لم تغب شهرزاد عن الأعمال الفنية والإبداعية وغيرها طوال حياتي، ففي كل عام أغنية أو قصةٌ جديدة، مما جعلني أتساءلُ عن سبب أهميةِ هذه الشخصية وتواجدها المستمر في المخيلة العربية، ولكن بعد عمر أصبح السؤال؛ لماذا لم أسمع عما حدث قبل أن تأتي شهرزاد؟ لماذا لم أسمع إلا أن شهريار كان يقتل النساء وكفّ عنهن بسبب قصصها؟ ما هي اللقطة ما قبل شهرزاد وهل لها أهمية؟ وبهذا بعد معرفة القصة قبل شهرزاد، فإن مئات الدلائل تظهر من رموز بسيطة موجودة فيها، ولربما الحديث اليوم عن بعض هذه الرموز ودلائلها يعطي أفكاراً جديدة لما حملهُ النص.
اللحظة الصفر؛ هي القصص التي بدأت بها الليالي قبل أن تظهر شهرزاد وتبدأَ حكاياتها لألف ليلةٍ وليلة، وحسب "طبعة بولاق الأولى" (1838م) التي اعتمدنا عليها اليوم، فإن هناك عدة قصص قبل شهرزاد، واليوم نحكي إحداها.
بدأت الليالي بالملك الكبير شهريار، والملك الصغير الولي على مملكةٍ أخرى ملك شاه. يسافر ملك شاه ليزور شهريار، فينسى شيئاً ويعود ليأخذه بعد عدة ساعات فيجد زوجته في الفراش مع عبدٍ أسود ويقتلهما ويذهب لشهريار. بعد أن يصل لشهريار ويكون متعباً عيان لأيام، يخرج شهريار للصيد ويرى زوجة شهريار مع 20 جارية و20 عبداً أسود يواقعون بعضهم في ساحة القصر جميعاً سوياً في نفس الوقت، فيشعر أن وضعه ليس بذات السوء ويرتاح. يعود شهريار فيتأكد من الذي حصل، ويقرران السفر سوياً وبأن لا حاجة لهما بالمُلكِ بعدما حدث. والقصة التي كانت في السفر ستكون موضوع التدوينة القادمة، لنحكي عن الجنية التي سوّغت لهما في اللاوعي أو الوعي الشعبي استعمال النساء وقتلهم.
"فرجع ودخل قصره فوجد زوجته راقدة في فراشه معانقةً عبداً أسودَ من العبيد"، "وإذا بباب القصر قد فتح وخرج منه عشرون جارية وعشرون عبداً، وامرأة أخيه تمشي بينهم وهي في غاية الحسن والجمال... فجاءها عبد أسود فعانقها وعانقته وواقعها، وكذلك باقي العبيد فعلوا بالجواري".
في الصورتَيْن والسياقَيْن تكون الملكة خائنة، حالما يدير الملك ظهره، وتكون دائماً مع عبدٍ أسود، ولا تتكلم الزوجة أو تَظْهر في كل "اللحظة الصفر" إلا عندما تواقعُ العبد وتقتل، لا صوتَ لها في أي مشهد، ولا تعبير أو حديثَ لها أو عنها في أي مشهد، لا مع الملك ولا دونه، مما يفتح سلسلةَ قراءاتٍ وتساؤلات.
لماذا لا يكون هناك ذكرٌ لعلاقتها الأساسية مع الملك، أو انشغالات الملك، أو طبيعة العلاقة الزوجية التي بينهم، ولماذا لا توجد معطيات أبداً تقوم بتبرير خيانتها، إن كان سلباً أو إيجاباً، وبنفس الحال، لم يكن هناك أي ذكر لتفاصيل العلاقة بين الملك والجواري، ولربما كان هذا من باب التغييب، لأنهم ملوك واعتبار علاقاتهم مع جميع الجواري طبيعية حسب السياق التاريخي الذي كان.
لماذا كانت الزوجات دائماً صامتات ولا تعبيرَ لديهن، وهنا "الغياب والحضور ينظر إليهما داخل الحكاية الواحدة، ما دام الحاضر يستمد حضوره من الغائب، والغائب حاضر من خلال العنصر المتحقق"، حسب تعبير سعيد بنكراد.
وبنفس الفكرة، فإن ظهور الغياب فقط مع العبد الأسود، قد يعني انقاصاً متعمداً من الرجل الملك الأبيض، وبهذا في ذكر الخيانة هناك تركيز على أنها لم تتم إلا مع العبيد السود، مما يلفت الانتباه هنا لعملية تأكيد الصورة النمطية على العبيد والمليئة بدلالاتٍ قديمة وحديثة؛ فالزوجات كنّ فقط يواقعن العبيد السود، مما يكرسُ الصورة العنصرية عن العبيد، أولاً بكونهم يخونون ولا أمان لهم وكأن الرجل الحرَّ الأبيض أو الحنطي، حسب منطقة آسيا وشمال إفريقيا، هو الأجدر بالثقة والأمان، والصورة الأعظم هي التعبير المباشر عن فحولتهم العالية وطاقتهم الجنسية، التي لا تستطيع أن تقاومها النساء، حتى وإن كانت في موقع ملكة، والتي تم تعزيزها في النص.
هذه الصورة عن العبد الأسود الذي لا تُقاوَم فحولته وأداؤه أبداً، فيها إبراز للنقيض المختبئ في هذه العلاقة، أي أن الانعكاس هي حالة تحد لصورة الرجل الأبيض النمطية بأنه أقل أداءً وفحولةً من الرجل الأسود، مما يعطي صورةً أخرى بأن المرأة ترغب في نمطية الرجل الأسود وأنها كائنٌ ستواقعه أياً كان، وعملية تكريس هذه المفاهيم ضمن الأدب الشعبي الشفاهي ليست جديدة، هذا على افتراض أن الليالي دونت لاحقاً بعد تناقلها شفاهياً لسنوات.
حالة التركيز على كونهم عبيداً سوداً، لا تطرح فقط إشكالية الصورة النمطية والتي تكرست عبر تناقل النص، والتي أيضاً تكرست بعد ترجمته من وإلى العديد من اللغات، ولكن المقابل المعكوس كلياً، هو أن الملك يؤكد على أن تكون الخيانة مع العبد الأسود لأنه يُعذَرَ هو، فأن تخونه مع رجلٍ أسود لا مع رجلٍ أبيض آخر مثله لن يقلل من قيمته، ولن ينقص من صورته بأن الخللَ فيه. وبهذا، أكدت القصة على أن سبب الخيانة ينقسم بين رغبات الزوجة التي تحدت واستغفلت الملك زوجها، وبين صورة العبد الأسود الشديد سبب الخيانة، وفي النهاية يقتل الجميع؛ الزوجة والعبيد والجواري.
من جهة ثانية، لا تخفى المساحة التي تتحرك ضمنها الملكة في النص، بحيث وَجَدَ ملك شاه زوجته في غرفة النوم، أي لم تتحرك أو تنتقل من المكان المصمم لها أبداً، فلم تغير المكان الذي يجمعها بزوجها الملك، وقامت بتطويع المكان لتستخدمه مع العبد الذي كان، فيما كانت حالة زوجة شهريار مختلفة بدرجةٍ طفيفة أخرى، لأنها تحركت وتواقعوا في باحة القصر مع عددٍ من العبيد والجواري. لكن هاتين الحالتين، لا تلغيان أبداً أن المرأة بقيت محصورة في المكان التي وجدت فيه، فلا تتصرف بكامل حريتها ضمن البناء المعماري التي هي فيه على عكس الرجال بشكلٍ عام، وهذا ينعكس في كون الزوجات كنَّ فقط داخل القصر، وفي وجودهنّ في القصر لم يكن لهنّ أي صوت أو عمل أو دلالة سوى أنهن كنَّ يضاجعن العبد الأسود فقتلن، ولم يكن هناك حتى صوتهن في الدفاع عن نفسهن، أو الصراخ أو أي نوعٍ من التعبير، هذا مع العلم أن شهريار لم يقتلها مباشرة إنما عادَ وقتلها بعد السفر والجنيّ العفريت والصبية، وبهذا كان من المفترض أن تهوره قلَّ، إلا أنه زاد، ولم يُسْمَحْ لها أبداً بالكلام، أو لم يَسْمَحْ لها الراوي أن تتكلم أصلاً.
يتوقع القارئ ألا يتكلم العبد الأسود الخائن في القصة، ويتوقع القارئ أن يتم إخراس شخصية العبد في كل الحالات، ولكن ألا تتكلم الملكة أبداً ويتم إخراسها كشخصية، لماذا؟
هل كنَّ خرساوات لأن الأدب الشعبي والتناقل الشفاهي يمنع المرأة من الكلام خاصة عند تورطها في هذه الشؤون؟ أم لأنه لم يؤَلَفْ لهنّ صوتٌ أصلاً، أم لأن المدّون الرجل الذي دوّن الشفاهي من القصة أخرسهنّ؟
شكلُ المرأةِ من غيابها في بداية الليالي هو مُشبعٌ بالدلالات، وهذه الدلالات حتى قبل أن تأتي شهرزاد أو أي امرأة، وقبل أن تتكلم النساء في القصة. هذا الغياب ومواقعة العبد الأسود حملا دلالاتٍ لا تنتهي عن الوقت الذي كتبت القصة فيه، وعن الزمن التي تروى فيه الآن. وفي التدوينة القادمة نرى صورة المرأة عندما تتكلم لأول مرة في الليالي، ماذا تقول ولماذا تُفَسَّرُ على أنها تعطي الأحقية لشهريار ليتحكم بجميع نساء الكون بعدها؟
اللحظة الصفر؛ هي القصص التي بدأت بها الليالي قبل أن تظهر شهرزاد وتبدأَ حكاياتها لألف ليلةٍ وليلة، وحسب "طبعة بولاق الأولى" (1838م) التي اعتمدنا عليها اليوم، فإن هناك عدة قصص قبل شهرزاد، واليوم نحكي إحداها.
بدأت الليالي بالملك الكبير شهريار، والملك الصغير الولي على مملكةٍ أخرى ملك شاه. يسافر ملك شاه ليزور شهريار، فينسى شيئاً ويعود ليأخذه بعد عدة ساعات فيجد زوجته في الفراش مع عبدٍ أسود ويقتلهما ويذهب لشهريار. بعد أن يصل لشهريار ويكون متعباً عيان لأيام، يخرج شهريار للصيد ويرى زوجة شهريار مع 20 جارية و20 عبداً أسود يواقعون بعضهم في ساحة القصر جميعاً سوياً في نفس الوقت، فيشعر أن وضعه ليس بذات السوء ويرتاح. يعود شهريار فيتأكد من الذي حصل، ويقرران السفر سوياً وبأن لا حاجة لهما بالمُلكِ بعدما حدث. والقصة التي كانت في السفر ستكون موضوع التدوينة القادمة، لنحكي عن الجنية التي سوّغت لهما في اللاوعي أو الوعي الشعبي استعمال النساء وقتلهم.
"فرجع ودخل قصره فوجد زوجته راقدة في فراشه معانقةً عبداً أسودَ من العبيد"، "وإذا بباب القصر قد فتح وخرج منه عشرون جارية وعشرون عبداً، وامرأة أخيه تمشي بينهم وهي في غاية الحسن والجمال... فجاءها عبد أسود فعانقها وعانقته وواقعها، وكذلك باقي العبيد فعلوا بالجواري".
في الصورتَيْن والسياقَيْن تكون الملكة خائنة، حالما يدير الملك ظهره، وتكون دائماً مع عبدٍ أسود، ولا تتكلم الزوجة أو تَظْهر في كل "اللحظة الصفر" إلا عندما تواقعُ العبد وتقتل، لا صوتَ لها في أي مشهد، ولا تعبير أو حديثَ لها أو عنها في أي مشهد، لا مع الملك ولا دونه، مما يفتح سلسلةَ قراءاتٍ وتساؤلات.
لماذا لا يكون هناك ذكرٌ لعلاقتها الأساسية مع الملك، أو انشغالات الملك، أو طبيعة العلاقة الزوجية التي بينهم، ولماذا لا توجد معطيات أبداً تقوم بتبرير خيانتها، إن كان سلباً أو إيجاباً، وبنفس الحال، لم يكن هناك أي ذكر لتفاصيل العلاقة بين الملك والجواري، ولربما كان هذا من باب التغييب، لأنهم ملوك واعتبار علاقاتهم مع جميع الجواري طبيعية حسب السياق التاريخي الذي كان.
لماذا كانت الزوجات دائماً صامتات ولا تعبيرَ لديهن، وهنا "الغياب والحضور ينظر إليهما داخل الحكاية الواحدة، ما دام الحاضر يستمد حضوره من الغائب، والغائب حاضر من خلال العنصر المتحقق"، حسب تعبير سعيد بنكراد.
وبنفس الفكرة، فإن ظهور الغياب فقط مع العبد الأسود، قد يعني انقاصاً متعمداً من الرجل الملك الأبيض، وبهذا في ذكر الخيانة هناك تركيز على أنها لم تتم إلا مع العبيد السود، مما يلفت الانتباه هنا لعملية تأكيد الصورة النمطية على العبيد والمليئة بدلالاتٍ قديمة وحديثة؛ فالزوجات كنّ فقط يواقعن العبيد السود، مما يكرسُ الصورة العنصرية عن العبيد، أولاً بكونهم يخونون ولا أمان لهم وكأن الرجل الحرَّ الأبيض أو الحنطي، حسب منطقة آسيا وشمال إفريقيا، هو الأجدر بالثقة والأمان، والصورة الأعظم هي التعبير المباشر عن فحولتهم العالية وطاقتهم الجنسية، التي لا تستطيع أن تقاومها النساء، حتى وإن كانت في موقع ملكة، والتي تم تعزيزها في النص.
هذه الصورة عن العبد الأسود الذي لا تُقاوَم فحولته وأداؤه أبداً، فيها إبراز للنقيض المختبئ في هذه العلاقة، أي أن الانعكاس هي حالة تحد لصورة الرجل الأبيض النمطية بأنه أقل أداءً وفحولةً من الرجل الأسود، مما يعطي صورةً أخرى بأن المرأة ترغب في نمطية الرجل الأسود وأنها كائنٌ ستواقعه أياً كان، وعملية تكريس هذه المفاهيم ضمن الأدب الشعبي الشفاهي ليست جديدة، هذا على افتراض أن الليالي دونت لاحقاً بعد تناقلها شفاهياً لسنوات.
حالة التركيز على كونهم عبيداً سوداً، لا تطرح فقط إشكالية الصورة النمطية والتي تكرست عبر تناقل النص، والتي أيضاً تكرست بعد ترجمته من وإلى العديد من اللغات، ولكن المقابل المعكوس كلياً، هو أن الملك يؤكد على أن تكون الخيانة مع العبد الأسود لأنه يُعذَرَ هو، فأن تخونه مع رجلٍ أسود لا مع رجلٍ أبيض آخر مثله لن يقلل من قيمته، ولن ينقص من صورته بأن الخللَ فيه. وبهذا، أكدت القصة على أن سبب الخيانة ينقسم بين رغبات الزوجة التي تحدت واستغفلت الملك زوجها، وبين صورة العبد الأسود الشديد سبب الخيانة، وفي النهاية يقتل الجميع؛ الزوجة والعبيد والجواري.
من جهة ثانية، لا تخفى المساحة التي تتحرك ضمنها الملكة في النص، بحيث وَجَدَ ملك شاه زوجته في غرفة النوم، أي لم تتحرك أو تنتقل من المكان المصمم لها أبداً، فلم تغير المكان الذي يجمعها بزوجها الملك، وقامت بتطويع المكان لتستخدمه مع العبد الذي كان، فيما كانت حالة زوجة شهريار مختلفة بدرجةٍ طفيفة أخرى، لأنها تحركت وتواقعوا في باحة القصر مع عددٍ من العبيد والجواري. لكن هاتين الحالتين، لا تلغيان أبداً أن المرأة بقيت محصورة في المكان التي وجدت فيه، فلا تتصرف بكامل حريتها ضمن البناء المعماري التي هي فيه على عكس الرجال بشكلٍ عام، وهذا ينعكس في كون الزوجات كنَّ فقط داخل القصر، وفي وجودهنّ في القصر لم يكن لهنّ أي صوت أو عمل أو دلالة سوى أنهن كنَّ يضاجعن العبد الأسود فقتلن، ولم يكن هناك حتى صوتهن في الدفاع عن نفسهن، أو الصراخ أو أي نوعٍ من التعبير، هذا مع العلم أن شهريار لم يقتلها مباشرة إنما عادَ وقتلها بعد السفر والجنيّ العفريت والصبية، وبهذا كان من المفترض أن تهوره قلَّ، إلا أنه زاد، ولم يُسْمَحْ لها أبداً بالكلام، أو لم يَسْمَحْ لها الراوي أن تتكلم أصلاً.
يتوقع القارئ ألا يتكلم العبد الأسود الخائن في القصة، ويتوقع القارئ أن يتم إخراس شخصية العبد في كل الحالات، ولكن ألا تتكلم الملكة أبداً ويتم إخراسها كشخصية، لماذا؟
هل كنَّ خرساوات لأن الأدب الشعبي والتناقل الشفاهي يمنع المرأة من الكلام خاصة عند تورطها في هذه الشؤون؟ أم لأنه لم يؤَلَفْ لهنّ صوتٌ أصلاً، أم لأن المدّون الرجل الذي دوّن الشفاهي من القصة أخرسهنّ؟
شكلُ المرأةِ من غيابها في بداية الليالي هو مُشبعٌ بالدلالات، وهذه الدلالات حتى قبل أن تأتي شهرزاد أو أي امرأة، وقبل أن تتكلم النساء في القصة. هذا الغياب ومواقعة العبد الأسود حملا دلالاتٍ لا تنتهي عن الوقت الذي كتبت القصة فيه، وعن الزمن التي تروى فيه الآن. وفي التدوينة القادمة نرى صورة المرأة عندما تتكلم لأول مرة في الليالي، ماذا تقول ولماذا تُفَسَّرُ على أنها تعطي الأحقية لشهريار ليتحكم بجميع نساء الكون بعدها؟