د. مصطفى رجب - الشاعر الحلاَّق المبدع

كان صاحبنا شاعرا، وقصاصا، ومثَّالا (صانعا للتماثيل)، وكل ذلك لا تقوم به حياة، ولا يجلب غير الصخب ، ويجانب طرق أكل العيش أشد المجانبة ، لذلك اتخذ ذلك الشرقاوي الجميل ابن الأربعين عاما مهنة الحلاقة مصدرا لأكل العيش، فافتتح لنفسه صالونا في شبرا أسماه "صالون الحرية"، وعرف المثقفون الطريق إلى صالونه ، ليسعدوا بالحوار معه ، وهو لم يتلق من التعليم سوى ما حصَّله في "المكتب " قبل أن ينقطع عنه في سنّ العاشرة ليتفرغ للحلاقة والقراءة الحرة ونظم الشعر وكتابة القصة والنحت !!
وكان من أكثر مشاغبيه الشاعر المبدع العوضي الوكيل رحمه الله ، فقد كان هو أيضا محبًّا للنكتة والمزاح ، وذات مناسبة ، جاء الشاعر العوضي الوكيل ليساوم هذا الحلاق الشاعر مساومة ظالمة ، فهو يريد منه أن يقص له رأسه ، ورؤوس أولاده ، وبعض أقاربه المقيمين عنده مقابل أربعة قروش فقط لكل رأس ، فسجَّل شاعرنا الحلاق تلك المساومة في قصيدة قال فيها :
يساومني العوضيًّ في حلْقِ رأسه =. وبضع رؤوسٍ قد تجاوزت العَشْرا
ويعرض لي أجرًا على الرأس أربعًا = من الصاغ "أقبضها " ويستكثر الأجرا
فقلت : وهل يرضى الذي أنت قلتَه = زميلٌ ، سيقضي في رؤوسكمُ شهرا ؟
وكيف ؟ وأنتم في البريد موظَّفٌ = كبيرٌ، و "تسكنْ" في القصور وفي شبرا
وتزهو على الخلان في الصبح والمسا = كأنك قارونٌ. ووالدكم كسرى!!
تعال مكاني، أنت أولى بمهنتي = وخذ هذه "موساي" أنت بها أدرى!!
وفي المساء جاءه الشاعر العوضي الوكيل ، فأسمعه الحلاق هذه الأبيات ، فاغتاظ العوضي رحمه الله ، وردّ عليه بأبيات عنيفة مطلعها:
ألا قل لحلاق تفرعن في شبرا = أما كنتَ في بلبيس تحلقُ بالأذرا؟ [بالذُّرَة)
وظلا يتهاجيان بالشعر ، حتى فسدت العلاقة بينهما لولا تدخل الأديب الوزير دسوقي أباظة باشا بينهما.
ومن نوادر شعر هذا الحلاق الفنان ، (واسمه الحاج حسن البطريق) هجاؤه لشاعر معروف أنكر عليه شاعريته ، وكان يقول له ساخرا مُهينًا : مَنْ أنت حتى تكتب الشعر يا حلاق ؟ فهجاه شاعرنا قائلا:
إنْ كنتَ يا " هلفوتُ " تجهلُ مَنْ أنا = فأنا القذى لعيونك الرمداءِ
والشمس يُنكرها مثيلُك حاسدًا = فلقد نَبَتْ في عينك العمياءِ
أتقولُها – من غير ذوقٍ – مَنْ أنا؟ =.يا أبلهًا في الشعر والإلقاءِ؟؟
واللهِ لولا بعضُ وُدٍّ بيننا = حُمِّلْتُه عبئًا على أعبائي ...
لأطحتُ رأسَك ! واحتوتْكَ ملمةٌ = مني، وقالَ الحقَّ فيك: حذائي!!!
وبعد أن نظم شاعرنا الحلاق هذه الأبيات ، ذهب بها إلى دسوقي باشا أباظة ، وكان يجلس معه ساعتئذ الأديب السياسي الفكه حفني محمود باشا ، شقيق محمد محمود باشا رئيس وزراء مصر الأسبق ، فلما سمعها الوزيران منه ، أعجبتهما ، وأعطاه حفني باشا محمود خمسة جنيهات مكافأة !!
وحدث ذات مرة أن شاعرنا الحلاق هذا ، زار صديقا له في منزله ، قبيل عيد أضحى ، فوجد أمام بيت صديقه ذاك خروفا اشتراه صديقه ذاك ليذبحه في عيد الأضحى ، فنظم أبياتا طريفة ارتجلها قبل أن يغادر بيت صديقه يقول فيها :
حباك الإله بعُمْرٍ طويلٍ = وخيرِ الخرافِ بمرِّ السنينْ
وبعدُ ، فقد بِتُّ في ليلتي = أغازلُ طيفَ الخروفِ السمينْ!!
فخَصِّصْ لنا منه " سَقْطَ " المتاعِ = وما نحنُ في غيره طامعونْ!!
هذا هو الشاعر الحلاق الرائع المثَّال القصصي صاحب صالون الحرية ، الذي إذا زاره أحد ليستمع إلى شعره ، ترك الصابون على ذقن أي زبون ، وتفرغ للزائر المستمع يتلو عليه من أشعاره ، أو مما يحفظ ...
هذا الشاعر كان عمره أربعين عاما يوم نشرت عنه مجلة " الاثنين والدنيا " عام 1954قصته وصورا له مع تماثيله ، أو وهو يحلق لبعض زبائنه .. فهل مازال حيا ؟ أو مازال أحد يعرف شيئا عنه وعن تراثه ؟ من البلابسة او الشراقوة ؟ !!



=============
تجدون هنا صورتين لهذا الشاعر إحداهما وهو يقص شعر أحد زبائنه ، والأخرى وهو منكبٌّ على تمثال مما يصنّعه . رحمه الله إن كان رحل ، وبارك فيه إن كان ما يزال حيا . ورزقنا الله فارسا شرقاويا يأتينا بأخباره .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى