أصابع الإتهام كلها تشير إلى أم بغدادي ، فهى إمرأة مفلوتة اللسان لا تبتل فى فمها فولة ، وقد شوهدت تجلس إلى أم منصور فى نفس اليوم ، بل وتؤكد جملات الخياطة بأنها شاهدت أم بغدادى فى المقبرة وهى تهمس في أذن أم منصور ، وبعدها مباشرة أصيبت المرأة بما يشبه اللوثة ، إذ خبطت على صدرها ، ثم أخذت تدور على القبور وهي تولول ، واستمرت في دورانها حتى سقطت مغشيا عليها وفاضت روحها .
ورغم الإجماع على اتهام أم بغدادى فإنها تقسم بنور عينيها أنها لم تفعل ، وتدلل على ذلك بقولها أنها لم تكن تعرف .. فكيف تخبر أم منصور بأمر هى نفسها لا تعرفه ، ومع ذلك استمرت البلدة في الإشارة إلى أم بغدادى بأصابع الإتهام ، فالمرأة لا تخفى عنها خافية ، وهي بحكم عملها كقابلة تدخل كل البيوت ، وفى البيوت لا تكتفى بتوليد النسوة فحسب بل تحرص أيضا على نقل الأخبار والأسرار من بيت إلى أخر .
جاءت أم منصور مع زوجها نور الدين من الصعيد ، واستوطنت بلدتنا في البحر الأحمر ، وعمل الزوج فراشا فى المدرسة الابتدائية ، بينما كانت الزوجة تعينه بجمع القروش من ختان البنات ، وفى البلدة انجبت ولدها منصور وابنتها حميدة ، وعندما نجح منصور فى الثانوية العامة ، رأى الرجل أن يكتفى الولد بهذا الحظ من التعليم ، فمصاريف الجامعة باهظة ، والبنت حميدة ، التى لم تفلح في المدرسة على وشك الزواج ، وزواج البنات معضلة لا ينبغى أن تقترن بمعضلة أخرى ، ولكن المرأة اقسمت برأس أبيها أن يدخل منصور الجامعة مهما تكلف الأمر ، حتى لو قعدت لها حميدة في الديار بلا زواج ، وكما اعتاد الزوج الطيب أن يرضخ أمام عنادها ، فقد رضخ هذه المرة أيضا ، ووافق على مضض فى بداية الأمر ، ثم لم يلبث أن تملكه الحماس للفكرة ، بعد أن فتح الله عليه برزق جديد لم يكن في البال ولا في الخاطر .. البليلة .. تصنعها أم منصور فى المساء ، ويبيعها الرجل لعيال المدرسة في الصباح ، وسافر منصور للقاهرة ليلتحق بكلية الصيدلة ، وطارت رسائل الأم إلى الصعيد ، تبث الأشواق للأهل وتفاخر بنبوغ الولد .
لازلت أذكر أول مرة كتبت فيها رسالة لأم منصور .. كنا مجموعة من الصبية نلعب الكرة عندما تصادف مرور المرأة بالقرب منا ، وكان نصيبها ضربة قوية من الكرة في وجهها ، وهرعنا إليها معتذرين نطلب الصفح : "حقك علينا يا خالة" ، ودهشنا لأن المرأة لم تغضب بل ابتسمت وهى تعيد إحكام الطرحة حول رأسها ، ثم قالت بنبرة حانية : "معلش يا ولدى.. بس خدوا بالكم أحسن الكورة تخبط في عين حد" .. و همت بالإنصراف ثم تريثت وبادرتنى قائلة : "بتعرف تفك الخط يا حسين ؟".. أومأت ، واجبتها بنبرة امتزج فيها الاستنكار بالزهو: "أنا في سنة رابعة يا خالة" ، فربتت على كتفى وكأنها تعتذر ، ثم قالت بنبرة لا تخلو من رجاء : "زين.. عايزاك تكتب جواب لأخوك منصور .. أصل اختك حميدة خطها عاجز". شعرت بالزهو لأن المرأة اصطفتنى من بين عيال الحى لأخط لها الرسائل ، وفى عصر نفس اليوم كنت أجلس إلى منضدة متهالكة بمنزلها لأخط لها رسالتين واحدة لمنصور والأخرى للأهل فى الصعيد ، بينما جلست المرأة إلى يسارى تمليني ما أكتب ، ورغم أنها كانت أمية ، إلا أنها دأبت على التوقف فجأة عن الإملاء لتمعن النظر فيما كتبت ، ثم تقول لى مشجعة : "ماشاء الله.. ربنا يحرسك من العين" .
كانت رسائل أم منصور إلى أهلها فى الصعيد تبدأ ببث الشوق : " نحن مشتاقين لكم .. كما الزرع يشتاق للماء .. وكما العليل يشتاق للشفاء" .. كما كانت تنتهى غالبا بعبارة ثابتة لا تتغير: "ومن عندنا يهديكم السلام نور الدين .. والدكتور منصور .. وبنتكم حميدة ، وربنا يجمعنا بيكم على خير وسلامة" . أما رسائلها إلى الدكتور منصور ، كما كانت تدعوه فكانت تبدأ بنفس البداية تقريبا .. وإن كانت تنتهى بعبارة مختلفة : "بص على دروسك يا ولدى ربك يهون الصعيب .. وترجع لى دكتور تداويني من وجع الراس وتعالج ركبة أبوك" ، أما وسط الرسالة فكان يختلف حسب الظروف ، وإن كانت هناك بعض الجمل التى تتكرر كالتعويذة في أغلب الرسائل : "وامسك أيدك عن المصاريف .. أبوك طافح المرار .. مسكين بيرمح طول النهار .. وأختك حميدة عشمانين نجوزها .. والجيزة يعنى كوم فلوس .. وربك يكفينا شر الضيق .. ونشاف الريق" .
كنت إذا مررت بأم منصور وبادرتنى قائلة : "يسلم" عليك أخوك "منصور" أعتبر ذلك دعوة منها لكى أخط رسالة لمنصور ، وكنت لا أتردد قط في تلبية الدعوة ، فقد دأبت المرأة على مكافأتي دائما بحفنة من الحلوى ، إذ كانت تحتفظ بعدد كبير من علب الحلوى ، مما يهديه إياها أهل البنات المختونات ، وكانت المكافأة تأتينى عادة من الحلوى الرخيصة ، أما علب الحلوى الغالية فكانت تبيع بعضها سرا للبقال ، وتعيد إهداء بعضها الآخر للنسوة فى الأعراس والمناسبات السعيدة ، وفى الحالات النادرة التي كان يخلو فيها الصندوق من الحلوى ، كنت أفوز في الغالب بطبق من بقايا البليلة التي يعود بها الزوج من المدرسة ، وفي جميع الأحوال كانت المرأة تودعني بنبرة ممتنة حانية : "متشكرين يا ولدي .. ربنا يخليك لأمك" .
في ذلك الوقت كانت حرب الإستنزاف على أشدها ، وتعرضت البلدة لغارات جوية وبحرية متصلة ، لقصف المواقع العسكرية ، وأحيانا لتدمير المرافق الحيوية كخزانات النفط أو محطة تحلية المياة .
و فى سلسلة هذه الغارات .. هبطت دبابات إسرائيلية إلى منطقة الزعفرانة التى تقع إلى الشمال من البلدة ، وسارت الدبابات على طريق الأسفلت وهى تحصد برشاشاتها السيارات المدنية .. فى نفس اللحظة كانت سيارة الأجرة البيجو التى يستقلها منصور ، بعد أن قضى أجازة نصف العام مع أسرته ، قد غادرت البلدة واتجهت شمالا في طريقها للقاهرة ، وعند ذلك المنحنى الذى يسبق الزعفرانه بخمسة كيلو مترات ، فوجئ السائق بالدبابات ، فأخرج ذراعه من النافذة يلوح للدبابات المصرية ، حسب ظنه ، وما حدث بعد ذلك معروف ، فقد أطلقت إحدى الدبابات رشاشاتها على السيارة فقتل السائق وجميع الركاب السبعة ، ولم تكتف الدبابة بقتل الركاب ، بل طحنتهم بجنازيرها فوق الأسفلت .
وتحكى أمى أنه عندما علمت أم منصور بالخبر تجمدت ملامحها برهة ، ثم ذاب الجمود بأن تلاحقت أنفاسها ، وندت عنها صرخة واحدة سقطت على أثرها مغشيا عليها ، ولم يفلح البصل ولا العطور فى أفاقتها ، ولكن عندما أفاقت فى اليوم التالي سارعت إلى قدر البليلة فألقت به إلى الشارع ، ثم أخذت تلطم بكفيها على جانبي رأسها وهي تولول حتى أدمت أذنيها وأطاحت بقرطها ، وتضيف أمى أن المرأة ظلت تبكي حتى صارت بشرتها البيضاء فى لون النخالة ، ولازمت بيتها أربعين يوما ، عزفت خلالها عن الكلام والطعام ، ولولا النسوة اللاتى كن يدفعنها دفعا لتناول الفتات والعصير لماتت المرأة جوعا .
وطوال عشر سنوات ظلت المرأة مواظبة على زيارة ما تعتقد أنه قبر منصور ، حتى جاء من همس في أذنها بأنه ليس مؤكدا أن ولدها يرقد في ذلك القبر بالذات ، لأن بقايا الجثث كانت بلا معالم ، ودفنت على عجل في أعقاب الغارة ، وبالتالي فمن المحتمل أن يكون ولدها فى أى قبر من تلك القبور ، بل من المرجح أن يكون جسده ممزقا بين أكثر من قبر واحد .. ورغم أن أصابع الإتهام كلها تشير إلى أم بغدادى .. المرأة التى لا تبتل فى فمها فولة .. فإنها تقسم بنور عينيها أنها لم تفعل .
ورغم الإجماع على اتهام أم بغدادى فإنها تقسم بنور عينيها أنها لم تفعل ، وتدلل على ذلك بقولها أنها لم تكن تعرف .. فكيف تخبر أم منصور بأمر هى نفسها لا تعرفه ، ومع ذلك استمرت البلدة في الإشارة إلى أم بغدادى بأصابع الإتهام ، فالمرأة لا تخفى عنها خافية ، وهي بحكم عملها كقابلة تدخل كل البيوت ، وفى البيوت لا تكتفى بتوليد النسوة فحسب بل تحرص أيضا على نقل الأخبار والأسرار من بيت إلى أخر .
جاءت أم منصور مع زوجها نور الدين من الصعيد ، واستوطنت بلدتنا في البحر الأحمر ، وعمل الزوج فراشا فى المدرسة الابتدائية ، بينما كانت الزوجة تعينه بجمع القروش من ختان البنات ، وفى البلدة انجبت ولدها منصور وابنتها حميدة ، وعندما نجح منصور فى الثانوية العامة ، رأى الرجل أن يكتفى الولد بهذا الحظ من التعليم ، فمصاريف الجامعة باهظة ، والبنت حميدة ، التى لم تفلح في المدرسة على وشك الزواج ، وزواج البنات معضلة لا ينبغى أن تقترن بمعضلة أخرى ، ولكن المرأة اقسمت برأس أبيها أن يدخل منصور الجامعة مهما تكلف الأمر ، حتى لو قعدت لها حميدة في الديار بلا زواج ، وكما اعتاد الزوج الطيب أن يرضخ أمام عنادها ، فقد رضخ هذه المرة أيضا ، ووافق على مضض فى بداية الأمر ، ثم لم يلبث أن تملكه الحماس للفكرة ، بعد أن فتح الله عليه برزق جديد لم يكن في البال ولا في الخاطر .. البليلة .. تصنعها أم منصور فى المساء ، ويبيعها الرجل لعيال المدرسة في الصباح ، وسافر منصور للقاهرة ليلتحق بكلية الصيدلة ، وطارت رسائل الأم إلى الصعيد ، تبث الأشواق للأهل وتفاخر بنبوغ الولد .
لازلت أذكر أول مرة كتبت فيها رسالة لأم منصور .. كنا مجموعة من الصبية نلعب الكرة عندما تصادف مرور المرأة بالقرب منا ، وكان نصيبها ضربة قوية من الكرة في وجهها ، وهرعنا إليها معتذرين نطلب الصفح : "حقك علينا يا خالة" ، ودهشنا لأن المرأة لم تغضب بل ابتسمت وهى تعيد إحكام الطرحة حول رأسها ، ثم قالت بنبرة حانية : "معلش يا ولدى.. بس خدوا بالكم أحسن الكورة تخبط في عين حد" .. و همت بالإنصراف ثم تريثت وبادرتنى قائلة : "بتعرف تفك الخط يا حسين ؟".. أومأت ، واجبتها بنبرة امتزج فيها الاستنكار بالزهو: "أنا في سنة رابعة يا خالة" ، فربتت على كتفى وكأنها تعتذر ، ثم قالت بنبرة لا تخلو من رجاء : "زين.. عايزاك تكتب جواب لأخوك منصور .. أصل اختك حميدة خطها عاجز". شعرت بالزهو لأن المرأة اصطفتنى من بين عيال الحى لأخط لها الرسائل ، وفى عصر نفس اليوم كنت أجلس إلى منضدة متهالكة بمنزلها لأخط لها رسالتين واحدة لمنصور والأخرى للأهل فى الصعيد ، بينما جلست المرأة إلى يسارى تمليني ما أكتب ، ورغم أنها كانت أمية ، إلا أنها دأبت على التوقف فجأة عن الإملاء لتمعن النظر فيما كتبت ، ثم تقول لى مشجعة : "ماشاء الله.. ربنا يحرسك من العين" .
كانت رسائل أم منصور إلى أهلها فى الصعيد تبدأ ببث الشوق : " نحن مشتاقين لكم .. كما الزرع يشتاق للماء .. وكما العليل يشتاق للشفاء" .. كما كانت تنتهى غالبا بعبارة ثابتة لا تتغير: "ومن عندنا يهديكم السلام نور الدين .. والدكتور منصور .. وبنتكم حميدة ، وربنا يجمعنا بيكم على خير وسلامة" . أما رسائلها إلى الدكتور منصور ، كما كانت تدعوه فكانت تبدأ بنفس البداية تقريبا .. وإن كانت تنتهى بعبارة مختلفة : "بص على دروسك يا ولدى ربك يهون الصعيب .. وترجع لى دكتور تداويني من وجع الراس وتعالج ركبة أبوك" ، أما وسط الرسالة فكان يختلف حسب الظروف ، وإن كانت هناك بعض الجمل التى تتكرر كالتعويذة في أغلب الرسائل : "وامسك أيدك عن المصاريف .. أبوك طافح المرار .. مسكين بيرمح طول النهار .. وأختك حميدة عشمانين نجوزها .. والجيزة يعنى كوم فلوس .. وربك يكفينا شر الضيق .. ونشاف الريق" .
كنت إذا مررت بأم منصور وبادرتنى قائلة : "يسلم" عليك أخوك "منصور" أعتبر ذلك دعوة منها لكى أخط رسالة لمنصور ، وكنت لا أتردد قط في تلبية الدعوة ، فقد دأبت المرأة على مكافأتي دائما بحفنة من الحلوى ، إذ كانت تحتفظ بعدد كبير من علب الحلوى ، مما يهديه إياها أهل البنات المختونات ، وكانت المكافأة تأتينى عادة من الحلوى الرخيصة ، أما علب الحلوى الغالية فكانت تبيع بعضها سرا للبقال ، وتعيد إهداء بعضها الآخر للنسوة فى الأعراس والمناسبات السعيدة ، وفى الحالات النادرة التي كان يخلو فيها الصندوق من الحلوى ، كنت أفوز في الغالب بطبق من بقايا البليلة التي يعود بها الزوج من المدرسة ، وفي جميع الأحوال كانت المرأة تودعني بنبرة ممتنة حانية : "متشكرين يا ولدي .. ربنا يخليك لأمك" .
في ذلك الوقت كانت حرب الإستنزاف على أشدها ، وتعرضت البلدة لغارات جوية وبحرية متصلة ، لقصف المواقع العسكرية ، وأحيانا لتدمير المرافق الحيوية كخزانات النفط أو محطة تحلية المياة .
و فى سلسلة هذه الغارات .. هبطت دبابات إسرائيلية إلى منطقة الزعفرانة التى تقع إلى الشمال من البلدة ، وسارت الدبابات على طريق الأسفلت وهى تحصد برشاشاتها السيارات المدنية .. فى نفس اللحظة كانت سيارة الأجرة البيجو التى يستقلها منصور ، بعد أن قضى أجازة نصف العام مع أسرته ، قد غادرت البلدة واتجهت شمالا في طريقها للقاهرة ، وعند ذلك المنحنى الذى يسبق الزعفرانه بخمسة كيلو مترات ، فوجئ السائق بالدبابات ، فأخرج ذراعه من النافذة يلوح للدبابات المصرية ، حسب ظنه ، وما حدث بعد ذلك معروف ، فقد أطلقت إحدى الدبابات رشاشاتها على السيارة فقتل السائق وجميع الركاب السبعة ، ولم تكتف الدبابة بقتل الركاب ، بل طحنتهم بجنازيرها فوق الأسفلت .
وتحكى أمى أنه عندما علمت أم منصور بالخبر تجمدت ملامحها برهة ، ثم ذاب الجمود بأن تلاحقت أنفاسها ، وندت عنها صرخة واحدة سقطت على أثرها مغشيا عليها ، ولم يفلح البصل ولا العطور فى أفاقتها ، ولكن عندما أفاقت فى اليوم التالي سارعت إلى قدر البليلة فألقت به إلى الشارع ، ثم أخذت تلطم بكفيها على جانبي رأسها وهي تولول حتى أدمت أذنيها وأطاحت بقرطها ، وتضيف أمى أن المرأة ظلت تبكي حتى صارت بشرتها البيضاء فى لون النخالة ، ولازمت بيتها أربعين يوما ، عزفت خلالها عن الكلام والطعام ، ولولا النسوة اللاتى كن يدفعنها دفعا لتناول الفتات والعصير لماتت المرأة جوعا .
وطوال عشر سنوات ظلت المرأة مواظبة على زيارة ما تعتقد أنه قبر منصور ، حتى جاء من همس في أذنها بأنه ليس مؤكدا أن ولدها يرقد في ذلك القبر بالذات ، لأن بقايا الجثث كانت بلا معالم ، ودفنت على عجل في أعقاب الغارة ، وبالتالي فمن المحتمل أن يكون ولدها فى أى قبر من تلك القبور ، بل من المرجح أن يكون جسده ممزقا بين أكثر من قبر واحد .. ورغم أن أصابع الإتهام كلها تشير إلى أم بغدادى .. المرأة التى لا تبتل فى فمها فولة .. فإنها تقسم بنور عينيها أنها لم تفعل .