عبد المتعال الصعيدي - سر مجهول في تحريم لحم الخنزير - 2 -

ويمكننا بعد هذا أن نحكم بأن الخنزير من جنس السباع مثل الكلب، لأنا إذا جرينا على ما جاء في القاموس من أن السبع هو المفترس من الحيوان فالخنزير يفترس الحيوانات كالسبع، خصوصاً إذا لم يجد ما يأكله من العشب. فإنه يصير إلى أن يكون آكل لحوم، فيفترس الحيوانات الحية، ويأكل من لحومها، كما جاء في كتاب (الحجج البينات في علم الحيوانات)

وكذلك إذا جرينا على ما جاء في كتاب النهاية لابن الأثير من أن السبع هو ما يفترس الحيوان ويأكله قهراً وقسرا، لأن هذا يوجد في الخنزير أيضاً، أما إذا جرينا على ما ذكره أبو حنيفة من أن كل ما أكل اللحم فهو سبع فأمر الخنزير في السبعية عليه أظهر، لأنه لا يشترط فيها الافتراس كما اشترطه فيها غيره، بل يكتفي فيها بأكل اللحم، ولذلك عد الفيل ونحوه من جنس السبع

فأما إذا جرينا على ما ذكره الشافعي من أن السباع المحرمة هي التي تعدو على الناس فإنا نجده ضيق في ذلك بما لم يضيق به غيره، ولكن الخنزير يدخل في السباع على ذلك أيضاً، لأن الخنازير كثيراً ما تجاهر الناس العداء وتحمل على الإنسان بدون أن يغيضها، كما جاء في دائرة معارف البستاني

على أن الحديث الوارد في تحريم (كل ذي ناب من السباع فأكله حرام) يظهر منه أن لأنياب السباع أثراً في تحريمها، بل الظاهر منه أنها هي العلة في هذا التحريم. ولاشك أن هذه العلة في الخنزير اظهر منها في سائر السباع لأن قوة نابه لا توجد في غيره منها، وقد بلغ من أمرها أن يتغلب بها أحياناً على الأسد، كما جاء في كتاب حياة الحيوان وغيره من الكتب القديمة والحديثة في علم الحيوان

وإذن يكون تحريم لحم الخنزير لسبعيته، وتكون هذه السبعية هي التي جعلت الإسلام ينظر إليه هذه النظرة البغيظة. وإذا كان الإسلام قد أهتم بأمره أكثر من غيره من السباع فأنزل تحريمه في القرآن الكريم، وحكم بنجاسته مع تحريمه ولم يحكم بنجاسة غيره من جنسه، فإن الجاحظ رحمه الله قد بين حكمة ذلك في كتاب الحيوان (ج4 ص13) وإن كانت هذه الحكمة قد جاءت في الموازنة التي عقدها بينه وبين القرد، لا فيما نحن بصدده من ذلك الأمر السابق؛ وهذا ما قاله في تلك الحكمة: إنما خص الخنزير بالذكر دون القرد مع استوائهما في المسخ لما فيه من قبح المنظر، وسماجة التمثيل، وقبح الصوت، وأكل العذرة مع الخلاف الشديد، واللواطة المفرطة، والأخلاق السمجة. وقد زعم ناس أن العرب لم تكن تأكل القرود، وكان بعض كبار القبائل وملوكها يأكلون الخنزير، فأظهر الله لذلك تحريمه إذ كان هناك عالم من الناس، وكثير من الأشراف والوضعاء، والملوك والسوقة، يأكلونه أشد الأكل، ويرغبون في لحمه أشد الرغبة.

ثم ذكر أن الخنزير يكون أهلياً ووحشياً كالحمامير والسنانير مما يعايش الناس، وكلها لا تقبل الآداب، وأن الفهود وهي وحشية تقبل كلها ذلك، كما تقبله البوازي والشواهين وغيرها، والخنزير وإن كان بهيمة فهو في طباع ذئب

فهذه الخصال التي اجتمعت في الخنزير هي التي جعلت الإسلام يهتم بأمر تحريمه ذلك الاهتمام؛ والمهم منها في نظرنا ما ذكره الجاحظ من شغف كثير من الناس بأكل لحمه واستطابته فإن هذا في الحقيقة هو الذي اقتضى أن يعنى بأمر تحريمه في الإسلام هذه العناية.

وقد أجمع الفقهاء بسبب ذلك على تحريم لحم الخنزير واختلفوا في تحريم لحم غيره من السباع، لأنه لم ينص على تحريمها في القرآن كما نص على تحريمه، ولكن جمهورهم على تحريم لحمها أيضاً، ومن خالفهم في ذلك قال بكراهة لحمها دون تحريمه. وقد اختلفوا أيضاً في تحريم الخنزير البحري، قال الربيع: سئل الشافعي رضي الله تعالى عنه عن خنزير الماء، فقال: يؤكل

وروي أنه لما دخل العراق قال فيه حرمه أبو حنيفة وأحله ابن أبي ليلى، وروي هذا القول عن عمر وعثمان وابن عباس وغيرهم، وقد أبى مالك أن يقول فيه شيئاً، وأبقاه مرة أخرى على جهة الورع. وحكى ابن أبي هريرة عن ابن خيران أن اكاراً صاد له خنزير ماء وحمله إليه فأكله، وقال كان طعمه موافقاً لطعم الحوت سواء. وقال ابن وهب سألت الليث بن سعد عنه فقال: إن سماه الناس خنزيراً لم يؤكل، لأن الله حرم الخنزير وهذه العلة التي ذكرناها في تحريم لحم الخنزير قد علل بها تحريم لحم الكلب أيضاً، ولا يخفى أن الخنزير والكلب يتساويان في نظر الشارع من هذه الناحية. وقد صرح ابن حميد السالمي الفقيه الإباضي بهذه العلة في تحريم لحم الكلب فقال في باب أحكام صنوف الحيوانات من أرجوزته المسماة (جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام)

وما الكلابُ عندنا حلالُ ... ولا السَّنانير كما يقالُ

لأنها من السباع الضارية ... وبعضهم أحلها علانَيه

وهذه العلة أظهر في الخنزير من الكلب، لأنها تعتمد على وجود الناب الذي يحصل الافتراس به، وقد سبق أن الخنزير أقوى الحيوان ناباً، حتى إنه يتغلب بقوة نابه على الأسد وغيره

أما حكمة تحريم لحم السباع فحفظ الإنسان من صفاتها الوحشية المنافية لبقاء العمران، لأن غذاء الإنسان له تأثير كبير في صفاته وأخلاقه. وقد غالى بعض الشرائع فحرم لحم الحيوان مطلقاً لأنه يورث في نفوس البشر ما يورث من القسوة والغلظة. والشريعة الإسلامية تنظر إلى لحم الحيوان نظرة معتدلة، فتبيحه في اعتدال ولا تحرمه على أهلها. وقد روي أن من داوم على أكل اللحم أربعين يوماً قسا قلبه. وقيل في ذلك أيضاً (إنما أهلك الناس الأحمران النبيذ واللحم) وعن عمر رضي الله عنه قال: إياكم واللحم فإن له ضراوة كضراوة الخمر وإن الله يكره أهل البيت اللحميين. ولعل الأيام المقبلة تظهر في تحريم لحم السباع حكماً أخرى غير هذه الحكمة.

عبد المتعال الصعيدي

مجلة الرسالة - العدد 200
بتاريخ: 03 - 05 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى