خيري حسن - الرئيس عبد الناصر.. والشيخ الباقوري!

(القاهرة – 1959)
في يوم 13 فبراير من شتاء ذلك العام، استقل الشيخ أحمد حسن الباقورى سيارته، بعد استدعاء الرئيس جمال عبد الناصر له، إلى مقر إقامته في منشية البكري بحي مصر الجديدة.
الآن وصلت سيارة الشيخ - أول وزير أوقاف بعد ثورة يوليو - وقبل مئة متر أوقفت قوات الحرس الموجودة في الشارع السيارة - وهو ما لم يحدث معه من قبل- ليشعر (الشيخ) أن هناك أمرًا جللًا سيحدث. ترك السيارة وترجل في هدوء حذر.. يقول عن هذه الليلة: "إننى لا أنسى هذه الليلة ما حييت!"، هو الآن يمشي باتجاه منزل الرئيس وسط إضاءة خافتة!
•••
(أسيوط - 1907 )
فى يوم 26 مايو -اليوم ذكرى ميلاد الشيخ الباقوري- من ذلك العام وُلد بقرية تسمى (باقور) تابعة لمدينة (أبو تيج) في محافظة أسيوط بصعيد مصر.
وفى سنة 1922، التحق بكُتاب القرية وحفظ القرآن الكريم ثم التحق بمعهد أسيوط الدينى. وفى سنة 1936 حصل على شهادة التخصص في البلاغة والأدب من جامعة الأزهر بالقاهرة.
•••
(منزل الرئيس - بعد 5 دقائق)
فى هذه الليلة شديدة البرودة، دخل الشيخ إلى المنزل ثم إلى المكتب وفيه وجد الزعيم واقفًا في حالة توتر واضحة على ملامحه. وكما ذكر الشيخ الباقوري: "حيّاني بيده مُسلمًا، ثم جلس، ووجهه يعلوه حزن فائض لم أره من قبل".. وبعد لحظات تحدث عبد الناصر بكلمات ناطقة بكل الألم "الرئيس يتحدث.. والشيخ يستمع!"
•••
(محافظة المنيا – 1950)
إلى هذه المدينة - التي تقع شمال الصعيد - وصل الشيخ الباقوري بعدما عمل مدرسًا بكلية اللغة العربية، ثم ترقى وكيلًا لمعهد أسيوط الديني، ثم وكيلًا لمعهد القاهرة الأزهري. واستقر به المقام في ذلك العام شيخًا للمعهد الديني بتلك المدينة.. وبعد ذلك عُيّن وزيرًا للأوقاف بعد ثورة يوليو، وتحديدًا يوم 7 من سبتمبر 1952، في وزارة رأسها اللواء محمد نجيب.
•••
(منزل الزعيم - بعد 10 دقائق)
عبد الناصر بعد لحظات من الصمت نطق بكلمات حزينة قائلًا للشيخ: "أنا أتحدث إليك حديثًا هو أصعب حديث، وأصعب موقف مر في حياتي يا شيخ أحمد"!
- "اتفضل يا ريس.. أنا استمع جيداَ "
مدّ الرئيس يده إلى جهاز تسجيل بجوار وأدار مفتاح التشغيل.. ثم أشعل الرئيس سيجارته والشيخ عدل عمامته ثم جاء صوت المتحدث بصوته (الوقح) - بحسب لفظ الشيخ نفسه - وهو - أي المتحدث - يتهم جمال عبد الناصر في (أوقح) اتهام يُتهم به إنسان. "إنه يسبه بأمه.. إنه يسبه في أقدس ما يعتز به الإنسان".
الآن الشيخ يصاب بما يشبه الاغماء.. والرئيس يُطفئ سيجارته ثم يسأل الشيخ: هل عرفت صاحب الصوت؟
- نعم يا ريس أعرفه!
هل كنت موجودًا في هذه الجلسة يا شيخ أحمد؟
- للأسف.. نعم يا ريس!
عايز تقول حاجة يا شيخ باقوري؟
- عايز ورقة وقلم !
لماذا؟
- لأكتب استقالتي!
وأنا لن أقبل استقالتك، قال ذلك فيما كادت دموع عبد الناصر تنهمر حزنًا مما سمعه!
(التسجيل كان لأحد الشخصيات المقربة من الشيخ الباقوري وكان في الجلسة الكاتب والأديب يحيي حقي، وبدأ هذا الشخص يسُب في عبد الناصر وأهله، ويحيي حقي يستنكر هذا الأسلوب (الوقح) حتى في ظل الخلاف السياسي. ردّ الشخص: "أنت - يقصد يحيي حقى - جبان وخايف من عبد الناصر"، ثم أكمل قائلًا: "الشيخ الباقوري جنبى أهو وسامع الكلام"!
•••
(منزل الرئيس - بعد 15 دقيقة)
بعد لحظات من الكلام والعتاب والنقاش، قال الشيخ للزعيم: "يا ريس إذا ثبت شيء مما بلغك عني.. حاكمني"!.
- على كل حال ربنا يسهل.
بعد دقائق أصر عبد الناصر، الذي كان يستمع منذ دقائق لشتائم مؤلمة له ولأمه في جلسة حضرها الشيخ، أن يوصله إلى الباب، وقال لمدير مكتبه:" أدخل سيارة الشيخ الباقورى "
وبالفعل دخلت السيارة واستقلها الشيخ عائدًا إلى بيته متعبًا، منزعجًا، حزينًا مما سمعه في بيت الرئيس قبل قليل.
•••
(منزل الشيخ - الواحدة صباحاً)
جلس الشيخ إلى جوار زوجته التي سألته -بطبيعة الحال- عما حدث.. قال لها ما كان من أمر ذلك اللقاء، الخاطف، العاصف، في تلك الليلة الكئيبة في ذلك الجو شديدة البرودة.
- قالت: ولماذا يا أحمد لم توضح للرئيس الموقف؟
ردّ: فى هذا اللحظة لم يكن ذلك ممكنا لأن الرئيس -بعدما استمعنا معًا للتسجيل- سألنى:
" يا شيخ أحمد.. أنت الوحيد الذي تعرف كل شيء عني وعن أمي.. فهل يصح أُسب هكذا أمامك؟!
فبكيت -وأظنه بكى- وغادرت بيته على الفور.
•••
(القاهرة – 1959)
بعد أيام عرف الرئيس عبد الناصر بحقيقة الأمر، إذ كان -بالفعل- الذي (شتم عبد الناصر) صديق للشيخ، وفى حضور الأديب يحيي حقي، لكن المفارقة أن في لحظة هجومه -أي هذا الشخص- بأحط الألفاظ وأقبحها على الرئيس كان الشيخ الباقوري قام لأداء الصلاة -غالبًا كانت صلاة المغرب- وما أن فرغ من صلاته حتى ردّ عليه بأعنف الكلمات، وقال له:" إن هذا الأسلوب لا يليق، ومرفوض، وليس من الدين، ولا من العقل، ولا من الأخلاق، ولا يجوز، ولا يصح"، لكن من سوء حظ (الشيخ) أن التسجيل كان انتهى ولم يُسجَل رده، وبالتالي لم يسمعه الرئيس.
•••
(القاهرة – 1959)
بعد مرور أيام تبين لعبد الناصر أن الشيخ لم يسكت على حقه في هذه الجلسة (المشؤومة)، وأراد عبد الناصر أن يُرجعه ويعيده إلى جواره مرة أخرى، وتعهد المشير (عبد الحكيم عامر) بالقيام بذلك، لكنه -فيما يبدو- في زحمة المسؤوليات لم يفعل ذلك، رغم إنه قال للرئيس:" اتكل عليّ وسوف أذهب أنا إلى الشيخ أحمد وأرجعه"،
لكنه لم يذهب ولم يرجع الشيخ الذي مكث في بيته -بعد هذا اللقاء العاصف- 5 سنوات و5 أشهر و5 أيام لا يغادره إلا فيما ندر!
•••
(القاهرة – 1964)
ذات يوم من ذلك العام -كما يقول الباقوري: "وجدت زوجتي تناديني: يا أحمد.. يا أحمد. تليفون علشانك".
- مين؟
محمد أحمد سكرتير الرئيس
- أهلًا.. أهلًا.
الرئيس عقبال عندك بيجوز هدى بنته.. فهل إذا جاءتك دعوة تحضر الحفل؟
- يا سلام يا محمد بيه.. هدى ابنتي.. وعبد الناصر -مهما كانت الظروف- هو أخي وزعيمي"!
وبالفعل ذهب الشيخ للحفل وكان حضوره المفاجئ حديث الوسط السياسي كله.
•••
وبعد مرور سنوات.. مات (الزعيم) وهو يحب (الشيخ)، ومات الشيخ وهو يحب (الزعيم).
وعاشت مصر.. التي أحبت الاثنين.. وتحب - أيضًا - من يحبها!
خيري حسن.
-------------------
الأحداث حقيقية.. والسيناريو من خيال الكاتب.
----------------
المصادر :
كتاب (شخصيات) - دار المعارف - محمود عوض.
كتاب: (الباقوري - ثائر تحت العمامة) - مكتبة الأسرة – 2000، نعم الباز.
•••
الصور:
الرئيس جمال عبد الناصر.
الشيخ أحمد حسن الباقوري.






الزعيم.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى