د. أحمد الحطاب - من قتل نفسا بغير نفس أو فساد…

عنوان هذه المقالة هو جزءٌ من الآية الكريمة رقم 32 من سورة المائدة.

قبل الدخول في تفاصيل هذه المقالة، أريد أن أُثيرَ الانتباهَ أنه من بين المقولات المتداولة بين الناس في مجتمعنا المغربي تلك التي نَصُّها : "الروح عزيزة عند الله". وما يثير الانتباه، في هذه المقولة، هو أن التاس يقولون الروح ولا يقولون الجسم أو الجسد. وهذا يعني أن الروح، إذا فارقت الجسدَ، فإن هذا الأخيرَ يفقد الحياةَ ويتحلَّل ويتفكَّك بفعل ما يتعرَّض له من تفاعلات كيميائية مُحرِّكُها الأساسي هي الجراثيم. وهذه التفاعلات تحوِّل ما كان حيا من أنسجة وأعضاء إلى مواد عضوية ومعدنية، صلبة وغازية، تساهم، من جديد، في "تعاقب الحياة والموت" alternance de la vie et de la mort مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (آل عمران، 27).

لكن لماذا ومتى يقول الناسُ "الروح عزيزة عند الله"؟

لماذا؟ لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، فضَّل البشرَ على جميع ما خلق ونفخ من روحه في آدم عليه السلام الذي هو أب البشرية مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (الإسراء، 70)، ومصداقا لقوله عزَّ وجلَّ : "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (الحجر، 29).

متى؟ عادةً، يقول الناس : "الروح عزيزة عند الله" حينما تحدث جريمةُ قتل ويكون القاتل غير معروف. لكن بعد صبرٍ وبحثٍ وأخذٍ وردٍّ، ينتهي الأمرُ بالتَّعرُّف على القاتل. والتَّعرُّف على القاتل هو الذي يجعل الناسَ يقولون"الروح عزيزة عند الله"، أي أن اللهَ سبحانه وتعالى، بحكم تفضيله وتكريمه للبشر ونفخه من روحِه في أبيهم، يقدٍِر الأرواحَ ولا يتركها تذهب هبأً منثورا مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "...مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا… (المائدة، 32).

أولا، ما يًثير الانتباهَ في هذه الآية الكريمة هو أن اللهَ سبحانه وتعالى يتحدَّث عن النفس وليس عن الروح. لماذا؟ لأن الروحَ لا تموت لأنها وحيٌ من اللهِ واللهُ حي لا يموت.

ثانيا، في هذه الآية، يتَّضح جليا أن اللهَ سبحانه وتعالى يقدِّر النفسَ البشريةَ تقديرا كبيرا. لماذا؟ لأن نفسا بشريةً واحدةً، إذا قُتِلت بغير حق، تساوي البشرية جمعاء. وهذا التَّقدير هو الذي كان ولا يزال سببا في تداول مقولة : "الروح عزيزة عند الله".

و تقدير الله سبحانه وتعالى للنفس البشرية جاء في عدَّة آيات كريمة أذكر منها، على سبيل المثال، قولُه عزَّ وجلَّ : "وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنصُورًا (الإسراء، 33).

ما أريد أن أُثيرَ إليه الانتباهَ، في هذه الآية الكريمة، هو أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يوجِّه كلامَه لجميع الناس بدون استثناء. وفي نفس الآية، يتضح أن اللهَ، علا ذكرُه، لا يحب الظلمَ مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (آل عمران، 57). وفي نفس الآية، يُعطي اللهُ، سبحانه وتعالى، حقَّ القصاص لولِيِّ المقتول شريطةَ أن لا يتجاوزَ، في القتل، ما يسمح به هذا القصاص. وهذا التَّجاوزُ في القتل كان سائدا في الجاهلية بين القبائل.


بعد هذه التوضيخات التي نصَّ عليها القرآن الكريم، فهل المسلمون، وأخص بالذكر المسلمين الذين يدَّعون أنهم أكثرَ إسلاما من كل المسلمين، ملتزمون بما أوصى به الله سبحانه وتعالى من تقديرٍ للنفس البشرية؟

لا، أبدا! إنهم يتجاوزون القرآن الكريم والأخلاقَ والأخلاقياتِ والإنسانيةَ والدساتيرَ والقوانينَ الكونيةَ والتعاليمَ والمبادئَ الإسلاميةَ… بل إنهم حولوا الدينَ إلى إيديولوجيا idéologie خاصة بهم ولا صِلةَ ولا علاقةَ لها بالإسلام. إيديولوجيا يريدون فرضَها على الناس بالقوة لتجميد عقولهم واجبارها على الإيمان بما يؤمنون به من فهمٍ متطرف للدين. يقتلون الناسَ بغير حق ولا قصاص بل ويقتلون الناس من بني جلدتهم غير آبهين ولا معترفين بما قاله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ … (النساء، 92).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى