خير جليس خيري عبدالجواد - مكتبتي كيف أحميها من ورثتي

كثيرا ما يؤرقني سؤال لا أستطيع الاهتداء الي اجابة شافية عليه، اجابة مطمئنة، ما الذي سوف يفعله أولادي بمكتبتي بعد رحيلي؟ هل سوف يبيعونها لباعة الروبابيكيا تخلصا منها بأي ثمن لأنها تشغل حيزا كبيرا في المنزل بلا طائل؟ هل سوف يتخلصون منها ويعطونها هبة لأي عابرسبيل لأنها لا تتماشي مع الديكور الذي اختاروه للمنزل بأعتبارها زبالة يجب التخلص منها؟ هل سيحتفظون بها كإرث ثقافي هام وجزء من ريحة المرحوم والدهم الذي هو أنا؟ وكيف يفعلون ذلك وهم لا يقرأون؟ كما أنهم لا يعرفون قيمتها الحقيقية علي المستوي الأدبي والعلمي، وحتي المادي !! هل أقول لهم من الآن أن هذه المكتبة والتي تحوي آلاف المجلدات في شتي فروع المعرفة هي كل ما جمعته من ثروة علي مدي حياتي كلها، نعم هي كل ثروتي، وهم لا يعرفون بالطبع كيف كنت أذهب الي سور الأزبكية ذهابا وعودة مشيا علي الأقدام من أجل توفير ثمن كتاب ـ وهي مسافة طويلة جدا ـ من بولاق الدكرور الي العتبة وبالعكس، في الصيف كنت أذهب مشيا الي باعة الكتب في سور الأزبكية بينما كانت شمس الظهيرة تصب حممها الملتهبة فوق رأسي فأتصبب عرقا ويجف فمي عطشا، وعلي الرغم من وجود باعة العرقسوس والتمر هندي المثلج علي طول الطريق، والذي أتحرق شوقا الي كوب من هذا أو ذاك مشبّر ومعرق بالثلج فأصرف النفس عن الهوي، فحجي ومقصدي هو الكتب، وفي الشتاء كان المطر والبرد رفيقا طريقي، لا شيء يهم، فأنا في رحلة حج الي محبوبي الكتاب، كلا لا يعلمون، ولا يعلمون أيضا أن هذا الكتاب أو ذاك كان ثمنه النوم جوعا علي الطوي، أو أنني حين حصلت علي هذا المجلد لم تسعني الفرحة وكأنني حصلت علي أحد الكنوز ، أو أن هذا الكتاب له ذكري وحكاية ذات مغزي، كيف حصلت عليه بعد أن دخت السبع دوخات من أجل أن التقيه فكأني التقيت بحبيب، كيف ضحيت بدبلة زواجي مثلا وبعتها من أجل شراء كتاب نادر؟ وكيف سافرت الي قري ونجوع نائية وبعيدة لأني سمعت بوجود أحد الكتب النادرة هناك؟ هل أوصي بعدم بيع المكتبة والاحتفاظ بها؟ أم أتبرع بها لإحدي الجامعات أو الجمعيات الأهلية؟ أم أبيعها في حياتي وأستفيد من ثمنها، فأنا علي الأقل أعرف قيمتها الأدبية والمادية؟ أم أفضها سيرة وأترك كل شيء علي حاله وليقض الله أمرا كان مفعولا ـ فلا يضير الشاة أن تسلخ بعد ذبحها كما يقول المثل العربي.لقد أعيتني الحيلة في الاجابة علي هذا السؤال الذي أراني أردده دوما بيني وبين نفسي كلما رأيت مكتبة لأحد مشاهير الكتاب تباع ويتفرق دمه بين باعة الكتب علي الأرصفة أو علي سور الأزبكية أو سور السيدة زينب بثمن بخس، هكذا رأيت مكتبة الشاعر الكبير ورائد الشعر الحديث صلاح عبد الصبور علي سور الأزبكية، ورأيت أجزاء من مكتبة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين مطروحة علي الأرصفة، وأضخم مكتبة رأيتها في حياتي كانت مكتبة الدكتور لويس عوض، فقد كانت تحتل شقة كاملة مكونة من ست غرف كبيرة حتي أنه لم يكن يجد مكانا يضع فيه المزيد من الكتب فوضعها في بانيو الحمام، هذه المكتبة أراد انقاذها من العدم بعد وفاته فأهداها لجامعة القاهرة فما الذي حدث؟ قامت الجامعة بوضعها في قبو تحت الأرض تمهيدا لتصنيفها وتسجيلها، ونسيت مكتبة الراحل العظيم الي أن أتاها هادم اللذات، أقصد المياه الجوفية التي قضت عليها وأتلفتها تماما، وبذلك ذهبت مكتبة من أعظم المكتبات التي رأيتها في حياتي، نفس ما حدث تقريبا مع مكتبة المترجم والأديب الفلسطيني الراحل أحمد عمر شاهين مع بعض الاختلافات، كانت تحتوي علي ثلاثين الف كتاب بالانجليزية والعربية وبها أمهات كتب التراث العربي والعالمي، وكان قد ترك وصية يتبرع فيها بمكتبته لبلدته خان يونس بعد وفاته، وتنفيذا لهذه الوصية فقد شحنت كتبه الي خان يونس كي توضع في مكتبة عامة باسم أحمد عمر شاهين فما الذي حدث؟ لقد شب حريق هائل بالمكتبة التهم كل الكتب في غمضة عين فأصبحت رمادا وأثرا بعد عين كما يقولون.في أحد الأيام رن جرس التليفون في بيتي، وكانت المتحدثة هي زوجة الأديب الراحل فلان الفلاني، والذي كان ملء السمع والبصر قبل رحيله، قالت أنها تريد رؤيتي لأمر هام، وذهبت في الموعد الذي حددته لي، وكانت المفاجأة أنها تريد التخلص من مكتبته بأي ثمن، حتي أنني ظننت أنها كانت علي استعداد لدفع ثمن تنظيف المنزل من الكتب التي كانت تملأ كل أركانه وتعوق حركتها داخل المنزل، وحمّلت عربة نقل كبيرة امتلأت عن آخرها بكتب الأديب الراحل ومذكراته، وحتي صور زواجه من تلك السيدة !!!! وليس هذا بأعجب من حديثي عن ولد صغير التقيته ذات يوم، لا تتعدي سنه الثانية عشرة، رأيته علي رصيف أحد الشوارع الرئيسية بمدينة القاهرة، كان يقف وقد افترش أمامه بعض الكتب، وبجانبه وضع عدة كراتين مغلقة، استرعت عناوين الكتب انتباهي، فقد كانت متخصصة في الأدب من مسرح وشعر وقصة ونقد، وعندما تصفحت بعض هذه العناوين وجدت عليها اهداءات لأحد الكتاب المعروفين، وكان الولد يطلب ثمنا يقل كثيرا عن قيمة الكتب فأدركت أنه لا يعرف قيمتها، فسألته كيف حصل عليها؟ وكانت المفاجأة أن الكتب هي ما تبقي من مكتبه والده، ولم يكن والده سوي هذا الكاتب المعروف والذي تهدي اليه الكتب من كبار الكتاب، وعرفت قصة هذا الأديب المحزنة، والتي قد تكون هي نفسها قصتنا جميعا. توفي هذا الأديب فجأة بعد رحلة مرض قصيرة، ولم يترك لأسرته المكونة من أربعة أبناء وأمهم سوي مكتبة هي كل ثروته التي جمعها طوال عمره، وكانت الأم كلما أعيتها الحيلة في الحصول علي بعض النقود تختار عدة كتب من مكتبة زوجها وتضعها في صندوق ليذهب بها هذا الابن الصغير ويفترشها علي الأرصفة، ولأن الولد لم يكن يعرف آليات البيع والشراء أو قيمة ما يبيعه، فقد كان يبيع ما معه بأبخس ثمن ويعود لأمه بالقروش القليلة التي حصل عليها، وهكذا ظلت مكتبة هذا الأديب تتسرب كرتونة وراء كرتونة حتي لم يبق إلا القليل عندما التقيته. ما الذي يحمي الأدباء والعلماء والمفكرين من أقرب المقربين اليهم؟ وما الذي يفعله هؤلاء الكتاب كي يحموا ثرواتهم التي أنفقوا أعمارهم ونقودهم من أجل الحصول عليها بعد رحيلهم؟ ان كل كتاب هو ذاكرة أمة وحصاد عقل ظل يتكون طوال عشرات السنين، وفي كل بلاد العالم المتحضرة هناك من يحمي هذا التراث من الضياع، فهناك متاحف تقام لهؤلاء الكتاب بعد رحيلهم تعرض فيها كتبهم التي ألفوها، ومكتباتهم التي أنفقوا أعمارهم في جمعها، ورسائلهم التي تبادلوها مع الآخرين، وحتي مسودات ما كتبوه بأيديهم، وصورهم وكل ما يتعلق بهم، وهذه المتاحف تصبح مزارا سياحيا.لقد رأيت في مصر أحد النماذج المشرفة لمثل هذه المتاحف، ففي مدينة دمنهور، وفي احدي القري التي تتبع المحافظة وتسمي كفر بولين والتي ولد فيها الكاتب الراحل محمد عبد الحليم عبد الله أقام له أهالي القرية وبالجهود الذاتية ضريحا ومتحفا، ووضعت زوجته في هذا المتحف كل ما يمت بصلة لزوجها، من روايات وقصص ومسودات وصور ورسائل ومكتبته كاملة، اضافة الي ذلك أنشأت جائزة سنوية في القصة والرواية والدراسات الأدبية باسم محمد عبد الحليم عبد الله وتشرف عليها وزارة الثقافة، وهذه المسابقة توزع جوائزها في الذكري السنوية لرحيله، فلماذا لا يعمم هذا النموذج الناجح؟ ولماذا لا تتبني الدولة ممثلة في وزارة الثقافة مثل هذا المشروع الذي لن يكلفها كثيرا؟ أليس هذا أجدي من انفاق عشرات الآلاف من الجنيهات في اقامة المؤتمرات والمهرجانات التي لا طائل من ورائها، اننا نتباكي علي آلاف المخطوطات والكتب النادرة التي تسللت خارج الوطن، وربما كان خروجها من تحت أيدينا هو ما حفظها من الضياع، فهي في الخارج، وفي كل جامعات العالم معززة ومكرمة ويحتفي بها كل الاحتفاء اللائق، بينما لو ظلت بين أيدينا وفي وطننا العربي لكانت في خبر كان الآن.الكتب هي ما يبقي، والكتاب يحيا حياته الخاصة بعيدا عن مؤلفه الذي يكتبه ويمضي، قد لا يجد قوت يومه ويلملم ما يقيم الأود من المزابل لكنه يكتب، يجود بأنفاسه ويسكب روحه علي الورق، هكذا كان يفعل التوحيدي، تطل عليّ صورته عبر الف سنة هي ما يفصل زمني عن زمنه، هذا الشيخ الجليل أكاد أسمع صرير ريشته علي الورق، يكتب بينما الجوع والوحدة وخيبة الرجاء ينهشانه، أين الأمراء والوزراء والخلفاء وقد كانوا ينعمون بدفء الثراء والسلطة وبين جواريهم في قصورهم بينما الشيخ الجليل وقد أمضه الجوع يمضي متسولا في طرقات المدينة، لقد مضي كل هؤلاء بينما عاش التوحيدي، عاش الامتاع والمؤانسة و الاشارات الالهية و الصداقة والصديق و المقابسات و البصائر والذخائر . نموذج فذ لكاتب مقهور استطاع أن يقهر كل الأزمنة، والأمثلة كثيرة، ليس الحبر والورق هو ما يكوّن الكتاب، بل روح هائمة في فضاء الكون وتطل علينا من أزمنة سحيقة وتهمس لنا : هذه حياتي، خبرتي، تأملاتي، زمني بكل صراعاته وحلوه ومره أقدمها اليك بمداد هو دمي، وكل صفحة من كتاب قد تكون جزءاً من جسد الكاتب، قد تكون لحظة أسي، أو لحظة يأس انتصر عليها وكتب، سوف نمضي جميعا، هذا حال الدنيا، فكل حي الي زوال وموت، أما الكتاب فيبقي.هذه الكلمات هي زفرة أسي علي الحال الذي وصلنا اليه في التعامل مع كتبنا ومكتباتنا، عقولنا وخبراتنا وذاكرة أمتنا التي تحفظها من الضياع، أتمني أن تصل الي كل مسؤول عربي في محاولة لإنقاذ ما تبقي منها

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى