خالد جهاد - عناق الظلال

في احدى الليالي منذ بضع سنوات بينما كنت وحيداً في مناوبة ليلية في عملي، وسط أجواءٍ يسودها الهدوء والضجر والكثير من التفكير، كنت كعادتي شارد الذهن فأنا أشرد كثيراً وعندما يتملكني الوجع أفتح مجلداتٍ أنشئتها على هاتفي وجمعت فيها الكثير من صور الحيوانات والنباتات لأشعر ببعض التحسن..
فأشعر بالإسترخاء وكثيراً ما أبتسم أو أضحك رغماً عني، أو أضحك بينما تتراقص الدموع في عيني، فالليل هو مسرح الشجن بالنسبة لي وللكثيرين..
كنت أسمع خطوات المارين من الزملاء والتي اعتدت عليها تشق صمت الليل، أحياناً نتبادل التحية وأحياناً نبتسم لبعضنا بصمت، وأحياناً نتحدث..

وذات مرة وسط صمتٍ موحش أخبرتني زميلة بأنها تود إحضار بعض الأدوات والتجهيزات اللازمة من غرفة بعيدة وطلبت مني بخجل مرافقتها لأنها تخاف أن تذهب هناك وحدها وأنها تخاف من ظهور الأشباح في الليل، فضحكت ورافقتها وبعدما انتهت شكرتني بخجل لأنها خائفة، فقلت لها كلنا نخاف من الأشباح مهما اعتقدنا عكس ذلك ولكن بطرقٍ مختلفة، ولا يفترض بها أن تخجل من ذلك بل يجب عليها أن تفهمه وتعرف كيف تتعامل مع ذلك..

جلست بعدها وحيداً وتلاعبت بي الذكريات وأكملت قصيدةً أخذت وقتاً طويلاً في كتابتها على مدار شهرين، ومن ثم عدت لصور الحيوانات متمدداً على الأريكة في غرفة الممرضين.. ابتسم كثيراً.. وتفلت مني ضحكات هادئة يبدو صداها أعمق في صمت المكان.. وجدت صورةً لقطة تلهو بكرسيٍ يدور وتدور معه وكتب مع الصورة تعليق باللغة الإنجليزية (لا أندم على شيء)، فضحكت كثيراً وكنت أؤيدها في قرارة نفسي..
وفجأةً وجدت يداً دافئةً على كتفي، لم تحدد موقفها مني، فاليد مشتاقةٌ ومترددة وتضغط على كتفي بمحبةٍ حذرة، شعرت بأنها ترغب في معانقتي والإطمئنان علي لكنها خائفة ٌ لمعرفتها بما بدر منها نحوي..
صديقي..ألا زلت مستيقظاً؟..
فقمت بهز رأسي وهمست له دون أن أنظر إليه مباشرةً..أجل..
كيف حالك؟.....
صمت...صمت..صمت...
ألا زلت تتابع برامج الحيوانات وصورها؟
فابتسمت ابتسامةً خفيفة..
فقال..ماذا بك؟..
فقلت لا شيء.. أنا بخير كما ترى..
سألني.. ألا زلت غاضباً مني بسبب ما حدث بيننا؟
صمت لبرهة وكانت لحظاتٍ طويلة جداً اتصل فيها الواقع بالخيال والماضي بالحاضر، وأجبته..كلا..لقد انتهى..
سألني.. ماذا تعني بذلك؟
فقلت.. الغضب يعني أن جزءاً مني لا زال ينبض ويحن ويتأثر ويحزن لما حدث.. وهذا ليس حقيقياً..
سألني.. ماذا تعني؟
فقلت.. هذا يعني أن كل تلك المرحلة انتهت وماتت.. ومات جزء مني معها، فأنا لست ذلك الشخص الذي عرفته.. صدقني.. أنا لا أعرف أين ذهب ولكن احساسي الذي يشبه شعور الأم بجنينها يخبرني بأن (ذلك الشخص) الذي تسألني عنه تلاشى.. لم يعد له وجود..
سألني.. هل يستحق منك خلافٌ بسيط قد يقع بين أي صديقين أو شقيقين ردة الفعل هذه؟
فقلت.. انت تعتقد أنه خلاف بسيط.. لكنه جاء بعد سلسلةٍ من التغافل والصفح والتنازل لأجل صداقةٍ لم تكن موجودة فعلياً على أرض الواقع، كنت أعلم الكثير ومثلت العكس، انها التراكمات التي تقضم أي علاقة فتنهشها حتى تنهيها عندما لا نستطيع ايجاد أعذارٍ لها..
أعلم أنك تكن لي المودة والمحبة لكنك لم تفهمني، لم تدعمني، لم تقف بجانبي حقاً في محنتي.. كنت تعتبرني خيالياً، وكنت تعتبر حب الشعر والقراءة والأزهار والنباتات والحيوانات ضرباً من الرومانسية ومظهراً من مظاهر الرفاهية، ومشاعر صبيانية لا ينبغي على الرجال الناضجين أن يحبوها.. وكنت إلى جوارك في محنتك وعندما احتجتك اختفيت، وسألت نفسي حينها عن معنى الرجولة عند التخلي عن صديقٍ تشهد بنفسك كم أخلص لك.. ألا زلت ترى حب الشعر والأدب والحيوانات تصرفاً صبيانياً بينما هم من يعلمون الإنسان كيف يكون على سجيته وطبيعته؟

كان لا ينظر إلي مباشرةً مع أنني كنت أتحدث بنبرةٍ هادئة.. وأكملت حديثي لأنني أعلم أنه ليس لديه ما يقوله وهو في وضع المستمع فقلت.. لا تقلق علي.. فأنا أؤمن بأن هناك في هذه الحياة مخرجٌ على الدوام، وأؤمن بمقولةٍ تقول بأن كل شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر بإستثناء شيئين هما الحب والحزن.. يبدآن كبيرين ثم يصغران مع الوقت.. بالنسبة لي زاد وزني مثلما زاد حزني، لكن حبي لم يصبح أصغر مثل ثيابي، لكنني لا زلت مولعاً بكل ما أحببت بل وأحببته بشكل ٍ مضاعف، ونسجت من الماضي تذاكر سفر ٍ إلى الحاضر وربما إلى المستقبل، وشرفةً مفتوحة أرى منها أشجار الليمون وغاباتٍ على مد البصر فيها الكثير من الأطفال والحيوانات والطيور والأزهار، نعيد معاً مغامرات سندباد والسنافر وليسمها الآخرون بالصبيانية، انه شكلٌ آخر من أشكال الحب والحرية والأبوة والأمومة والإيمان والإبداع، لا أكرهك يا صديقي لأن كرهي يعني أنني لم أحببك حقاً، ولا أحد يكره شخصاً كان يضمه ويخاف عليه ويعتبره من عائلته، لكن الجزء الذي يخصك في قلبي تحول إلى ذكرى محايدة أنظر لها بهدوءٍ وسلامٍ ورضا، وخوفٍ أقل..
بل أخبرك بأنني عانقت الكثير من مخاوفي وأسعى إلى معانقتها جميعاً، الخوف يتبعك كالظل، وهناك من يخاف من ظله.. وأنا اليوم يا صديقي..أعانق ظلي الطويل جداً جداً..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى