جلس هناك بعيدا، تظاهر بأنه لم يرني. وضع رجلا على رجل، تناول جريدة خاصة بالمقهى، شرع يتفحصها. لما رآه النادل وسار نحوه، أشرتُ إليه:
- سيشرب قهوة سوداء خفيفة..
انتبه صاحبي:
- أهلا سي..
يبدو أنه لم يتذكرني السي.. لم أتذكره أنا أيضا..
- كيف الحال شاعرنا؟
كان قد اقترب مني، مد يده صافحني، جرني إليه ليقبلني أيضا، لم أتفاجأ من طريقة التحية، فنحن معتادون على مثل هذه الحرارة في تماساتنا رغم ركام المظاهر الخادعة التي تسكننا، والنفاق الممتد إلى أبسط المشاعر.. باغتتني الحركة فقط، اعتقدت أنه سيكتفي بالمصافحة.
ربما المسافة الفاصلة بين المصافحة واستدراك التقبيل مبرر نفسي لفعلته، قبل قليل تظاهر بشكل مفضوح بأنه لم يرني. قد أكون مخطئا، لكني أنتمي إلى ثقافتي وأفهمها، لم أفكر في نسبة الخطأ.
- وكيف وجدت الديوان؟
- الديوان؟
- نعم الكتاب..
- صراحة الكلمات رائعة..
استغربت كيف قرأ الكلمات الرائعات ولم يتذكر الشاعر السي؟ غالبا نحن المتخلفون نهتم كثيرا بأسماء الأشخاص الذين يفعلون شيئا مختلفا وخارج الأفعال الروتينية اليومية التي صارت جزءا من كياننا المنهك الآلي، بشرط أن يكون التميز ذاته مظهريا بهرجيا تبعا للفراغ الذي يلهو بداخلنا كما يشتهي.. نحن لا نهتم بالفكرة ولكن بشهرة الفكرة حتى لو كانت تافهة.. ننتبه للشاعر الفلاني عندما ينشر قصيدة على صفحات جريدة معروفة ولكن نكاد لا يثيرنا أدنى شيء في نفس القصيدة على الفايسبوك مثلا أو في مدونة مهجورة يسكنها عفاريت منسيون.. ننتبه إلى الكاتب الفلاني عندما يضع صورة ديوانه الجديد ولا نقرأ نصا له على صفحته الباردة الخاصة.. مثلما نفعل مع ممثل بليد يظهر على الشاشة مرارا، يصبح أيقونة بينما آخر مثقف ومحترم، محترف ولكنه منبوذ يستجدي على قنوات اليوتيوب اهتماما يعلم سلفا ثمنه..
- أي قصيدة نالت إعجابك؟
- الصراحة، كلها جميلة..
كان النادل قد أحضر له قهوته السوداء الخفيفة، بينما رشفت آخر رشفة من كأس الشاي، أفرغت البراد. كدت أضحك، لكني تذكرت شيئا مهما؛ أنا اخترت أن أنتحر، أن أراهن على العدم، لأني مريض مثل هؤلاء الذين يحيطون بي، وأحيط بهم، مثل السي.. لم أتذكر اسمه، لأن الشاعر هو الأهم، كان هذا هو الهراء الذي لم أره، تجاهلته..
- قل لي السي.. سامحني، نسيت اسمك..
- مع إني أخبرتك به عندما كنت تكتب الإهداء..
- آه.. فعلا..
- لا عليك، حتى أنا نسيت اسمك..
ناوشني الشاعر لأقول للسي.. لقد أهديت إليك الكتاب والاسم ملعلع في غير ما صفحة منه، حتى في الغلاف الخلفي تجده وتجد ما صدر له من دواوين أخرى كثيرة.. أقفلت فمه؛ فم الشاعر. أولا لأنه من تعمد الارتماء في حضن السي.. بهلاوسه. لم يقل السي.. بأنه مهتم بالشعر ولا بالكتابة، ربما يحب قراءة كتب الحصن الحصين وما إليها حتى لا نرميه بذنب موت القراءة الذي يتخذه المجانين مثلي ذريعة للبكاء قبل أن يخطوا ترهاتهم ويلقوا بها في جحيم اللامبالاة..
- المهم، وجدت القصائد جميلة؟
- تبارك الله عليك..
نهضت من مكاني لأغادر، قفز السي.. من مكانه وعانقني مجددا ثم تحدث إلى النادل بصوت مرتفع:
- كَارسون، شاي الأستاذ الشاعر ديالنا على حسابي..
- سيشرب قهوة سوداء خفيفة..
انتبه صاحبي:
- أهلا سي..
يبدو أنه لم يتذكرني السي.. لم أتذكره أنا أيضا..
- كيف الحال شاعرنا؟
كان قد اقترب مني، مد يده صافحني، جرني إليه ليقبلني أيضا، لم أتفاجأ من طريقة التحية، فنحن معتادون على مثل هذه الحرارة في تماساتنا رغم ركام المظاهر الخادعة التي تسكننا، والنفاق الممتد إلى أبسط المشاعر.. باغتتني الحركة فقط، اعتقدت أنه سيكتفي بالمصافحة.
ربما المسافة الفاصلة بين المصافحة واستدراك التقبيل مبرر نفسي لفعلته، قبل قليل تظاهر بشكل مفضوح بأنه لم يرني. قد أكون مخطئا، لكني أنتمي إلى ثقافتي وأفهمها، لم أفكر في نسبة الخطأ.
- وكيف وجدت الديوان؟
- الديوان؟
- نعم الكتاب..
- صراحة الكلمات رائعة..
استغربت كيف قرأ الكلمات الرائعات ولم يتذكر الشاعر السي؟ غالبا نحن المتخلفون نهتم كثيرا بأسماء الأشخاص الذين يفعلون شيئا مختلفا وخارج الأفعال الروتينية اليومية التي صارت جزءا من كياننا المنهك الآلي، بشرط أن يكون التميز ذاته مظهريا بهرجيا تبعا للفراغ الذي يلهو بداخلنا كما يشتهي.. نحن لا نهتم بالفكرة ولكن بشهرة الفكرة حتى لو كانت تافهة.. ننتبه للشاعر الفلاني عندما ينشر قصيدة على صفحات جريدة معروفة ولكن نكاد لا يثيرنا أدنى شيء في نفس القصيدة على الفايسبوك مثلا أو في مدونة مهجورة يسكنها عفاريت منسيون.. ننتبه إلى الكاتب الفلاني عندما يضع صورة ديوانه الجديد ولا نقرأ نصا له على صفحته الباردة الخاصة.. مثلما نفعل مع ممثل بليد يظهر على الشاشة مرارا، يصبح أيقونة بينما آخر مثقف ومحترم، محترف ولكنه منبوذ يستجدي على قنوات اليوتيوب اهتماما يعلم سلفا ثمنه..
- أي قصيدة نالت إعجابك؟
- الصراحة، كلها جميلة..
كان النادل قد أحضر له قهوته السوداء الخفيفة، بينما رشفت آخر رشفة من كأس الشاي، أفرغت البراد. كدت أضحك، لكني تذكرت شيئا مهما؛ أنا اخترت أن أنتحر، أن أراهن على العدم، لأني مريض مثل هؤلاء الذين يحيطون بي، وأحيط بهم، مثل السي.. لم أتذكر اسمه، لأن الشاعر هو الأهم، كان هذا هو الهراء الذي لم أره، تجاهلته..
- قل لي السي.. سامحني، نسيت اسمك..
- مع إني أخبرتك به عندما كنت تكتب الإهداء..
- آه.. فعلا..
- لا عليك، حتى أنا نسيت اسمك..
ناوشني الشاعر لأقول للسي.. لقد أهديت إليك الكتاب والاسم ملعلع في غير ما صفحة منه، حتى في الغلاف الخلفي تجده وتجد ما صدر له من دواوين أخرى كثيرة.. أقفلت فمه؛ فم الشاعر. أولا لأنه من تعمد الارتماء في حضن السي.. بهلاوسه. لم يقل السي.. بأنه مهتم بالشعر ولا بالكتابة، ربما يحب قراءة كتب الحصن الحصين وما إليها حتى لا نرميه بذنب موت القراءة الذي يتخذه المجانين مثلي ذريعة للبكاء قبل أن يخطوا ترهاتهم ويلقوا بها في جحيم اللامبالاة..
- المهم، وجدت القصائد جميلة؟
- تبارك الله عليك..
نهضت من مكاني لأغادر، قفز السي.. من مكانه وعانقني مجددا ثم تحدث إلى النادل بصوت مرتفع:
- كَارسون، شاي الأستاذ الشاعر ديالنا على حسابي..