د. محمد عبدالله القواسمة - أين الجمال الذي سينقذ العالم؟

العبارة الشهيرة "الجمال سينقذ العالم" وردت في رواية دوستويفسكي "الأبله" على لسان الأمير ميشكين. وقد احتار النقاد والمفكرون في فهمهم لهذا الجمال وكيف سينقذ العالم ومم سينقذه؟ فهل الجمال المقصود جمال المرأة، أم جمال الطبيعة، أم جمال الحق، أم جمال الكون بما فيه من نجوم وكواكب، أم جمال الفن، أم جمال الروح؟

من الواضح أن دوستويفسكي ليس بعيدًا عما قصده بطل روايته الأمير ميشكين، الذي هو الشخصية الأولى في الرواية، فقد حمّلها أفكاره الرئيسية حول الخير والفضيلة والقيم الإنسانية والأبدية.

إن مفهوم دوستويفسكي للجمال لا ينفصل عن مفهوم الأخلاق الفاضلة التي اتصف بها ميشكين، كما المسيح من لطف وتضحية وعمل الخير، والتعاطف مع البؤساء والفقراء، وتخفيف المصائب البشرية.

إن ما يركز عليه دوستويفسكي في أعماله كلها يتشابه مع ما يؤكد عليه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804)، الذي تبنى مفهوم القانون الأخلاقي الذي بداخلنا، أي الجمال الروحي.

على كل حال أيًا كان نوع الجمال الذي يقصده دوستويفسكي في مقولة الأمير ميشكين، فلا أرى على المدى القريب على الأقل ما يوحي بوجود الجمال الذي سينقذ البشرية مما فيها من مشاكل ومصائب وحروب وأوبئة وتردٍ في مختلف المجالات.

إذا كان ما يقصده دوستويفسكي بالجمال المنقذ جمال الطبيعة فإن الطبيعة شوهها الإنسان؛ إذ هاجمها بآلياته المتوحشة، وأزال جبالها ليمهد لسياراته وقطاراته الأرض، وقطع أشجارها ليكسب المال، وعبث ببحيراتها وأنهارها، فلوثها بسفنه ونفطه.

وإذا كان الجمال المقصود جمال المرأة فإن المرأة نفسها قد غيبت جمالها، حين لجأت إلى العمليات الجراحية والمحسنات الصناعية؛ لتغيير خلقة الله التي أوجدها عليها، لقد ارتضت أن تكون مثل شجرة الميلاد مثقلة بالأضواء والاكسسوارات والرتوش. ففقدت صفاتها الأنثوية التي تنير الحياة وتبهجها.

وإذا كان الجمال المقصود يكمن في الحق فقد ضاعت الحقوق في كل مكان من فلسطين إلى العراق إلى اليمن إلى سوريا وبحر البلطيق، وكثرت الاعتقالات والسجون والاغتيالات وحالات الاغتصاب، وتزايد عدد المشوهين من الأطفال والفتيان بفضل الحروب، التي كثرت إثرها مصانع الأطراف الصناعية.

وإذا كان الجمال في الكون فإن الإنسان غير لون السماء ولوثها بغازاته، وأزعج النجوم والكواكب بطائراته النفاثة وصواريخه البالستية العابرة للقارات والحدود، وأصبحنا على وشك انفجار نووي يهدد كوكب الأرض.

و إذا كان الجمال في الفن فالشعر تحول إلى إيقاعات فارغة، وتضاءلت قيمته، والرواية التي عولنا عليها عدة عقود في نشر الجمال راحت تنزلق إلى الحضيض؛ فلم تعد تعبر عن صمود الإنسان في معركة الحياة، وقتلتها السياسة والتفاهة. أما الموسيقى فابتعدت عن الروح، واقتربت من الجسد الذي استجاب لها حتى صار مثل فزاع الحقول لا يتقن غير التمايل أو الرقص الشهواني. لم ينجح جمال الفن للأسف أن ينقذ حتى مبدعيه من الألم، في مقدمتهم دوستويفسكي نفسه. فقد عاش تحت وطأة الإدمان ولعب القمار ونوبات الصرع. وكذلك كثير غيره من الأدباء والفنانين لم يجنبهم جمال الفن والأدب الوقوع في براثن الكآبة، ولم يساعدهم على مواجهة مصاعب الحياة وتقلباتها. فرأينا تولستوي يهرب من أسرته ليموت في محطة للقطار، ورأينا همنجواي يطلق الرصاص على رأسه، ورأينا أدباء آخرين يعيشون حياة منحلة مثل الشاعر بيرون وأوسكار وايلد وجان جينه، وبودلير الذي عمل تاجرًا للعبيد. ولم ينج من الكآبة ومشاعر القلق العقاد ونجيب محفوظ وبيتهوفن وغالب هلسا وغيرهم.

وإذا كان الجمال عند دوستويفسكي في الروح، وهو المرجح، فإن الروح البشرية بدأت في التحطم والابتعاد عن مرجعها الأساسي الله، حين لجأ الإنسان إلى تغيير معتقداته ودياناته، وذهب في الشر كل مذهب؛ فانتشر الفساد والسلب، وظهرت العنصرية والقتل على الهوية.

لا شك في أن مقولة دوستويفسكي :"الجمال سينقذ العالم" مقولة واقعية تجعلنا ندرك أن أي نوع من الجمال ذو ترابط وثيق بغيره، وأنه سيينقذ إذا ساد العالم، وتعمّقَ الروح الإنسانية، فعلى سبيل المثال فإن جمال المرأة الحقيقي يبعث في نفس من يحسه القدرة على الإحساس بجمال كل شيء في الطبيعة والحياة والمجتمع، ويبعث في الإنسان السعادة والهدوء؛ فلا يقدم على الكراهية وإشعال الحروب والبغضاء. لكن المأساة أن الإنسان لم يعد يحس بالجمال، وصار عدوًا لنفسه في الدرجة الأولى بجشعه وطمعه والتفكر بذاته ومركزيته في الكون، وصار عدوًا للطبيعة والفن والحق. وكانت النتيجة أن زال الجمال وحل محله القبح الذي سيدمر العالم؛ لأنه لا يعني غير الخراب والفساد والشر والفوضى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى