قاسم مطر التميمي - في الحكاية الشعبية

الحكاية الشعبية نتاج عقول ومواهب متعددة تفرزها الاساطير والمعتقدات الخرافية، وقد تفرزها ايضاً الحروب والكوارث الطبيعية وربما ترجع في اصولها الى وقائع حقيقية تتناقلها الافواه فتضيف اليها او تحذف منها مما يجعل رواياتها متباينة من شخص الى شخص ومن جيل الى آخر
وهي -أي الحكاية الشعبية- تعتمد في انتشارها على المشافهة دون الكتابة ولا تعرف لها مبدعاً واحداً، انها من ابداع المجتمع كله، والمجتمعات المتشابهة التي يختلط بعضها بالبعض لاسباب جغرافية او تاريخية او دينية او تجارية او سياحية تنتشر فيها ايضاً حكايات شعبية متشابهة، وقد يأتي التشابه في الحكايات الشعبية نتيجة الترجمة عن الاداب الاجنبية مثل حكاية (الانتظار) التي نجد لها ما يشبهها ست الحسن العراقية التي تشبه الى حد ما حكاية في الادب الالماني حكاية (سندريلا) الاوربية. وحكاية (ماهيوال) الهندية شبيهة بحكاية (مجنون ليلى) العربية، فالعاشقان في الحكايتين ينتميان الى اسرتين كريمتين ومكانتين اجتماعيتين مرموقتين غير ان الحب اوصلهما الى حافة الجنون؛ فهذا قيس الذي حرم من محبوبته ليلى يهيم على وجهه في البرية يألف الوحش ولا يأنس للبشر، ويقول شعراً يثير الشفقة والرثاء. وذاك (ماهيوال) المهراجا الثري الذي يمتلك القصور والضياع والمزارع، يقع بحب فتاة فقيرة تبيع الجرار الفخارية في دكان قريب من قصر. وقد فتن بروعة جمالها وسحر انوثتها وعذوبة منطقها فذاب بها وجداً حتى ملكت عليه احاسيسه، ولم يكن له من سبيل للحديث معها الا ان يشتري منها جرة فخارية في كل يوم، لا بل في الصباح والظهر والعصر، يساومها على هذه او تلك ويجادلها لا لشيء الا ليسمع صوتها ويطرب لحديثها حتى امتلأ قصره بالجرار، ومع كل هذا الحب الا انه كان يتهيب مصارحتها ولم تكن الفتاة لتعلم ان هذا الرجل قد شغف بها حباً ولم تكن ايضاً معجبة به وانما كانت معجبة بزيه الفاخر وبمنديله الحريري الموشى بالخيوط الذهبية. وقد هالها يوم ان سقطت جرة من يدها فخدشت ذراعها ان يمزق المهراجا المنديل الثمين ليضمد جرحها فصاحت دون وعي منها: "لا!" وعندما رأت الدهشة على وجهه قالت على استحياء: " ما كان يجب ان تمزقه ، انه منديل ثمين". فأجابها ماهيوال مبتسماً : " فداك الف منديل مثله!".
في ذلك اليوم فقط ادركت (نرجس) ان لها في قلب هذا الرجل منزلة كبيرة لا تنافسها عليها امرأة اخرى. ولكن ماهيوال الذي ضيع امواله وضياعه وقصوره بانشغاله بهذه الفتاة لم يبق عنده سوى البدلة الفاخرة التي يرتديها المهراجات الكبار، وهذه ايضاً باعها ليشتري بثمنها الجرار، وهكذا لم يبق عنده من حطام الدنيا شيئاً. لقد خسر كل شيء ولكنه كسب في النهاية قلب الفتاة التي احبها فكان يلتقي بها عند ضفاف النهر وعند المروج الخضر ويبثها تباريح قلبه الهائم بحبها.
وطلبت منه ذات يوم ان يطعمها سمكاً، فوعدها ان يحقق لها رغبتها في اليوم التالي وقبل الموعد المتفق عليه بساعات ذهب الى النهر والقى صنارته فيه. انه بارع في صيد السمك بالصنارة ، فمنذ ان احتواه الفقر المدقع وهو يعتمد في عيشه على ما يهبه له هذا النهر المعطاء، ولكن الحظ لم يحالفه في ذلك اليوم، فلم تقترب سمكة واحدة من صنارته، غير انه لم ييأس واوقد قرب الشاطئ ناراً يغدق عليها حطباً كلما ذوى لهيبها املاً في ان يشوي عليها السمكة التي لم يصطدها بعد. واقترب الموعد، ومع اقترابه تسرب اليأس الى قلب ماهيوال فرفع بصره الى السماء مناجياً ربه (كرشنا) الذي تهطل الامطار من لحيته الكثة، قال: " يا الهي اريد سمكة من اجل نرجس...هل هذا كثير؟" ولكن كرشنا كان اطرش في ذلك اليوم فلم يسمع نداء ماهيوال ولا توسلاته. لقد خذله الهه فهل يخذل هو نرجس؟ لا، لقد ارتعش بدنه واضطربت مشاعره حالما رآها من بعيد قادمة اليه تمشي على مهل بين الاشجار.
في تلك اللحظة وصل الجنون ذروته فأمسك سكيناً واقتطع من فخذه قطعة لحم بحجم السمكة والقاها في موقد النار وعمد الى جرحه النازف فلفه بالخرق البالية التي معه، واضطجع ال جوار الموقد لا يقوى على النهوض، وجاءت نرجس لتجلس على مقربة منه، وقد انكرت عليه هذه الاضطجاعة فتعلل بالمرض ثم ما لبث ان قدم الشواء فتذوقته ومجته، قالت: "ليس هذا طعم سمك" قال: " لم يكن النهر سخياً معي هذا اليوم..كلي يا حبيبتي!".
وسألته عن ضعفه وتوجعه وشحوب وجهه، ولم تعلم ان الرجل قد فقد ثلثي دمه ولم تبق في عروقه غير الوشالة، من اين لها ان تعلم!
قال: انها وعكة ربما تنتهي قريباً والم مبرح لعله آخر الالام، اقتربي مني يا حبيبتي لامعن النظر في وجهك، وليكون آخر ما ارى قبل ان استسلم للنوم! واطبق جفنيه على صورة وجهها، وبقيت تتأمله ساعة وتبثه تباريح حبها وتترنم باغنيته التي طالما رددها على مسامعها:"دل ديه جاليه"، دل ديه جاليه، دل ديه جاليه ايسه، هاك قلبي، هاك قلبي ، هاك قلبي الى الابد".
وتنتهي حكاية الحب هذه بمشهد مأساوي: نرجس يتصاغر حجمها كلما ابتعدت عائدة الى بيتها حتى تختفي بين الاشجاروالسنة اللهب المتوقدة تخبو في الموقد ويتحول كل شيء فيه الى رماد، وماهيوال يعاني سكرات الموت حتى يلفظ آخر انفاسه ويتحول الى جثة هامدة، ثم يأتي الليل ليسدل ستارة داكنة على هذا المشهد الكئيب ثم تعود الشمس لتشرق من جديد معلنة عن نهار ليس فيه ماهيوال.
وهذه الحكاية وان كانت منافية للحقيقة موغلة في الخيال، اذ ما يكاد المرء يطلع على تفاصيلها حتى يحكم بمجانبتها للمنطق الا انها تجسد امام القارئ صورة رائعة للحب العذري الرائع وللوفاء بأجمل مظاهره واحلى صوره، وهكذا هي الحكاية الشعبية دائماً لا تروى الا لتعزيز قيمة اخلاقية.
ومن الحكايات الشعبية العراقية (عربياً وكردياً) حكاية (خربازه) تلك المرأة النزقة الثرثارة التي اوصلت زوجها الى حافة الياس فحملها ذات يوم والقاها في غيابة بئر عميقة ثم شعر بالعطف عليها في اليوم التالي فذهب الى البئر ورمى اليها بحبل لينقذها ولكنه انقذ رجلاً من الجن كادت خزبازه ان تجننه! وابدى الجني امتناناً كبيراً لزوج خزبازه ووعده بمكافأة لا يحلم بها ...الى آخر الحكاية.
والحكايات الشعبية الوانها مختلفة وصيغها متباينة ومع اختلاف الوانها تختلف اغراضها كما تختلف الميادين التي تخوض فيها. ومن هذه الميادين: "الحب والكره، والشجاعة والجبن، والوفاء والغدر، والخيانة والامانة، والذكاء والبلادة، وحب الناس والخير والعمل، وغالباً ما تقف الحكاية الشعبية ضد الصفات الرديئة غير المستحبة كالتمويه والخداع والادعاء والغرور والعجرفة والكسل والطفيلية والغش والطمع والتكبر وعدم احترام المرأة والطفل والاخرين".
والحكايات الشعبية كثيراً ما كانت تروى في ليالي الشتاء الباردة حول مواقد النار، يستمع اليها الصغار والكبار، وغالباً ما تضطلع بمهمة الرواية للصغار النساء العجائز اللاتي تتميز رواياتهن بالصور الغريبة الموغلة في الخيال التي لا تخلو من مشاهد مخيفة مفزعة، يتعمدن فيها اخافة الصغار لمنعهم من اللعب والعبث والسهر فيلجأون الى اسرتهم ويدفنون رؤوسهم تحت اغطية سميكة طلباً للامان.
اما مجالس الكبار فيتصدرها (القصة-خون) الذي يروي الحكايات الطويلة المنمقة والمطعمة بالشعر الغنائي والكلام المسجوع، وهي اساطير تدور في الغالب حول شخصيات حقيقية معروفة في التاريخ، واشهر هذه الحكايات؛ (المياسة والمقداد) و (عنتر وعبلة) و (ابو زيد الهلالي) و (الحسن الصائغ البصري) و (الشاطر حسن) و (بئر ذات العلم). ومعظم هذه الحكايات قد انتقلت من المشافهة الى التدوين فصدرت في كتيبات صغيرة يقرأها انصاف المتعلمين، وكان لها قبل نصف قرن حضور وانتشار وتحتل واجهة المكتبات والاكشاك، اما اليوم فلا يكاد يراها احد ولا يعثر عليها حتى وان بحث عنها، وربما كان لهذه الكتيبات اسهام مؤثر في نشوء القصة وتطورها في بلادنا، وان كان الراي السائد يعزو الفضل كله الى ما نقل الينا من الاداب الاجنبية. وقد قيل ان القصة بمفهومها الحديث في امريكا بدأت عند (ناثانيل هورثون) Nathaniel Hathorne في مجموعته Twice told Tales أي الحكايات المعاد سردها.
وتبدأ الحكاية الشعبية عادة بقول 0القصة-خون): " كان ما كان، كان في قديم الزمان" او: " كان ما كان، كان في سالف العصر والاوان" ومن عبارات الافتتاح ايضاً؛ "جان ما جان الله ينصر السلطان" اما اذا كان (القصة-خون) من اعداء السلطان والحكم العثماني انذاك فإنه يبدل كلمة (ينصر) بـ (يصلخ) فتكون العبارة: "جان ما جان الله يصلخ السلطان". ومن عبارات الاستهلال التي تسعملها النساء: " يا عاشقين النبي صلوا عليه!".
وتختم الحكاية الشعبية عادة بعبارة: "وتعيشون وتسلمون"، او : "لو بيتنا قريب جان جبتلكم طبق حمص وطبق زبيب".
اما اذا آلت احداث الحكاية الى زواج الحبيب من حبيبته، فان ختم الحكاية غالباً ما يكون بعبارة: " وعاشوا بثبات ونبات وخلفوا صبياناً وبنات".

الهوامش:

1- كاظم سعد الدين-مجلة (المثقف) العدد 30/ 1962 .
2- القصة- خون: فارسية تعني (رواية القصة) ومثلها (روزا -خون) أي (راوية التاريخ) وتطلق عادة على رواة مقتل الامام الحسين (ع) في كربلاء.


قاسم مطر التميمي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى