بمناسبة الذكرى المئوية لولادة الشاعرة نازك الملائكة (ج2)

(ج2)
التطور في شعر نازك الملائكة


لو راجعنا ما أضافته الشاعرة نازك الملائكة وما حذفته من نصوصها المتعلقة بموضوعة السعادة سنمسك خيطا أو رأس خيط يعرفنا على مدى التطور الحاصل في أسلوبها ورؤاها الشعرية وهو ما صرحت به الشاعرة في مقدمة أعمالها الكاملة الجزء الأول كما أسلفنا، لننظر بعض الأبيات التي حدث فيها بعض التغييرات كما في هذا البيت(27):-
قد بحثنا عن السعادة لكنْ
ما عثرنا بكوخها المسحور
ثم عادت بعد عشرين عاما لتقول (28):-
كم بحثنا عن السعادة لكن
ما عثرنا بكوخها المسحور
ونلا حظ أن الشاعرة قامت باستبدال الحرف (قد) بأداة الإستفهام (كم)، ولما كانت الأداة (قد) تفيد التأكيد عند دخولها على الفعل الماضي وتفيد الشك عندما تدخل على الفعل المضارع(29)، إلا أن الأداة (كم) الخبرية هنا تفيد التكرار وعدد المرات(30)، وهذا ما يفسر سبب اختيار (كم) لتكون بديلا ناجحا لأنها تريد أن تخبرنا عن عدد المرات وليس التأكيد على عملية البحث فقط.
وفي مقطع آخر نقرأ ملمحا آخر من التطور حيث تقول الشاعرة(31):-
فهي آنا ليست سوى العطر والألـ
ـوان والأغنيات والأضواءِ
ليس تحيا إلا على باب قصر
شيدته أيــدي الغـنى والرخـاءِ
ثم عادت لتصوغ المعنى نفسه بكلام آخر(32) بعد خمس سنوات:-
فهي للأغنياء تبسط من أهـ
ـدابها الناعمات ألف خميلِ
وعلى شعرها العبيري يقضو
ن ليــاليهمو كحــلم جميـلِ
ولكن بعد عشرين عاما أي في العام 1960م نجد البيت الأول وقد حدث فيه تغيير ليس بالقليل، ولم يكن هنالك تغييرفي البيت الثاني(33):-
فهي آنا ربيبة اليسر والثر
وة بنت الألوان والأضواءِ
ليس تحيا إلا على باب قصرٍ
شيدته أيدي الغنى والرخاءِ
في واقع الحال فإن المقطع الأوسط كان أكثر شعرية من المقطعين السابق له والتالي بعده، حيث صورت الشاعرة السعادة بوصفها فتاة حسناء، غدت أهدابها خمائل غناء، وشعرها الطافح بالشذى فراشا للأغنياء، أما عن المقطع الأخير وبرغم التغيير البسيط إلا أنه بات أقوى، حيث أدى استخدام ملفوظي (ربيبة) و(بنت) إلى تقليل حروف العطف، وحدث تناظر بين الشطر والعجز فضلا عن التكثيف في موضوعة البيت المقصودة وهي هنا قصور المترفين والأغنياء.
ولو تناولنا مقطعا آخر، وهو خاص في البحث عن السعادة في بيوت الزهاد والرهبان نقرأ في "مأساة الحياة"ما يلي(34):-
وهي آنا في الصوم عن متع الدنـ
ـيا وعند الزهاد والرهبانِ
ليس تحيا إلا على صخر المعـ
بد بين الــدعــاء والإيـمـــان
ولكن في نص "نداء السعادة" عام 1950 تعيد صياغة المقطع قائلة(35):-
ثم قالوا جنية تتبع الرهـ
ـبان والزاهدين حيث أفاءوا
مثلهم تعشق السكون ويرضيـ
ـها مكانُ النعيمِ خبزٌ ومــاءُ
وهنا تتحول السعادة إلى جنيّة، وهذه الجنيّة هي من يتبع الزهاد إلى محاريبهم، وكأن السعادة تجد سعادتها عندهم وليس العكس، و هذا برأينا تحول جميل ومدهش في رؤى الشاعرة، إلا أنها في العام 1960 ترفع ملفوظ (الصوم)وتحل محله ملفوظ (الزهد) حيث نقرأ(36):-
وهي آنا في الزهد عن متع الدنـ
ـيا وعند النساك والرهبان
وبالطبع فالتغيير له ما يبرره على مستوى الدلالة، إذ إن ملفوظ الزهد أكثر ملائمة من الصوم، فالصوم كما هو معروف في الديانة الإسلامية بوصفه ركنا هاما من أركانها، وله وقته المعلوم وطقوسه، بينما الزهد يمثل رغبة ذاتية عند الإنسان تطول أو تقصر في مستواها الزمني وليست متطلبا دينيا خالصا، وقد يكون هذا ما جعل نازك أن تغير الملفوظ، علما أن الشعر في البيت غير موجود إذا استثنينا الموسيقى والإيقاع.
وفي مقطع آخر وهو البحث عن السعادة في الريف نقرأ(37):-
وهي في شرع بعضهم عند راعٍ
يصرف العمر في سفوح الجبالِ
يـتـغـنى مع الـقـطـيع إذا شــا
ء ويـغـفو تـحت الشـذى والظلالِ
ولكنها بعد خمسة أعوام وفي نص "نداء إلى السعادة" تعيد صياغة المعنى بكلمات أخرى(38):-
وسـواهم يـظـنـها ربة الـريـ
ـفِ وبنتَ الذرى وأخت الوهادِ
ليس يروي إحساسها غيرُ جوٍ
أثـقـلتْ عـطره أغـاني الحصادِ
وبالرغم من شعرية المقطع إلا أن الصيغة الإخبارية (وسواهم يظنها) قد أضرته بدلا من أن تضيف إليه شيئا، وبرأينا فالشاعرة تبحث عن التراكم الحركي دون دس الزمن ليفعل فعله ليهيء لها بناءً فكريَّ المعنى لا يتشارك فيه الزمن مع الحركة(39)، وهو ما يمكن قراءته عند شعراء المهجر ومنهم إيليا أبو ماضي في قصيدته العنقاء التي يبدو أن الشاعرة تكرر فيها الأجواء ذاتها
ولكن الشاعرة تعود في العام 1965 لتحل ملفوظ (آخرين) محل ملفوظ (بعضهم) حيث نقرأ(40):-
وهــي فــي شــرع آخرين لراعٍ
يصرف العمر في سفوح الجبال
وهنا برأينا تريد أن تعطي ملفوظا يحيل إلى الكثرة بدلا من ملفوظ (بعض) الذي يدل على القلة من(2-3)، وقد تريد أن توصل للمتلقي قدرتها العروضية الفذة، إذ إن تغيير الملفوظ سيتبعه حتما تغييرا عروضيا ليستقيم الوزن.
ولو انتقلنا إلى مقطع آخر وهو السعادة عند الشعراء والفنانين نجد التالي(41):-
وهي في شرع آخرين ابنة العز
لةِ والفن والجمال الرفيعِ
ليس تحيا إلا على فم غرّيـ
ـدٍ يغني أو شاعر مطبوع
ثم تعود مرة أخرى لقول نفس المعنى بصيغة أخرى(42):-
ويقولون إن مسكنها الأعلـ
ـلى خيالاتِ شاعرٍ مسحورِ
ظللتْ روحَهُ جدائلها الشقـ
ـرُ وأسرارُ طرفها البلوري
ولو استثنينا (يقولون) فالمقطع طافح بالشعر، وسبب الاستثناء من جانبنا هو أن الكلام كلام شاعر ويقولون لا تحيل على شعراء فقط بل على الكثير من الناس، وبالطبع فالسردية هنا متغلغلة والشاعرة تمارس علينا دور شهرزاد، ولكن لو انتقلنا إلى ما أصاب البيت من تغيير بعد عشرين عاما نقرأ ما يلي(43):-
وهي في شرع غيرهم في حمى العـز
لةِ والفن والجمال الرفيعِ
حيث حلت كلمة(غيرهم) محل كلمة (آخرين) واستبدلت ملفوظي(ابنة العزلة) بالمقطع(في حمى العزلة)، وقد ينطبق ما قلناه أعلاه هنا أيضا، ويبدو لي أن تواجد حرف الجر(في) مكررا قد أثقل البيت، وكأنها كانت متسرعة بتغييرها ذلك.
أما المقطع الخاص في البحث عن السعادة عند العشاق والمحبين فنحن نقرأ(44):-
وهي حينا في الحب يلهمها سهـْ
ـمُ كـيــوبـيـد قلبَ كلِ محبِّ
ليس تحيا إلا على شفة العا
شق يشدو حيــاتَه لــحـن حـب
والمعنى ذاته نقرأه ثانية وقد نسج بكلمات أخرى في العام 1950 (45):-
وقلوبٌ تظنــها ربةُ الحبِّ
تصـــبُّ الرحــيق للعشـــاقِ
ويقولون إنهم شهدوها
تسكبُ الظلَّ في هجير الفراقِ
برأينا، إن مجيء ملفوظ (يقولون) في البيت الثاني من المقطع أكثر قوة من مجيئه في البيت الأول، حيث يمكننا إحالة القول على العشاق وليس لآخرين أو لبعضهم ومن هنا استمد شعريته.
في المقطع المكتوب بصورة متأخرة نجد الشاعرة قد غيرت كثيرا في المقطع حتى ليظن المتلقي أن الشاعرة قد قالت نفس المعنى بكلمات أخرى إلا أن القافية قد بقت كما هي(46):-
وسواهم يرى السعادة في الحب
وفي أغنيات كــل محـبِّ
ليس تحيا إلا على شفة العا
شق لحنا من الوداد العذب

يتبع لطفا






نازك.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى