غسان كاظم - صنعة الادب الغامضة

نقرا بين الحين والاخر مقالات لبعض الادباء المشهورين، من عباقرة الادب في العالم، تحمل بين ثناياها بوحا وتصريحات عن اسرار الكتابة الادبية، وعن عاداتهم وتجاربهم وآرائهم في التجديد، تلك المهنة التي يصفها بعضهم بانها شاقة وسيئة، لكنها محببة للمتعة التي فيها لان في (الفن قدراً من روح اللعب عند الإنسان، وان الفنان حتى وهو غارق بفنه في اصعب القضايا الاجتماعية، يجد ما يشبه لذة الطفل وهو يمارس لعبة ولعل القارئ او الاديب يجد في المقابلات بعض الفائدة في محاولة تفسير ظاهرة الابداع والكتابة الادبية، الا انها في نهاية المطاف تمثل تجارب فردية، لكل واحد قوانينه وعوالمه الخاصة ومشروعه ورسالته، لا ينبغي اللجوء الى محاكاتها، او اتباع خطوات هذا الكاتب او ذاك، وذلك لكون الكتابة ممارسة فردية وهواية خاصة، كمن يقوم برحلة استكشافية يقرر مسارها ويخوض مخاطرها بنفسه، وعلى الرغم من ذلك لا تخلو قراءة هذه التجارب من فائدة ومتعة، وربما تشكل حافزاً للاديب في تأمله لاراء وعادات الكتابة لدى هذه النخبة للوقوف على دقائق المهنة وفي التعرف على الطرق والأساليب والتقنيات التي يستخدمونها في ابداعاتهم الروائية والقصصية ومما لا شك فيه ان جميع الكتاب يعملون بطرق مختلفة، فمن الصعب ان نفكر كيف ابدع دستويفسكي رواية الابله في ثلاثة اشهر وهو في المنفى ونتمكن من تفسير براعة ماركيز الادبية فالفن لعبة غامضة كتبت حولها المؤلفات الكثيرة، وبقيت تحيطها الاسرار والالغاز (ولفت حولها مدارس البحث تدور في محاولة لا تنتهي لتفسير ظاهرة الابداع عند الانسان ابتداء من العصور القديمة حتى الان). فالكتابة تمثل خلاصة تجربة الكاتب بما فيها من نزعات ودوافع ذاتية محضة تتعلق بالبنية النفسية والتكوين السيكولوجي والشخصي للكاتب، لذلك تبدو الاعمال الخلاقة وكأنها تكوينات سحرية يضعها الاديب، ويزداد الاقبال عليها كلما احكم مؤلفها الصنعة واظهر مهارته في بناء المعمار الفني (حيث تتحد ذاته بعناصر عمله الفني ويعيد تركيب الاشياء والعناصر في علاقات جديدة ويضفي عليها معاني ووظائف جديدة)، وان الفنان كائن (يخلق خيالاً ويصدقه ويدعو الآخرين الى تصديقه) خاصة عند توفر عنصري الصدق الفني والموضوعي، مما يصدق كينونة بطل رواية (العطر) التي ما انفكت تثير الجدل منذ صدورها، ولا نملك الا ان نواجهها بالشك والاستغراب، ولا نستطيع ان نمنع انفسنا بعدم التصديق، او ربما كراهية هذا الشاذ الذي اطلقه المؤلف بيننا فجعلنا ننشغل بحكايته الغريبة ببراعة فائقة، هذه الشخصية التي امتلكت خلق الجدل الواسع بشأنها لكنها مع كل ما قيل حولها ظلت حقيقة حية ابتدعها الكاتب، بما تبدو للقارئ كونها مسلية او شريرة او مشوهة، لكن لا مفر لنا من القول من انها شخصية مثيرة نتطلع البها برهبة او متعة او مقت ولا نشك بوجودها او بحيويتها ابداً فضلاً عن قدرتها في اجتذابنا واغوائنا اى ملاحقتها حتى النهاية بفضول كبير لا يمكن انكاره وهذا هو الابداع بذاته وللكتاب سبل مختلفة، وطرائف متباينة في المعالجة، والتكنيك الفنيين فالروائي ترومان كابوت دائماً تشغله التقنية والمعمار، وان اكثر طموحه الذي يسعى الى تحقيقه يدور حول الشكل اذ يقول (انني دائماً امتلك الصورة الخادعة، ان اللعبة الكاملة للقصة ببدايتها ووسطها ونهايتها، تحدث في فكري، في وقت واحد، أي اني اراها لي ومضة واحدة، وهو يحاول ان يعرف نهاية القصة قبل كتابة اول كلمة فيها، وهو لا يبدأ الكتابة، حتى يتأمل القصة مدة طويلة، وعلى نقيض كابوت يعمل الروائي جورج سيمون على كتابة الملاحظات قبل شروعه في العمل الادبي، التي تتضمن اسماء الشخصيات واعمارهم وعوائلهم، يقول ولا اعرف شيئاً عن الاحداث التي ستحدث لهم فيما بعد، والا فلن يكون الامر ممتعاً لي (ويرى هنري جيمس ان الكاتب الدرامي ككاتب القصة القصيرة لا بد ان يعرف اين يذهب وكيف يصل الى هناك مشهداً بعد مشهد) بينما يعمل كثير من الادباء بمعونة ملفات تحمل وثائق ومعلومات وخرائط، قبل الشروع والمضي في العمل الابداعي، ومن ناحية اخرى يبدي مورياك رأياً آخر بان الشخصيات الاكثر غموضاً وتناقضاً اغلب الروائيين يشبهون رؤساء الحملات الاستكشافية، انهم يعرفون من هم رفاقهم، ويظلون يتعلمون عنهم اكثر، ويعرفون اية منطقة سيعبرون في اليوم الاول، او الاسبوع التالي، انهم يعرفون الهدف العام لرحلتهم الاستكشافية والجبل الذي يحاولون الوصول اليه، والنهر الذي يحاولون استكشاف منبعه ولكنهم لا يعرفون بالضبط اين طريقهم، وما المخاطر التي تعترضهم فيه، وكيف يتصرف رفاقهم عندما يدفعون الى اقصى حد انهم لا يعرفون فيما اذا كانت القارة التي يحاولون رسم خريطتها موجودة فعلاً ام انها من تصوراتهم فقط، وتظل الكتابة في النهاية صنعة، لا تكتسب بقراءة عشرات الكتب التي تتحدث عن جماليات الادب، والبراعات الفنية، ولا يكون الاديب اديباً الا بالفطرة او لا يكون! ولكننا لا يمكن ان ننكر دور القراءة في صقل المواهب واتقان العمل الفني وابتكار الاساليب والاشكال وادوات الكتابة ولا يخفى ان عظام الادباء الخالدين، هل هو ميروس واسيخلوس وسوفيكلس وشعراء المعلقات وشكسبير نفسه، برغم اطلاعه على تاريخ بلوتارك كما قيل، هؤلاء وامثالهم لم يقرأوا لكي يكتبوا، كما يفعل معظمنا اليوم، بل كانت تكفيهم الفكرة او الحكاية او الحادثة، وربما الكلمة، لتشعل عبقريتهم الطبيعية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى