د. كاميليا عبد الفتاح - المعرّي عاشقًا ، مقاربةٌ نقديةٌ حول تمرئي المرأة في واقع أبي العلاء وطرحه الشعري.

• بَدءُ السعادةِ أنْ لم تُولدِ امرأةٌ = فهل تودُّ جُمادى أنّها رجبُ 1 )
لم يكن هذا البيتُ هو الموضعُ الشعريُّ الوحيد الذي أغرى بعض النقاد بإشاعة فكرة معاداة المعري للمرأة ؛ فقد تردد هذا المعنى في مواضع كثيرةٍ من شعره – و أدبه - منها هذا الموضع الذي يُحرِّضُ فيه الرجال على عدم التزوّج طلبًا لصحة العقل :
إنْ صَحَّ عقلًكَ فالتّفرُّدُ نعمةٌ = ونَوَى الأوانسِ غايةُ الإيناسِ 2 )
كما يوصي الرجل أن يستعين على معاشرة النِّساء بالحيلة والحذر ؛ فالمرأة سليطةُ اللسان خائنة . يقولُ :
أقلُّ الذي تجني الغواني تبرُّجٌ = يُري العينَ منها حليَّها وخضابَها
فإنْ أنتَ عاشرتَ الكِعابَ فصادِها = وحاول رضاهَا واحذرنَّ غِضابَها
فكمْ بكرتْ تسقي الأمرّ حليلَها = م الغار ، إذْ تسقي الخليلَ رضابَها 3 )
و يُشبّهُ العروسَ بالآساد – في الافتراس – ممَّا يترددُ على مدار صوره الشعرية - يقولُ :
وأَرى العروسَ تَحجَّبتْ في خِدرِها = كَمُعرّسِ الآسادِ في الأخدارِ 4 )
• المرأة - في طرح المعرّي – لا تفي بعهد الرجل الضعيف 5) ولا بعهدِ منْ أوهنهُ الشيبُ 6) وهي تتنكّر لأليفها حين تجد الأفضل 7)
• و قد تعدّى موقفَ المعرّي من المرأة حدود الطرح الشعري ليتمثّل عمليًّا في العزوف عن الزواج ممَّا دفعَ بعضَ النقاد إلى افتراضِ رغبته في مجاراة ما ساد في عصره من ذمّ المرأةِ ، بما لا يكفي لتفسير هذا الموقف . وأرى هذا الرأي غير كافٍ لتفسير امتناع المعرّي عن التزوّج ، كما أختلف مع بعض النُّقاد والدارسين الذين فسَّروا هذا العزوف برقّة حال المعرّي وفقره- فقط - فقد كان بإمكان المعري – مع مكانته وانتسابه إلى بيت شرفٍ وقضاءٍ - أن يجد - من النساءِ - منْ تقبل هذا الفقر وترتضي أنْ تعيش بقيمة الريع الذي كان يُحصِّله من بيته ، و يتقاسمه مع خادمه .
إنَّ تأمّل حياة المعرّي يمضي بنا إلى تفسير هذا الموقف بشكلٍ مُغاير و أكثرَ اتّساقًا مع رؤيته الإبداعية التي طرحها حول موقفه من المرأة والواقع وسائر الوجود الإنساني .
• تبرزُ مسألةُ كفِّ بصر المعرّي باعتبارِها الإشكاليةَ الأكثرَ تأثيرًا في علاقته بالمرأة – و حياته عامة – وقد اضطلعت أخبارُه التي وردت على لسان معاصريه بوصف مدى تأزّمه من العماء ، و اضطراب سلوكه أمام الآخرين بسببه. من ذلك ما ذُكرَ من أنّه كان ينزلُ إلى سردابٍ أثناء تناول الطعام – حتى لا يطَّلع عليه أحدٌ – وأنه خرج على تلاميذه – ذات مرةٍ - وجلسَ للإقراءِ وقد نقطَ شئٌ من العسل على صدره ، فمازحهُ أحدهم قائلًا : لعلَّ شيخنا أكل دبسًا ، فأسرع المعري يمسحُ بيده على صدره ويقول : لعنَ اللهُ النّهمَ 9) ثمَّ أنه لم يقرب العسل بعد ذلك . ونتساءلُ : كيفَ لرجلٍ يتحرّجُ من نقط العسل على ملابسه أن يقبل اضطراب سلوكه بسبب العماء أمام امرأته ؟!
أمرٌ ثانٍ يُفسّرُ عزوف المعري عن الزواج ، هو دمامتُه ، فقد سجلت كتبُ الأدب أنَّ كفّ بصره كان نتيجة مرضه بالجدري ، ممَّا ترك في وجهه آثارًا مُشوّهة . وفي شهادة له على ذلك يقول ابنُ غريب الإيادي: " دخلتُ على أبي العلاء ، وأنا صبيٌّ مع عمي أبي طاهر نزورُهُ ، فرأيتُه قاعدًا على سجادةِ لبدٍ ، وهو شيخٌ ، فدعا لي ، ومسحَ على رأسي ، وكأنّي أنظرُ إليه الساعة ، وإلى عينيه : إحداهُما نادرة ، والأخرى غائرة جدا ، وهو مُجدَّرُ الوجه ، نحيفُ الجسم " 10) ولابد أنّ المعرّي كان يعرفُ عن دمامته شيئًا ما ؛ ومن ثمَّ كيفَ له – وهو الشاعرُ الحكيمُ - الذي استغورُ النفسَ الإنسانية وتوجّس منها - إلى حد اتهام الجبلة كلها بفساد الطبع – كيف له - أن يقدمَ على الزواج وهو الأعمى الفقيرُ الدميمُ ؟!
نُضيفُ إلى هذا طبيعة العصر الذي عاش فيه المعرّي ؛ فقد عاش في القرنِ الخامس الذي شهدَ ضعفَ العربِ والإيذان بنهايتهم على يدِ الروم ، وكانت المرأة العربية المسلمة من الثوابت التي ضعفُت في جسد المجتمع الإسلامي - إلَّا من رحم اللهُ - حيثُ سارعتْ إلى تقليد الأعجميات في التَّبرج والغناء والتصدي للرجال بالعشق والغزل ، ممَّا كان سببًا من أسبابِ ذمّ المعرّي للنساء وغيرته – وسخطه - عليهنَّ ، كما كانَ سببًا من أسباب عزوفه عن الزواج ، و المُناداة بتعطيل النسل .
إنَّ غيرةَ المعرّي على المرأةِ تُشكل في ذاتها اتجاهًا متفرّدا في موقفه منها ؛ حيثُ يمتزجُ – ويتضافرُ - في هذه الغيرة شعوره بالحنق عليها والإعزاز لها . من ذلك رفضه خروج المرأة إلى الحج في ظل مخاطر الطرق من قبل الروم ومختلف العصابات 11) كما رصد شعرُه غيرتَه عليها من الجار 12) وتحذيره إيّاها من ارتيادِ الحمَّامات صونًا لها ممن يتربّص بها من الأعاجم ( والحمامات تشبه في عصرنا أماكن التخسيس بالبخار وعمل المساج ) :
ولا تلجنّ الحمام ، قد جاء ناصحٌ بتحريمه من قبل أن يفسد الناسُ
فكيف به لمّا اغتدى في طريقه رجيبٌ وحواش وتنجٌ وأشناسُ
تمازج بالعرب الأعاجمُ والْتَقى على الغدر أنواعٌ تُذمّ وأجناسُ
إلى أن يقول :
تخافين شيطانا من الجن ماردا وعندك شيطان من الإنس خناسُ 13 )
، ورغم عزوفه عن الزواج كان ينصحُ بالمسارعة في تزويج الفتيات إعفافًا لهنّ 14 ) ولم يتوقف عند حدود المرأة المسلمة ، بل جاهرَ بحزنه على السبايا من غير المسلمات 15 ) و أوصى بتكريم كل عجوزٍ أيَّا كانت عقيدتُها .
• وإذا جاز أنْ ندرج غيرة المعرّي على المرأة في سياق مواقفه الأخلاقية ، فإنّ مشاعر الافتتان والتوق والشغفِ تندرجُ في سياق مختلفٍ ، هو السياقُ العاطفي الذي يحمل فيه كلًّا من الرجل والمرأة نزوعًا فطريًا تجاه الآخر . ونطالعُ في شعر المعري ألوانًا من هذه المشاعر ، منها ما يختبئُ في طيات تحذيره من غوايتها ، كما في قوله :
لم يكفها نورُ خدّيها ، ونورُ نقًا = في ثغرها ، فأصارتْ عشرها عَنَمَا
كانت أضرَّ لأهل النسكِ من صنمٍ = فليُبعدِ اللهُ تلك الخودَ والصَّنما 16 )
ونطالع هذا الافتتان بالمرأة في هذا النّص الذي يصفُ فيه برغوثا حطَّ على جسد غادةٍ جميلة ، مستنكرًا جرأة هذا البرغوث ، وعدم غيرة أمير هذه الفتاة عليها. يقول :
" يمرُّ بمواقع التقبيلِ من الفتاةِ = وأميرُها الغيورُ شاهدٌ فلا يغار "
ثم يقول : " كم بات بين الكاعبِ وبين الشّغار يرتعُ من جسدها حيثُ شاء ، لا تُظنّ الفاحشة فيه ولا يُستراب " 17 )
• و تطالعنا في الطرح الشعري للمعرّي عدةُ مواضع تحملُ آثارَ التجربة العاطفية مع المرأة ، ولا يهمنا هنا طبيعةُ هذه التجربة ومدى حدودِها الواقعية ، بل يهمّنا ما نلمسهُ في هذا الشعر من مشاعر الشوق والشجن واللوعة وآثار ذكرياتٍ ما . تُطالعنا " أُمامةُ " – في موضعٍ شعريٍ - في سياقٍ ابتهاليٍ مُفعم بالحنين وشجن النّوى ، وقد أحاطها المعرّي بمناخٍ عجائبيٍ تماهتْ فيه مع رمزية الأرض وطقوس الخصب ومخاض الحياة ؛ حيثُ يزجرُ الطيرُ لتنبئهُ عنها ، ويتشمّمُ دليلُه الترابَ اقتفاءً لآثارها ، أما العِيسُ فترغمُ حنينًا إليها. وهكذا بدت " أُمامة " وكأنها امرأة الخصب والتكوين ، أو كأنها الحياةُ في بعث فينيقيٍ . يقول المعري:
سنح الغرابُ لنا ، فبتُّ أُعيفُه = خبرًا أمضَّ من الحمامِ لطيفُهُ
زعمتْ بوادي الطيرِ أنّ لقاءها = بسلٌ تنكرَ بعدنا معروفُه
ولقد ذكرتُكِ يا أُمامةُ بعدما = نزل الدليلُ إلى الترابِ يسوفُه
والعيسُ تعلنُ بالحنين إليكمُ = ورُغامُها كالبُرسِ طارَ نديفُه
فنسيتُ ما كلّفتني ، ولطالما = كلّفتني ما ضرّني تكليفُه
وهواكِ عندي كالغناء لأنه = حسنٌ لديّ ثقيلُه وخفيفُه 18 )
و في موضع آخر يُطالعنا المعري في حال المناجاةُ وتبتُّل العاشقين . يقول :
مَا سرتُ إلَّا وطيفٌ منكِ يصحبُني = سرىً أمامي وتأويبًا على أثري
لو حطّ رَحليَ فوق النجمِ رافعُه = ألفيتُ ثمّ خيالًا منكِ منتظري
يودُّ أنّ ظلامَ الليل دام له = وَزيد فيه سوادُ القلبِ والنظرِ 19)
إنَّ موقف المعرّي من المرأة - و من الواقع وعموم الحياة الإنسانية – لم يكن موقفًا اختياريّا ، بل اضطرته إليه معاناته من كفّ البصر ، ومعاناته مع واقع اتسم بالاضطراب السياسي والاجتماعي والفكري ، والتبستْ فيه الحقائق وامتزجت الأضداد ؛ ممّا ألجأه إلى عزلة روحية وفكرية ودرجة عالية من التأزم والاغتراب أجبرته على التزام ما لا يلزم على صعيد الشعر والحياة ؛ فَهُرع إلى محابسه ، لكنه لم يستطع أن يمنع تدفق قلبه وتوقَ روحه ، كما عجزَ عن إخفاء معاناته من الحرمان من ريّ الحسان وثورته على أشواقه ومحاولته كبحَ جماحها ؛ فأشار في أكثر من إشارة صريحةٍ إلى أن هذا الحرمان كان من بين الحتميات التي خضع لها ، و لم يكن موقفًا اختياريًّا . يقول :
والمرءُ ليس بزاهدٍ في غادةٍ = لكنه يترقَّبُ الإمكانا 21 )
ويقول :
منْ لم يَنَلها أراكَ زُهدًا = ومنْ لعيرٍ بصلِّيانة ؟ 22 )


ــــ
الهوامش
1- أبو العلاء المعري ، ديوان اللزوميات ( لزوم ما لا يلزم ) ، تحقيق أمين عبد العزيز الخانجي ، مكتبة الخانجي بالقاهرة ، الجزء الأول ، ص 75
2- اللّزوميات ، الجزء الثاني ، ص 49
3- اللزوميات ، الجزء الأول ، ص 94
4- اللزوميات ، الجزء الأول ، ص 423
5- اللزوميات ، الجزء الثاني ، ص 262
6- شروح سقط الزند ، تحقيق الأساتذة : مصطفى السّقا ، عبد الرحيم محمود ، عبد السلام هارون ، إبراهيم الإبياري ، حامد عبد المجيد ، إشراف د. طه حسين ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987م ، الجزء الأول ، ص 72-73
7- اللزوميات ، الجزء الأول ، ص 247
8- د. أنيس المقدسي ، أمراء الشعر في العصر العباسي ، دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة الخامسة 11961 م ، ص 415
9- تعريف القدماء بأبي العلاء ، جمع وتحقيق لجنة من رجال وزارة المعارف العمومية ، إشراف د. طه حسين ، دار الكتب المصرية 1944 م ، ص 37
10- تعريف القدماء بأبي العلاء ، ص 37
11- اللزوميات ، الجزء الثاني ، ص 325
12- اللُّزوميات ، الجزء الأول ، ص 401
13- اللزوميات ، الجزء الأول ، ص 14
14- اللزوميات ، الجزء الأول ، ص 202
15- اللزوميات ، الجزء الأول ، ص 390
16- اللزوميات ، الجزء الثاني ، ص 297 . مواضعٌ أخرى من شعر المعري تبرزُ افتتانه بالمرأة وتأثره بغوايتها ، منها ما لا يتعدى الأبيات في استهلال القصائد ، ومنها ما يُمثّلُ قصيدة كاملة قصيرة كما في شروح سقط الزند ، القسم الأول ، ص 729 – 738 ، والقسم الثالث ، ص 1137 – 1140
17- أبو العلاء المعري ، الفصول والغايات ( في تمجيد الله والمواعظ ) ، تحقيق محمود حسن الزناتي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1977 م ، ص 79 – 80 ، كما ذُكرت القصةُ في كتاب حديقةُ أبي العلاء ص 82 . الشِّغار : الثوب الملاصق للجسد
18- أبو العلاء المعري ، ديوان سقط الزند ، دار بيروت للطباعة والنشر ، 1980 ، ص 223
البَسْل : الحرام . سنَح : عَرَضَ . يسوفُه : يشمُّهُ . البُرس : القطن
19- اللزميات ، الجزء الثاني ، ص 372
20- اللزوميات ، الجزء الثاني ، ص 360
21- اللزوميات ، الجزء الثاني ، ص 360
22- اللزوميات ، الجزء الثاني ، ص 357
الصّلِّيانة : نبتٌ تحبه العيرُ ، وليس له تمكّنٌ في الأرض أو طول بقاء .



د. كاميليا عبد الفتاح
الأستاذ المساعد في تخصص الأدب والنقد جامعة الباحة ( سابقا )



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى