د. زهير الخويلدي - هل من ضرورة للتواصل اليوم؟

استهلال
لكي تستعد الفلسفة لمواجهة تحديات عصرها تحتاج اليوم إلى الاهتمام بالتفكير في تجربتين أساسيتين مرتبطتين بالوضع الإنساني ألا وهما تجربة الوجود في العالم تأويلا لرموزه وفهما لأحداثه وتجربة العلاقة بالآخر اعترافا بغيريته واحتراما لخصوصيته, وتلتزم بالتطرق لمبحث التواصل من أجل الكشف عن هذا التوتر القائم على الصعيد الاجتماعي والوجودي بين تجربة فهم العالم الفنومنولوجية وتجربة الإحساس بالآخر الاتيقية. إن هاتين التجربتين تطرحان نفسيهما كمبحث جوهري للتفكير المعاصر له راهنية مخصوصة وتعزز الحياة السياسية والتكنولوجية هذه المكانة الجوهرية للتواصل عندما تظهر لنا أن السؤال عن مكانة الآخر في فعلنا يكاد يمحي من الفكر وأن لغتنا تعاني من إفقار رهيب يجعلها تبدو عاجزة عن التعبير عن ذكرياتنا الماضية وانتظاراتنا المستقبلية واهتماماتنا الحاضرة.
غير أن الإقرار بأن التواصل اليوم يمثل ضرورة ملحة يمثل مفارقة بما أننا نعيش حالة من اللاتواصل والنزعات المستمرة والحروب المتناسلة بين الدول ويطرح العديد من الإشكاليات لا أظن أن الفكر المعاصر قادر على معالجتها ما لم يدقق ويحقق في مثل هذه الأسئلة: كيف يمكن ضبط مفهوم التواصل؟ هل أن التواصل من البديهيات أم من الضروريات؟ إن كان من الضروريات فماهي معانيه ودلالاته؟ أليس اللاتواصل هو الشكل اليومي للتواصل؟ وماهي شروطه وآدابه؟ وهل تعد الوسائط الرمزية واحدة من هذه الشروط؟ وإلى أي مدى تتوقف العملية التواصلية على وساطة الأنظمة الرمزية؟ هل هناك طرق مباشرة للتواصل بين الإنسي ونفسه والآخر والعالم؟ ألا تتبنى الفلسفة المعاصرة في نسختها الابستيمولوجية استراتيجيا القطائع والانكسارات واللاتواصل؟ ما السبيل إلى بناء عقلانية تواصلية نقدية؟
إن ما نراهن عليه عندما نعالج مثل هذا المشكل الفلسفي هو تفادي الاغتراب الاجتماعي والتمركز الثقافي والعمل على الوصول إلى درجة من اليقظة والحضور والالتقاء بالعالم وبالأغيار.
1- - التواصل في حد ذاته:
"التواصل يقابله المصطلح الأجنبي continuité وهو يعني فيما يعنيالاستمرارية ويتضمن مفهوما آخر يتلامس معه وهو مفهوم الاتصال communication ...والشيء ذاته بالنسبة لمصطلح اللاتواصل discontinuité والذي يعني الانقطاع والانفصال معا..." التواصل هو مفهوم مزعج وفضفاض نعثر عليه في كل مكان وتؤمنه العديد من الوسائل والتقنيات وهذا ما يجعله مفهوما بالغ الأهمية والجاذبية مختلط ابمفهوم الاتصال، فهل تعني هذه التداولية للمفهوم أننا نحتاجه ضرورة اليوم؟
على الرغم من أن مجموعة كبيرة من الفلاسفة انتقدوه بشدة ورفضوه أحيانا فانه يطفو مجددا على السطح ويفرض نفسه على الجميع كعملة ينبغي تداولها. إن التواصل أمر جيد وقيمة كونية تفتقت عنه الأذهان ودنت منه القلوب ومالت إليه الأجساد وهو قد غزى ميدان السياسة بعد أن ترعرع في مجال الاقتصاد،كما أضافته الثقافة إلى مهامها الأخرى وتحول الكون إلى وكالة عالمية للتواصل. بيد أن تكاثر الإقبال على التواصل وسهولة الاستعمال وسائل الاتصال أخفى دلالة هذه القيمة وحجب معانيها، فما المقصود بكلمة التواصل؟
إذا ما أردنا تحديد لفظ التواصل فينبغي أن ننظم الحقل الدلالي الشاسع الذي يغطيه وتتبع مساراته المتعرجة في ثلاثة لغات هي العربية والفرنسية والانجليزية. إذا انطلقنا أولا من لغة الضاد فإننا نجد كلمة "وصل" تشير إلى العلاقة بين اثنين أو بين نقطتين أو بين حالتين إنسانيتين ( الوصل والهجر في لغة العاشقين) ويدل على خلق الروابط الإنسانية بين الناس. منجهة أخرى نعثر على كلمة "بلغ" والتي تتضمن شحنة دلالية قوية وتفيد البلاغ والتبليغ والدعوة والتبشير والدعاية والإرجاع. لقد جاء في لسان العرب ما يلي:" وصل: وصلت الشيء وصلا وصلة، والوصل ضد الهجران، الوصل هو خلاف الفصل، وصل الشيء بالشيء يصله وصلا وصلة... ونجد كذلك بلغ الشيء بلوغا وبلاغا وصل وانتهى وأبلغه هو إبلاغا وبلغ تبليغا ويبلغ بالشيء أي وصل إلى مراده وبلغ مبلغ فلان ومبلغته والبلاغ ما بلغك .وقد جاء في القرآن الكريم:"هذا بلاغ للناس ولينذروا به" والبلوغ هو وقت الكتاب على الإنسان والتكليف وإذ بلغ أجلهن أي قاربته وبلغ النبت أي انتهي." إن فعل تواصل والاسم تواصل قد ظهرا أول مرة في اللغة الفرنسية في النصف الثاني من القرن 14 وكانا يعنيان "المشاركة في" وكانا قريبان من الفعل اللاتيني communicare الذي يفيد "الجمع بين الأشياء" و"وضع الأشياء ضمن علاقة" ، غير أن القرن 16 قام بالتقريب بين كلمتي communiquer و communication من كلمة communier و communion والتي تعني الملكية الجماعية وهذا المعنى ثبته قاموس littré بمعنى "الاقتسام مع اثنين أوأكثر" ويقال تقاسم خيرا ما أي اشتركا في إثبات صحته. وقد ترتب عن ذلك إفادة كلمة communiquer معنى النقل أي انتقل من الجزئي إلى الكلي ومن الكلي إلى الجزئي وتصبح وسائل النقل وسائل اتصال. أما اللغة الانجليزية فنعثر فيها منذ القرن 15 على الجذر communis الذي يدل على فعل التقاسم و"وضع جنبا إلى جنب" وفي القرن 17 ستصبح كلمة communication تدل على الوسيلة التي تمكننا من الجمع بين الأشياء ضمن الإطار الواحد. في هذا السياق ستنتشر وسائل الاتصال الحديثة بداية من وسائل النقل في القرن 18 وتزداد الطرق والقنوات البحرية والمسالك الحديدية والموانئ البحرية وسترتبط تسمية التواصل منذ 1950 بالصحافة والسينما والإذاعة والتليفزيون. إذا رجعنا الآن إلى معجم روبرت الكبير فإننا نعثر على تعريف جديد ينضاف إلى التعريفات الأربعة السابقة:"
- معنى جديد يرتبط بالانتظام والتواصل ويعني كل علاقة ديناميكية ضمن حركية ما".
اللافت للنظر أن هيدجر هو الذي عبر عن المعنى الأنطولوجي لكلمة تواصل بقوله:" ينبغي فهم ظاهرة التواصل في معنى واسع وأنطولوجي فالقول الذي يسمح مثلا بنشر "بلاغ" أو بإعلان صحيفة إخبارية ليس إلا حالة خاصة من حالات التواصل في معناه العام...فهو يحسن المشاركة في الشعور العام بالوضعية وفي فهم الوجود مع الآخرين. فليس من مهمة التواصل نقل انطباعات وآراء وأماني سريرة ذات أخرى. إن التواجد في جوهره يكون منذ البدء دوما وسلفا جليا في الشعور العام بالوضعية وفي الفهم المشترك والوجود مع الآخر في الخطاب، ويكون متقاسما صراحة غير أنه موجود سلفا والحال أنه لم يدرك بعد ولم يرفع إلى مستوى الامتلاك ما دام لم يعرض بعد للتقاسم". هذه معاني التواصل فما هي شروطه ومناهجه وآدابه؟
2- - شروط التواصل وآدابه:
"لو انطلقنا مثلا من مفهوم عام للتواصل ينظر إليه على أنه نقل عادي للأخبار بواسطة ميكانزمات معينة فان هذا المعنى لا يعبر تعبيرا حقيقيا عن مفهوم التواصل كما نود تحليله من حيث انه فعل بل مجموعة من الأفعال( المعرفية- الاجتماعية) تستند إلى خطاطات أفعال بواسطة سنن أو رموز يتم التفاهم من خلالها شفاها أو كتابة كما يرى زيكفريد, ج, سكميث" . ما يلفت النظر أن التواصل انتقل الآن من العلاقات البشرية إلى العلاقات الاجتماعية العامة ومن مجال المشاعر والأفكار إلى دنيا الدعاية والإشهار ومن قطاع الخدمات والتجارة إلى التقنية والصناعة وبالتالي صار لباس الناس ومقامهم وهكذا لم يعد تواصلا بديهيا طبيعيا ولا حاجة طبيعة بل أصبح ضرورة اجتماعية وإلزاما ثقافية ينخرط فيه كل كائن ويزاوله كل مجتمع وتفتح به كل ثقافة نوافذها وأبوابها على الوافد والمغاير من أجل أن تتحقق الانية على مرآة الغيرية. كما يقول جان كلود مارتان: "إن وجودنا على الأرض وحده كاف لأن يفرض علينا الانخراط ضمن عجلة التواصل كيفما كانت طبيعته اختيارية أم مفروضة". ويقصد بذلك أن التواصل يعتمد على أساليب ضمنية ومعطاة سلفا مثل الحركة الطبيعية والسلوك الجسدي واللغة الشفوية واللغة المكتوبة والمشهد المصور والفكرة الناظمة. وتؤمن الأنظمة الرمزية العملية التواصلية من الحركة الطبيعية كالإشارة والإيماءة مرورا بالخطاب الشفوي والرسالة المكتوبة وصولا إلى الصورة المرسومة والرقمية والمشهد المرئي. زد على ذلك يقول جان كلود مارتان:" في البدء كانت الإيماءة فقبل أن يستعمل الإنسان اللغة استطاع أن يوصل تجاربه عن طريقها". إن أشكال التواصل تتوزع بين الحكاية والأسطورة والسحر والدين واللغة والعلم والتقنية والفن والفلسفة والثقافة ويؤمنها الخيال والحواس والذاكرة والوجدان والإدراك والعقل ويلعب فيها اللاوعي دورا فاعلا وكذلك المدنس والبدئي والأعياد الشعبية والطقوس المشتركة. لكن هل تخضع العملية التواصلية إلى جملة من القواعد والشروط؟
تتطلب العملية التواصلية إقامة روابط وعلاقات ومد جسور وبناء التقاءات وتقتضي من أجل هذا توفر قواعد ومنظومات بصيغة الجمع لا بصيغة المفرد لاسيما وأن العلاقة التواصلية متعددة العناصر ومتكثرة المداخل والمخارج ومتنوعة الأسباب والنتائج و الدواعي والتأثيرات. إن أشهر الوسائط وأكثرها تداولا هو الكلام الذي يتضمن رسالة مشفرة ينبغي تبليغها من باث إلى متقبل عبر قناة وتتطلب التوافق في القواعد والسنن لفهم مضمون هذه الرسالة لأنه" كلما تطابقت سنن تواصلنا مع سنن المخاطب كلما كللت الإرسالية بنجاح". لقد اكتشف الإنسان اللغة فكانت الكلمات وكان الكلام والقول والخطاب والرسالة بحيث لا معنى للكلمات لا ما يلصقها الناس من دلالات ونوايا وأهداف وماتحيل إلى مرجع وإحداثية وواقع وحدث ألم يقل بيير شوفالييه: "عندما نتكلم تكون نبرتنا انعكاسا لنوايانا". لكن ماهي أنواع التواصلات؟ وأيها أفضل في تحقيق إنسانية الإنسان؟
3- - أنطولوجيا التواصل:
" إننا لا نسكن لأننا قمنا ببناء ما ، لكننا نبني وبنينا لكي نسكن بمعنى آخر إننا نحن الإسكان، وإننا هكذا على ما نحن عليه، ففيم يتمثل فعل الإسكان إذن؟، لكي نجيب على هذا السؤال علينا أن ننصت من جديد إلى خطاب اللغة" . إذا كان التواصل هو السعي الدؤوب إلى تشييد صلات بيذاتية وإقامة علاقات بين الأشخاص فلان أجهزة الاتصال تلعب دورا مخالفا لهذه العملية وتسبب الانفصال والاغتراب وهذا غير بديهي وغير طبيعي وهو على غاية من الإشكال والتعقيد ويجعلنا نعود إلى شاعرية الكلام الحي ودفء اللغة الصامتة وحلم الحكاية. إذا كان التواصل يعني التقاسم والاشتراك في المعلومات التي نبثها وننقلها وننظمها ونتلقاها ونفك رموزها فان الكائنات البشرية تتفاعل وتترابط بشكل معقد وشائك ويمكن أن نذكر منها العديد من الأنماط:
النوع الأول هو التواصل الخارجي وهو إيجاد تأثير مؤقت وتأثر عرضي في المتقبل ويظهر خاصة في لحظة الاستهلاك والانبهار والانخداع والاستقطاب والتجييش والتحشيد وهو تواصل أداتي يعامل فيه الأنا الآخر كوسيلة ولا كغاية في حد ذاته وكبضاعة ومادة ورقم وليس كذات لها كرامة وكشخص له حرية.
النوع الثاني هو التواصل الداخلي بوصفه التواصل الأصيل وهو مرتبط بالاستمالة التفاعلية بين الطرفين ومحكوم بآداب وسيرورات تفاعلية تجعل الجميع يتقاسمون الفضاء العمومي بشكل متساو وأفقي ويتأقلمون مع كل الظروف والوضعيات الخاصة ويتفقون على الاحتكام إلى لعبة ينظمون قواعدها حسب مصالحهم أي انه اقتران فعل التفكير بفعل الإسكان وارتباط فعل الإسكان بفعل البناء وانفتاح هذا الأخير على فحوى الكلام وتعلم الإنصات إلى الشعري في الخطاب.
"إن أنطولوجيا التواصل عند هيدجر في اعتقادنا تمارس الفهم ومن ثمة التأويل بالتوازي مع بحثها عن حقائق الأشياء ذاتها...هذا الدازاين هو المادة الأولية لفلسفة الكينونة وانطلاقا من مجموع الصفات التي لا تنجلي حقيقة الكائن إلا من خلالها وأهمها تواصله مع الآخر المشارك له في الكينونة وتواصله (مع) العالم الذي يوجد فيه بأشيائه المختلفة، وهو ما نسميه التواصل الخارجي، بالإضافة إلى التواصل الداخلي الذي يكون بينه وبين همه وقلقه وموته..."

هذا التواصل الأصيل مبني على التأويل والتفسير والتوضيح والفهم والتعاطف والتعايش ويقتضى العودة إلى فضيلة الحذر وممارسة الحيطة والكيس والحصافة والتعقل وخاصة عندما يكون المطلوب هو تحقيق درجة عالية من التواصل والكف عن التمركز عن الذات والثرثرة والكلام وتعلم الإنصات والصمت وكما يقول فيغارو في حلاق اشبيليا: "إن الإنصات هو أحسن طريقة للاستماع الجيد" والمقصود أن الإصغاء التفهمي هو الضمانة الحقيقية لتواصل جيد بين الباث والمتقبل ويترك مساحة زمنية بين لحظة النداء ووقت الاستجابة، أليس التواصل الأصيل هو في نهاية المطاف تلبية يومية لصوت وجودي؟ فهل نكون قادرين من خلال التواصل مع أنفسنا والعالم والغير على قضاء الدين الذي فرقنا عن مصدرنا؟
4- - من أجل عقلانية تواصلية نقدية :

" تتمثل مهمة الفلسفة الأكثر نبلا، في نظري، في إقامة تعارض بين قوة التفكير النقدي الراديكالي وكل شكل للموضوعانية أي في مقاومة كل استقلالية ايديولوجية وهمية وبالتالي تفيد منها النظريات والمؤسسات إزاء السياقات العملية التي تنبثق منها وتطبق فيها" .

يكشف هابرماس عن الطابع الإشكالي للعلاقة بين الاتصال والتواصل ويرفض الخلط الشائع بين الإنسان ككائن اتصالي وككائن تواصلي ويفرد الإنسان بخاصية الوعي والإرادة والتعقل التي تحاول آليات الاتصال في مجال الإعلام والدعاية القضاء عليها ويؤكد في كتابه: "نظرية الفعل التواصلي" أن الفلسفة الغربية بأسرها قامت على مبدأ التواصل بين العقل والعالم والاستمرارية بين مختلف المعارف والرؤى وليس الانفصال والقطيعة ويفهم الحداثة كايمان بالطبيعة والإنسان والعقل على أنها محصلة تحقيق نظرية العقلانية التواصلية على أنقاض العقلانية الأداتية وينظر إلى التواصل على أنه "تغلغل عبرالذاكرة وعبر التاريخ بما يفيد في بلوغ الآفاق الأبعد" للثقافة والمجتمع.

إن التواصل عند هابرماس "ليس إلا الإستراتيجية الخفية للمدارس الفلسفية في سعيها الدؤوب لبلوغ العقلانية، لأنها جهد النظرية التواصلية لتحقيق ذاتها وما ذاتها هذه سوى المشروع الثقافي للحضارة الغربية الذي بدأ في التبلور منذ صدمة الحداثة الأولى، وما المذاهب الفلسفية المختلفة انتاجاتها وإبداعاتها في مستوى النظرية حينا والممارسة أحيانا أخرى سوى تلك المحاولات المنتظمة لتحقيق الشكل الأمثل للتواصل بينها..." يتبنى هابرماس خيار المناهج المتعددة ويدعو إلى قيام تحالف بين العلماء والمختصين وبين رجال السياسة والاقتصاد من أجل الاتفاق على بناء الحقيقة المجتمعية وترشيد الفضاء العمومي وتضافر الحياة النظرية والحياة العملية عبر توافق سياسي ضمن مؤسسات ديمقراطية، إذ نجده يصرح في هذا السياق:" إن التواصل بين أولئك الذين يمنحون المهمات العلمية وهم مخولون سياسيا وبينالعلماء المؤهلين اختصاصيا في معاهد البحوث الكبرى هو الذي يميز المنطقة الحدية لترجمة الأسئلة العملية إلى مسائل مطروحة علميا وكذلك للترجمة الراجعة لمعلومات علمية في إجابات عن أسئلة عملية."

يفعل هابرماس النقد في بنائه لنظريته التواصلية ويبحث عن شروط قانونية وسياسية واجتماعية للتواصل بين الأفراد والجماعات ويحرص على ربط جسورالتواصل بين العالم الموضوعي والعالم الذاتي والعالم الاجتماعي وذلك بإيجاد ميكانزمات تعاون بين المعرفة والمصلحة السياسية وتفصل بين التقنية والايدولوجيا، ونراه يقول حول هذا الموضوع: "في الوقت الذي تم فيه التواصل بين خبراء معاهد البحوث الكبرى وبين السياسيين الذين يمنحون المهمات على صعيد مشروعات مفردة في إطار مجال مشكلات متعينة موضوعيا وفي الوقت الذي يبقى فيه النقاش بين العلماء الاستشاريين وبين الدولة مرتبطا بحالة الأوضاع المعطاة وبالقدرة المتاحة -يكون النقاش بين العلماء والسياسيين عند هذه المهمة الثالثة من برمجة التطور الاجتماعي الكلي محررا من تصادمات مشكلات محددة..."

الفاعلية النقدية عند هابرماس هي سلاح موجه ضد الحقيقة التقليدية وضد النزعة الوضعية والماركسية الدوغمائية وهي استعادة للمنزع التواصلي الذي كان موجودا بين الفكر والوجود وبين النظر والعمل وبين الوسائل والغايات وبين المعرفة والمصلحة، في هذا السياق يقول: "يهاجم التفكير النقدي في وقت واحد إطلاقية فلسفة الأصل والنظرية المحضة والفهم العلموي الذي يمكن أن تمتلكه العلوم بذاتها وكذلك الوعي التكنوقراطي لنظام سياسي منفصل عن تأصلاته العملية. هذا التفكير النقدي يمثل الدائرة التي تعد فيها وحدة العقل النظري والعملي. فهو العنصر الوحيد الذي يمكن أن تتشكل داخله اليوم هوية المجتمع وأفراده – بشرط ألا نتراجع إلى المرحلة السالفة للهويات الخصوصيةParticularistes ..."
التواصل الاتيقي عند هابرماس هو الحل استكمال مشروع الحداثة ولإنقاذ مستقبل الحياة على الأرض بشرط السماح بالمشاركة الواعية للنوع البشري في مثل هذا الحل وذلك وإعادة تملك للعلوم قصد تمكينها من الاستفادة من بعضها البعض في عملية تفهم ذاتي واسعة وبإعادة تكوين للثقافة الإنسانية على نحو نقدي تواصلي، في هذا الإطار يصرح: "إن النوع البشري يستطيع أن يعيد إنتاج ذاته في نمط حياته الثقافي الاجتماعي بامتياز فقط عبر الفكرة غير الطبيعية للحقيقة بمعنى الإمكانية المعترف بها للتفهم الكلي ضد ما هو فعلي...إن التناقض بين جماعة تواصل واقعية وبين جماعة مضفاة عليها المثالية ليس مترسخا في المحاججة وإنما في براكسيس الحياة للمنظومات الاجتماعية..."
خاتمة:
" التواصل هو العملية التي توجد بواسطتها العلاقات الإنسانية وتتطور..." تشارلز كولي
هذه كانت محاولة نقدية حول بعض النظريات المعاصرة حول التواصل قصد تتبع مصادر انبثاقه وأشكال حضوره في الحقول المعرفية المجاورة وبغية الكشف عن العلاقات القائمة والممكنة بين اللغة والفكر الفلسفي والواقع المعاش والسياق الاجتماعي. إن البعد الواقعي للتواصل لا يتطلب التأسيس النظري بل يرتبط بانطباعية اللقاء ويظهر في تجارب التعاطف الوجداني والمعايشة النفسية والتخيل. إن الرغبة في التواصل هي فعل يتأسس أولا وقبل كل شيء على الفهم والإحساس بالآخر في إطار تصوري موضوعي للعلاقات البشرية لا يكتفي بالتركيز على البعد الاقتصادي الاجتماعي بل يتعدى ذلك نحو الكشف عما في هذه العلاقات من معنى وجود ونمط حياة بالمعنى العميق والكوني للكلمة. إن التواصل وإن كان ينطلق من إستراتيجية تحقيق الانية والتأثير في الغيرية إلا أنه يهدف في العمق إلى تكوين فضاء عمومي يكون بمثابة مسطح تنبني فوقه العلاقات القائمة على الاختلاف والحوار وسيادة روح الديمقراطية والتسامح. من هذا المنطلق تدعو الفلسفة المعاصرة خاصة مع هابرماس وأبل وراولز وتايلور إلى تشييد نموذج آخر للتواصل يعوض التعاقد Contratالاجتماعي الكلاسيكي بين الفرد والمجتمع بتوافقConsensus تبلوره المناقشة العامة عبرالمداولة الحرة بين جميع أفراد المجتمع بهدف تجسيد المواطنة الديمقراطية التي تسمح بخلق علاقة تشاورية تشكل أرقى مستوى من الديمقراطية التمثيلية وبإعادة الاعتبار إلى الذات الفاعلة في الفضاء العمومي والمشاركة بايجابية في الشأن العام. بيد أن "التواصل في مجتمع برجوازي معولم يتعثر بسبب المؤسسات المحافظة والعلاقات النزاعية بين الطبقات وبالتالي ينبغي أن يكون العمل الاجتماعي ثوريا..." لكن إذا كان الواقع المعاش لا يحتمل إنجاز الحلم الثوري كما تنظر فلسفة ماركس ألا ينبغي أن نبدأ في تطوير جذري لحقل التواصل بين البشر ونوفر معطيات يمكن تبليغها للآخرين رغم الحواجز والتحفظات البيروقراطية؟
المراجع:
عمر مهيبل، إشكالية التواصل في الفلسفة الغربية المعاصرة، منشورات الاختلاف الجزائر، الطبعة الأولى 2005
يورغن هابرماس، بعد ماركس، ترجمة محمد ميلاد، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2002،
يورغن هابرماس، العلم والتقنية كايديولوجيا، ترجمة حسن صقر، منشورات دار الجمل، كولونيا، ألمانيا 2003،
يورغن هابرماس، المعرفة والمصلحة، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا 2001،
M. Heidegger, Etre et Temps, trad par f.Vesin, editions Gallimard,Paris, 1986.
M. Heidegger, Essais et conférences, Tad par André Préau, Editions Gallimard, Paris, 1958
R . Sherer, Philosophies de la communication, Editions Sedes , Paris 1971

كاتب فلسفي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى