أ. د. مصطفى رجب - جريدة الكلب!!

يرجع تاريخ الصحافة الفكاهية في الوطن العربى إلى أواخر القرن التاسع عشر وبالتحديد حين صدرت بمصر فى عهد الخديوى إسماعيل مجلة (أبو نضارة) التى أصدرها يعقوب صنوع فى سنة 1876 وكان اسمها فى البداية (أبو نضارة زرقاء: جريدة مسليات ومضحكات) وكان توزيعها يزيد على عشرة آلاف نسخة وهو رقم كبير جداً بمقاييس تلك الأيام.
ثم أصدر عبد الله النديم فى 6 يونيو سنه 1891 صحيفة “ التنكيت والتبكيت “ وهى صحيفة أدبية تهذيبية كانت تتناول النقد بطريقة ساخرة وتضمنت مقالاته بها الدفاع عن الفصحى وبيان أهميتها والدعوة إلى المحافظة عليها وكان يكتبها تحت عنوان “ أيها الناطق بالضاد “ ولقد استمال أسلوب الجريدة القراء وشد انتباههم وزاد الصحيفة شهرة مخاطبتها للعامة والنزول إلى مستواهم الفكرى.
ومع مطلع القرن العشرين صدرت مجلات وصحف فكاهية أخذت تتكاثر شيئاً فشيئاً واستقطبت أقلام مشاهير الأدباء وفى مقدمتهم بيرم التونسى وحسين شفيق المصرى وغيرهما ممن اتخذوا الطابع الفكاهى علامة مميزة لأسلوبهم فى مخاطبة القارئ.
وتوالى صدور المجلات الفكاهية فصدرت (حمارة منيتى) لصاحبها محمد توفيق سنه 1900م وكانت سياسية فكاهية. وفى سنه 1907 أصدر أحمد حافظ عوض مجلة ( خيال الظل* وأدخل فيها الصور الكاريكاتورية ناقدة للحكومة والحكام، وتتعاقب المجلات الفكاهية فتصدر مجلة (السيف ) ثم" السيف والمسامير " لتبرع فيما يطلقون عليه “ القفشات “ حول السياسة والحكم والمجتمع وبعض الشخصيات البارزة وقتذاك، وقد أصدرها حسين على وأحمد عباس.
ثم صدرت أشهر المجلات الفكاهية وهى مجلة “ الكشكول “ التى ظهرت سنة 1921 لصاحبها سليمان فوزى، وقد اهتمت بالفكاهة السياسية .. ولقد وقفت لحزب الوفد بالمرصاد تهاجم الزعيم سعد زغلول وتنقد سياسة الوفد بالصور الكاريكاتورية والمقالات والمقامات.
فإذا انتقلنا من مصر إلى الشام وجدنا جريدة ( العرفان ) التى كانت تصدر فى صيدا لمؤسسها أحمد عارف الزين، وجريدة ( الخازوق ) التى أصدرها أيام الانتداب الفرنسى الشاعر المهندس فؤاد جرداق شفيق الشاعر جورج جرداق مؤلف قصيدة “ هذه ليلتى “ التى غنتها السيدة أم كلثوم.
وكانت " الخازوق " تستخدم التورية للتحريض بالمحتلين الغرباء ومن أمثلة ذلك قولها:
" علمنا بكل سرور أن صاحبة العصمة عقيلة المفوض السامى الفرنسى قد عادت من فرنسا إلى بيروت ، بعدما فرغت من زيارتها إلى الديار الفرنسية. و" الخازوق " يرحب بقدوم صاحبة العصمة أجمل ترحيب”
قصة جريدة الكلب:
غير أن جريدة " الكلب " التى أصدرها فى دمشق الأديب صدقى إسماعيل تفردت بين جميع الصحف والمجلات الفكاهية على امتداد الزمان والمكان العربيين بعدة أشياء :
أولها: أنها صدرت بدون ترخيص فقد بدأ صاحبها يخطها بخط يده من الألف إلى الياء هو جالس على المقهى ثم يوزعها على أصدقائه دون ثمن ودون اشتراكات.
ثانيها:أن جميع موضوعاتها تصاغ شعرًا ، وقد ضمنت موضوعاتها ( المقال الافتتاحى- المانشيت- المقال الرئيسى- الطقس- كلمة العدد- مقال فى السياسة الدولية - مقال فى السياسة الداخلية- يوميات رئيس التحرير - صورة العدد- الإعلانات... وغير ذلك )
ثالثها: أن تلك الصحيفة التى التزمت الشعر وسيلةً للتعبير وطوَّعتْه ليكون وعاءً لكل المواد الصحفية باقتدار بارع. لم تخرج عن حدود الأوزان التقليدية القديمة. بل وأكثر من ذلك كانت تميل إلى السخرية من الشعر الحديث وتتندر به.
وقد جمعت أعداد " الكلب " وصدرت مطبوعة طبعة فخمة ضخمة عن مطابع الإدارة السياسية فى دمشق مصحوبة بتقديم واف كتبه الشاعر الكبير سليمان العيسى.
وكان الشاعر سليمان العيسى فيما يبدو صديقاً لصاحب “ الكلب “ المرحوم صدقى إسماعيل. فنحن نجد فى ديوانه " الديوان الضاحك " قصيدة بعنوان " كنا فى هلسنكى " يبدو منها أن سليمان العيسى كان عضواً فى مؤتمر السلم العلمى الذى انعقد فى هلسنكى عاصمة فنلندا فى أواسط الستينيات فبعث بقصيدته تلك إلى جريدة " الكلب " باعتباره مندوباً لها فى المؤتمر ولكن الشاعر يقول فى مقدمة قصيدته وفى ثناياها أنه مندوب جريدة (ابن الكلب) بمقدمة تقول:
نحن فى منتصف الليل هنا /
وضياء الشمس فى كل مكانْ /
نحن عند القطب لايفصلنا /
عنه فى الواقع إلا فشختانْ /
إن فنلنـدا بلاد حلــوةٌ /
وكثـيرات بفنـلندا الحسـانْ /
ثم تقدم القصيدة عدة لقطات للمؤتمر كتغطية صحفية شعرية لوقائعه وفعالياته فتقول بعض مقاطعها:
جاءت " ابن الكلــب " من سوريَّةٍ /
كسـواها لحضور المهرجانْ /
أصدقاءُ السلمِ قد حلُّوا هنا /
من أقاصى الصين حتى ميتشغانْ /
رأي عام :
أمَريكا بنتُ كلبٍ.. هكذا /
أجمعَ الرأىُ.. ووافقْنا كَمَانْ !! /
شرَّدتْنا وأقامتْ دولةً /
فى أراضينا كرأس الأفعوانْ /
هذه قصتنا موجزةً /
تُؤثر "ابنُ الكلبِ" إيجازَ البيانْ /
ونعود إلى جريدة الكلب فنختار النماذج التالية مما نشر فى العدد 106 تشرين الثانى سنة 1971 لنقرأ الركن الأدبى من هذا العدد فنجد فيه موضوعاً عن النقد الأدبى يتناول بالسخرية شعراء تلك المرحلة ممن عنوا بالتنظير أكثر من عنايتهم بالإبداع تقول “الكلب” فى ذلك العدد :
النقد الأدبى : الشعراء
سبحان من بذر المواهب فى الرؤوس من الولادة /
ومن النباهة والغباء المحض .. لم يحرم عباده /
وأتى الى الشعراء يخلع عنهمُ صفة البلادة /
فرآهم جيلا فجيلا يجنحون إلى الزيادة /
مثل الجراد تكاثرا فكأنما تزنى الجرادة /
حسب الدياليكتيك أكثرهم أقلهم إجادة /
أذكاهمُ - فى غير كسرِ النحوِ - لم يخدم بلاده !! /
أو فى البذاءة لفظُها قد صار فى التجديد عادة /
والمفرداتُ لديه من رحم الضياع إلى الوسادة /
للفن محرابُ ولكن حوَّلوه إلى عيادة /
ومن العدد 63 الصادر فى 30/6/1965 نختار ما يلى:
شعار العدد:
جريدة شعرية الأغراض ِ /
وليس فيها أى سطر فاضِ /
شعارها متانةُ القوافى /
وحفظكم من وصْمةِ الإسفافِ /
فى الشعر والفن وفى السياسة /
من دونها سوف تضيع الطاسة /
المقال الافتتاحى "الامتحان" :
يكرم الإنسان دوما أو يهان
مثل صار قديما حكمة
ليس من أجل التلاميذ فقط
كلهم ينجح فى شئ وفى
طالب يسقط فى الفحص وقد
وفتاة نجحت فى ثوبها
ثم صارت زوجة وامتحنت
وفتاة تبهر العين بها
وإذا حادثتها ألفيتها
ووزير ناجح فى طقمه
وتراه غير ماشٍ حاله
والحكومات لها فحص إذا
بعضها يسقط قومياً، وفى
والتى تسقط ثوريا وفى الـــ
عندما يأتى أوان الامتحان
لم تزل تروى على مر الزمان
إنما تعنى فلانا وفلان
آخر الأشياء يكبو ويدان
كان فى الشارع أذكى دنجوان
حاسرا تظهر منه الركبتان
فهوت لم تجد فيها الدورتان
قَصَّة الشَّعْر وتخضيب البنان
عقلها فى نصف حجم الكشتبان
فى الاتيكيت وفى الحَكْي كمان
فى شؤون الحكم ، للحكم أوان
أعلنت خطتها ضمن بيان
درس "إسرائيل" فى السقطة شان
ـعدد القادم تحديد المكان
ومن العدد 104 الصادر عام 1970:
شعار العدد:
جريدة بالفعل جد راقية
رفاقها راحوا وظلت باقية
كالريح كانوا وهى مثل الساقية
لأننا نصدرها بالقافية
إعلان رسمى:
شخص هنا أعلن عن نفسه
وأنت قلده وكن مثله
فصار فى مدة شهر وزيرا
تجد على بابك حالا خفيرا
طلب انتساب
منصور الرحبانى يتقدم بطلب انتساب إلى أسرة "الكلب":
تقدم منصور يريد انتسابه
ونفحص صوت العضو قبل دخوله
إلى "الكلب" عضوا فى جريدتنا الغرا
فان لم يكن حلو النباح بقى برا
من "ابن الكلب" إلى منصور الحبانى بمناسبة تقاعسه عن أداء واجبه الصحفى بوصفه مراسل الجريدة فى بيروت:
إلى مراسلنا فى أرض لبنان......وعضو أسرتنا منصور رحبانى
جريدة "الكلب" فى الفيحاء عاتبة ......على تقاعسه قد مر شهران
إنا قبلناك عضوا فى جريدتنا.......لكي ببيروت تغدو صوتها الثاني
مجىء "كي" قبل " بيروت" هنا لغة" .......سعيد عقل بهذا النسج أوصانى
منصور لا تتكاسل إن أسرتنا........
نباح حضرتكم - نعنى نشاطكم
اكتب لنا، ولتكن شعرا رسائلكم
ابدأ بأخبار أهل الفن إنهم
ما كل من دق طنبورا غدا عَلَماً
للكلب رأى ورأى الكلب محترم
أما البقية فالرحمن يكلؤهم
نور صحيفتك الغراء واحكِ لنا
غدا سيصدر ممتازا لنا عدد
وعضو أسرتنا منصور رحبانى
على تقاعسه قد مر شهران
لكى ببيروت تغدو صوتها الثانى
سعيد عقل بهذا النسج أوصانى
بنت الكفاح تعادى كل كسلان
له على الصفحة الأولى عمودان
فكل أنبائنا شعر بأوزان
فى رأينا واحد يسوى أو اثنان
فيه ولا ولا كل نواح بفنان
فى العصر سيد درويش ورحبانى
قد بهدلونا زرافات كوحدان
عن السياسة برانى وجوانى
ولا لزوم لتفصيل وتبيان
ولقد توفى صدقي إسماعيل فى يوليو 1972 وبوفاته توقفت جريدته عن الصدور مع أنها بقيت فى الصدور كما يقول الشاعر سليمان العيسى فى تقديمه للمجلد الذى ضم أعدادها والذى أضاف إلى تراثنا الفكاهى ثروة هائلة ما أجدرها بالدراسة والإنصاف.
ولو مدَّ الله في العمر سنخصص مقالا تاليا فيه مزيد من المختارات من تلك التجربة الفريدة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى