خالد جهاد - عتبات الخوف

المقال رقم (٢٩) ضمن سلسلة مقالات (القبح والجمال)..

قد يكون (الخوف) هو الإجابة الأكثر شيوعاً بين مختلف سكان العالم في السنوات الأخيرة حين نسألهم عن الشعور الذي ينتابهم مراراً ويسيطر عليهم في أغلب الأوقات أياً كانت الأسباب، وهي إجابةٌ منطقية عند استحضار مختلف العوامل التي تطغى على حياتنا، وخاصةً بعد تفشي وباء الكورونا وما حمله من ثقافةٍ وتبعات خلقت أزماتٍ سياسية واقتصادية أفرزت واقعاً معيشياً كبر ككرة ثلج لا نعرف ما ستؤول إليه، لكن هل فكرنا من قبل كيف تسرب هذا (الخوف) إلينا تدريجياً دون أن ندري؟

لنعد معاً إلى القرن الماضي وفقط عبر الشاشتين الكبيرة والصغيرة بين السينما والتلفزيون كونهما صاحبتي التأثير الأكبر لنتذكر المحتوى الذي قدمته، فعلى سبيل المثال امتلأت شاشات التلفاز منذ انطلاقها (بعد الصحف المطبوعة) بنشرات الأخبار التي حملت معها بطبيعة الحال مشاهد وتقارير مصورة للدماء والضحايا والجثث والمجازر من مختلف دول العالم، وهذه الصور المتكررة بشكلٍ مدروس تسربت إلى وعي ولا وعي أغلب الناس وترسخت بداخلهم لتصبح بمرور الوقت اعتياديةً من حيث لا يدرون، ولذلك وبرغم الفظائع التي حدثت ولا زالت تحدث في عالمنا إلا أن أي التغطية الإعلامية لأي حدث تختلف من بلد لآخر ويختلف معها تفاعل المتلقي وتأثره بها، فنرى مشاهد الجثث والأشلاء المتناثرة في أي عدوانٍ صهيوني على الشعب الفلسطيني مثلاً أو في أي مكان في العالم العربي أو افريقيا، لكننا بالمقابل لا نرى نفس الصورة عند وقوع أي حدث يسفر عن ضحايا في الغرب وهو ما يجعل المتابع دائماً (دون قصد) يميل إلى التعاطف مع الجانب الآخر الذي لم يعتد على رؤيته في موقع (الضحية) وكأن دماغه أصبح متقبلاً لفكرة وقوع العنف والقتل في بعض أجزاء العالم دون الأخرى وكأنه قدر أو شيء مسلم به بعد اعتياده على صورهم وأخبارهم، ليبدأ من هذه النقطة تجزأ المشاعر الإنسانية وليعتاد البشر على فكرتي الخوف والموت بشكلٍ ما وإن لم تكن (توزع) بالتساوي..

ومن ناحيةٍ أخرى انفردت السينما الأمريكية بشكلٍ شبه كامل لعقودٍ طويلة وحتى الآن بتقديم أفلام الرعب التي تدرجت وتنوعت في تقديم مختلف القصص المرعبة والدامية والمخيفة، واستخدمت معها أهم التقنيات وأحدثها وبتكلفةٍ إنتاجية عالية ضخت من خلالها ثقافة (الخوف) بدهاء ومزجتها بالترفيه من خلال ربطها في عقول الكثيرين بالإثارة والمتعة والمغامرة والتشويق و(الأدرينالين)، وجعلت أي مشاهد حقيقية تحدث في العالم ذات وقعٍ أقل على المتلقي بعد اعتياد العين والدماغ على صور ومشاهد وأفكار أشد رعباً عبر أعمال تخصصت في تكريس الخوف والقتل والدم والجريمة واللعب على وتر الحياة والموت وما يرافقها من أحاديث ومعتقدات تسري بين الناس وتم استيحاء بعضها من الثقافات الشعبية والقصص المرعبة حول العالم، والتي يتم معها أيضاً تمرير رسائل مختلفة وواضحة تقوم فيها (بتحويرٍ متعمد) لنصوص ورموز مستمدة من الأديان السماوية بغية زعزعة الثقة فيها، ليتم ضخ هذا الخوف ومحاولة الربط الخفي بين الرعب والخرافة من جهة وبين الدين من جهةٍ أخرى، في محاولة بدأت مبكراً لتذويب عامل (الطمأنينة) والتي تمر بعدة مراحل وسلسلة من العوامل المتضافرة على المدى الطويل والتي يتم فيها فصل الإنسان تدريجياً بطرقٍ متعددة وأفكارٍ متنوعة عن كل ما ينتمي إليه ويشكل هويته الشخصية والإنسانية عموماً، والتي تعزز بداخله شعور الأمان وتساهم في استقراره وتوازنه النفسي، ويشكل الدين أو الإيمان أحد أهم هذه العوامل..

لذا تظل رسالة فيلم (The Others) من بطولة الممثلة الأوسترالية نيكول كيدمان مثالاً حياً على هذا الرأي، بدءاً من العبارة الموجودة على الملصق الدعائي للفيلم (سوف يجدونك عاجلاً أم آجلا ً) والذي قدمت من خلاله قصة زوجة وحيدة بعد ذهاب زوجها إلى الحرب وتعيش مع ولديها اللذين يعانيان من حالة حساسية مفرطة للضوء وتقوم بحرص شديد على تلقينهما تعاليم الإنجيل، ليتغير مجرى الأحداث بعد وصول ثلاثة من العاملين في التدبير المنزلي الذين يتضح أنهم مجرد أموات عادت أرواحهم إلى المنزل الذي عاشوا فيه قبل نصف قرن، لإجبار صاحبته على فكرة تقاسمه و(التعايش) بينهم وقبول الأمر الواقع وترك فكرة هذا (التعايش) مفتوحة على كل الإحتمالات بين طرفين لا يعرف لكليهما هوية واضحة ومحددة ولا تخلو من اسقاطات تحمل أكثر من تفسير على أكثر من صعيد، وسط أجواءٍ مريبة ومخيفة تحمل تشكيكاً مبطناً في عدة تفاصيل دينية ظلت تؤكدها (البطلة) طيلة الفيلم وتتحول إلى شك صريح وواضح في مشهده الختامي، وذلك عبر تساؤلات على لسانها ولسان أبنائها حول حقيقة وجودهم وحول وجود الأنبياء والجحيم والحياة بعد الموت لأنهم يكتشفون أيضاً أنهم أرواح (توفيت) منذ زمن، وهو ما يعد طريقةً متقنة لإيصال أجندة دأبت هوليوود ودأب الغرب عموماً على تقديمها في أعماله..

وهو مالا ينفصل عن تغير شكل الموضة الدارجة التي تعتمد أحياناً على القبح والمظهر المنفر والذي انسحب على تصميمات للديكور والأثاث وحتى دمى وألعاب الأطفال، بعد أن اختفت الألوان الزاهية والرسوم الجميلة والأفكار البريئة من الأعمال التي يفترض أنها مخصصة لهم والتي بات بعضها يعتمد على الرعب كسمة أساسية من خلال كائناتٍ ممسوخة وحوارات لا تناسبهم وقصصٍ تؤثر على نموهم وتوازنهم النفسي والعاطفي..


وعلى صعيدٍ آخر تم الترويج بالمعنى السلبي لسطوة (العلم) التي تتخذ منحىً فئوياً وطبقياً ذا طابع اقصائي لا يأخذ مختلف الأفكار والمعتقدات بعين الإعتبار، وتسير ضمن دائرة مغلقة بإحكام لها توجهاتها وقواعدها ولا تتعامل إلاّ من منطلق مادي بحت يغيب الجوانب الحسية والمعنوية ويقوم بإستخدام وتوظيف بعض النظريات والترويج لها والتركيز عليها لتدعيم فكره وروايته مقابل تغييب آراء وتحليلات وأصوات مختلفة تعارضها، والتي وصلت سطوتها إلى اختراق الكثير من فروع العلم وعلى رأسها علم النفس وفرض تيارات معينة عليها، عدا عن افتعال صدامات بدأت بشكل مدروس منذ عقود بين العلم والدين لمحاولة إسكات أي انتقاد أخلاقي قد يطال بعض الأبحاث والنظريات ويحد من (طموحاتها) كتجربة الإستنساخ على سبيل المثال والتي أحدثت زوبعة وجدلاً كبيراً على أكثر من صعيد وهاجمتها الأديان بضراوة، وليتم الترويج من بعدها لنمط اجتماعي يعتمد على تقسيم الأشخاص بشكل غير مباشر إلى صفوة تؤمن بالعلم والمادة بشكلٍ بحت لا حدود له وتعممه على مختلف نواحي الحياة، و(عوام) يتم النظر إليهم كدرجة أقل ومرتبة أدنى (وإن لم يتم التصريح بذلك) على اعتبار أنهم مناهضون للتحضر والتقدم كونهم يؤمنون بالغيبيات التي يستهدفون من خلالها الأديان بشكل مباشر وممنهج، لأن الكثير من مبادئها تحد من (جموحهم) ..

و بذلك يتم تحقيق عدة أهدافٍ مجتمعة وهي أولاً.. تفكيك الإنسان من الداخل بحيث يتم فصله بشكلٍ ناعم عن كل ما ينتمي إليه ويؤمن به من خلال مغريات واهية ليصبح فكره فكراً مادياً فردياً يخلو من العاطفة ويتمركز حول الذات ومنافعها وملذاتها كمرحلة أولى تسبق وتسهل تدميره نفسياً..

ثانياً.. تشويه الأديان وشيطنتها لقطع التواصل بين البشر وبين أي جانب روحي في شخصيتهم قد يعرقل انتشار الفكر المادي من خلال محاذير أخلاقية، لأن الأغلبية وإن لم تكن متدينة تلجأ في شدتها ومخاوفها إلى المعتقدات الدينية وإلى طلب العون من الله كل بطريقته (وإن أنكر ذلك أو لم يصرح به) حتى من خلال شعور خفي أو كلمات بسيطة..

ثالثاً.. الوصول إلى إنسان (معاصر) بلا هوية أو جذور يمتاز بالسطحية والنفعية والهشاشة الداخلية ويمكن التأثير عليه ببساطة خاصةً وأنه لا يمتلك فعلياً أي عامل يعزز مناعته النفسية بعد أن تجرد من كل انتماء يدعمها..


لنصل بعد هذا كله وبعد الأزمات المتتابعة التي أعقبت جائحة الكورونا إلى ما نعيشه اليوم من حالة تجمع بين الخوف والتبلد وغياب الثقة بين الناس والشعور بالعجز، خاصةً وأن الكثيرين باتت لديهم علامات استفهام عديدة حول دراسات ونظريات تلامس صحتهم وكافة تفاصيل حياتهم اليومية ولم تجد إجابة شافية أو واضحة حتى الآن، عدا عن تناقض في الكثير منها وهو ما يعزز الشعور العام بالقلق لدى البشر ويتركهم على عتبات الخوف ليس في بلادنا فقط بل في مختلف دول العالم والتي لم نصل إليها عن طريق الصدفة..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى