداد وشمس بغداد.
باي طريقة ؟ لا اعرف لكن سيزان كان سيعرف وكان سيخترع الطريقة.
بعد ذلك وقفت امام مناظر فلسطين التي رسمها ماتوشيك، في هذه اللوحات رايت سيزان اوضح من لوحات بغداد لماذا؟ الجواب سهل، لان ارض العراق مستوية وارض فلسطين فيها تلال ومنحدرات ارض جبلية ورسام الدرجة الثانية ومنحدرات سيزان الافرنسية بطريقة اسهل.
بعد ان درت في المعرض لمدة غير قصيرة خرجت منه وبدأت انزل الدرج. كنت اظن انني سالاقي نساء من اللواتي رسمهن "ديكا" ورجالا ببنطلونات سود ضيقة وياقات بيض عالية وعربات تجرها الخيول مثل التي وصفها زولا ومصابيح الغاز في الشوارع لكني لم ار ذلك. في الطابق الاول من سان جورج كان القرن العشرون وليس القرن التاسع عشر الذي اتى به البولونيون للطابق الثاني".
وكان خلدون مصيبا في رسالته هذه، وكان تهكمه رائعا. ولكن جواد لم يكن مخطئا، فباتصاله بالبولونيين والتقرب اليهم ومحاولة تفهمهم كان يريد ان يتعرف الى كل شيء يقربه من ذاته. كما انه لم يحاول بمعرفة هذه ان يضع النظارات على انفه دون ان يعرف ما عساه يفعل بعد ذلك.
انها المحاولات التي تسبق الخلق لذلك فانه بعد ان درس الفن البولندي وتذوق الوانهم وطريقة وضعها لم يبق حيثما هو بل انطلق مستمرا في البحث المجرد عن كل شيء سوى الذات الخالقة التي تكمن في قرارة نفسه، فاطال التامل في السجاجيد الموصلية نسبة الى لواء الموصل في العراق والالوان والمربعات التي كانت تتراقص تحت اقدامه وسرى في كل ما كان، حتى احقرها، وتغرس في الوجوه يريد ان يتعرف الى قرارتها فلم يجد سوى اللاشيء المقرون بالالم الذي لا يشعر به صاحبه لانه قد ولد معه، وهنا بدات معالم الطريق تبرز لجواد فرسم ورسم الملهى ... فريال.. موميات في الصيف وغيرها واحسب ان الاخيرة هي من خيرة ما انتج جواد حتى ذهابه الى لندن، وهي مثال للطريقة التي توصل اليها اذ برز بها تلك الوجوه التي لم تفكر ساعة واحدة، والرجل صاحب الجراوية"، (الكوفية)، وقد ارتدى احسن ما لديه ثم الطريق الضيق البارد في هجير الصيف، وعلى الباب رسوم والوان وقد اسدلت الستارة الخفيفة التي ظهر من ورائها الحب "بكسر الحاء ـ كوب كبير للماء " كل هذا مقرون بالالوان التي استفادها جواد من جو بغداد ايام الصيف.
وقد طلب مني اخيرا ان ارسل اليه في لندن، مجلة السنراسيون ففيها صور ليحيى الواسطي، وهو في لندن قد عمل خمس عشرة صورة في ظرف ستة اشهر منها صور على الزجاج، ويشتغل الان في عمل راس تمثال للمعري.
اما النحت فحديثه طويل ايضا. اذ ان "جواد" نحات قبل كل شيء ولكني لم اتكلم عن النحت لان الجهد الذي بذله من اجله اقل مما بذله في سبيل الرسم، فما كان على جواد الا ان يتقن محاكاة الطبيعة قبل كل شيء وهذا ما فعله قبل ان يذهب الى باريس وروما، وبعد ذلك اخذ في دراسة الى باريس وروما، وبعد ذلك اخذ في دراسة الفن الاشوري والبابلي ومزج كل ذلك بالبساطة والتجارب الشخصية التي حصل عليها وخير مثال على ذلك قطعته "عمال الطرق" فوجوه العمال لا تعبر عن أي شيء فيستدل المرء من ذلك السأم والاجهاد اللذين صارا لا شيئا بالنسبة الى العامل فهو لا يفكر اثناء عمله سوى ان يفرغ كيس التراب ليملأه ثانية، او ان يستمر على تعبيد الطريق برفشه كيما ينتهي اليوم فياخذ يوميته، كل هذا اخرجه جواد ببساطة ودونما تكلف كما ان توزيع الاشخاص في القطعة وملء الفراغ بالشجيرات الصغيرة تدل على حساسية مرهفة، والعضلات القوية في السيقان، والعيون الغائرة تعيد الى الاذهان الانطباع الذي تعطيه التماثيل الاشورية.
وبعد .. فهل هذا كل شيء اعرفه عن جواد؟ انه لحديث طويل لا ينتهي.



================
(في العدد الاول من مجلة الوقت الضائع 1946 كتب نزار سليم مقالة عن الفن العراقي وشقيقه جواد سليم وانطباعاته عن اعمال الفنانين البولنديين في بغداد).
العدد الاول ـ للوقت الضائع ـ 1946



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى