مصطفى نصر - ظاهرة الأدباء أصحاب المهن في الإسكندرية

يقول يحيي حقي في كتابه فجر القصة المصرية:
" فنحن نعلم أن إبراهيم المويلحي كان يبدأ نهاره بفتح الدكان، ثم يقيم من خادمه عينا تترقب له قدوم أبيه، ويمضي هو إلى جاره العطار ليدرس عليه الأدب، من هو هذا العطار العظيم الذي تتلمذ المويلحي عليه؟!
والظاهر أن الأدب في ذلك العهد كان وثيق الصلة بالعطارة، فهذا هو الشاعر حسن عبد الباسط، له دكان عطارة أيضا، وضع به كتاب مفردات الطب وقانون ابن سينا، فإذا طلب زبون عقارا من العقاقير، سأله عن سبب حاجته إليه وقام إلى تلك الكتب واستخرج له منها مزاياه.
والشاعر أحمد وهبي له حانوت طرابيشي في الغورية، وترزي بلدي رأيته بعيني وأنا صبي في بندر المحمودية، هو الشيخ محمد سالم. وكان من جيرانه – أيضا – ساعاتي يصدر صحيفة دينية.
وما فعله إبراهيم المويلحي في وقته، فعله بعد ذلك محمد حافظ رجب في صراع مع أبيه، الذي وصفه في قصته بأنه كان مجرد حانوت، فقد أخرجه والده من المدرسة بعد حصوله على الابتدائية من مدرسة صلاح الدين بشارع الدكتور صروف المتفرع من شارع الإسكندراني.
أراد الأب لابنه أن يتفرغ للتجارة، أن يبدأ عامل في دكان إلى أن يصبح مالكا لدكان مستقل. لكن الفن يشد محمد حافظ رجب إليه، فيبعد عن دكان والده - الذي يبيع الفول والفلافل والعدس للفوعلية- ويقف ملتصقا بجدار سينما ستراند، عند المنطقة المزدحمة في إنحناء الطريق، المؤدية لميدان محطة الرمل.
يضع حامل يحمله على كتفه، يضع عليه " بنيكة " ذات زجاج لتكشف عما بداخلها من لب وسوداني وفستق، ليسلى زبائن السينما وهم يشاهدون الفيلم.
وكان يستعير الصحف والمجلات من باعة الجرائد في الميدان، فيقرأها ويعيدها إليهم ثانية.
وحتما فعل هذا عبد العليم القباني الذي نزح والده من مطوبس إلى كرموز وافتتح دكانا لتفصيل الملابس البلدية في منتصف شارع باب سدرة، حتما كان يختلس من والده الوقت لكي يقرأ ويكتب شعره وأبحاثه، واصطدم مع والده الذي يخاف على مصير أبنه ومستقبله.
يشترك القباني في مسابقة وزارة المعارف العمومية، لكنه يصحو ذات يوم على منظر سيارة فارهة تجوب أزقة باب سدرة وتسأل عن ذلك الشاعر الذي نبغ ولا يعرفه أحد، لقد كانت هذه سيارة محمد فريد أبو حديد الذي جاء ليتحقق بنفسه من أن هناك شاعرا يدعى عبد العليم القباني، وليس اسما مستعارا تخفى خلفه أحد كبار الشعراء – كما ظنت لجنة التحكيم.
وعرض الأستاذ محمد فريد أبو حديد على القباني أن يعمل بوظيفة في إحدى مكتبات المدارس الثانوية، لكنه بعد فترة ضاق بقيود الوظيفة، فعمل في شركة النقل والهندسة، ثم ضاق بها أيضا وهجرها وعاد من جديد إلى دكان الخياطة، إلى أن ألحقه المرحوم محمد خلف الله أحمد بوظيفة في كلية الآداب.
وقد نشأتُ في حي شعبي معظم شبابه يكمل السنة السادسة الابتدائية بصعوبة، ويبحث عن عمل – والكثير منهم لم يذهب للمدارس من أصله، أو اكتفى بعام أو عامين، وترك المدرسة وعمل لدى خياط أو كواء أو سباك. وعاصرت صراع الأبناء مع الأباء – نفس الصراع الذي عاشه محمد حافظ رجب وعبد العليم القباني وغيرهما.
المشكلة أن محمد حافظ رجب كان ثائرا بطبعه، وسريع التمرد، فتمرد على سلطة الأب، واختار ألا يكون له معلم حتى لو كان والده، فاختار أن يبيع أشياء يمتلكها، ولا يحاسبه أحد عليها، بينما عبد العليم القباتني هادئ بطبعه، فاختار المهادنة. وشاهد والده كبار كتاب مصر يثنون على ابنه ويمتدحون قدراته، هذا غير الشيوخ المعممين الذين كانوا يأتون للدكان، ليفصل والده لهم ملابسهم. فقد نصحوا الوالد بالاهتمام بابنه المثقف الموهوب.
وقد عاصرت أزمة صديقي مصطفى بلوزة – كاتب القصة – الذي امتلك محلا لتفصيل ملابس النساء، لكن زادت حدة استيراد ملابس نساء جاهزة بمبالغ رخيصة، أدت لبوار مهنة تفصيل الفساتين. وكان مصطفى قد تزوج وأنجب، وأرجع أشقائه الكبار فشله هذا لأنه منشغل بالكتابة وترك الدكان وحضور الندوات الأدبية، فاضطر أن يتوقف عن الكتابة، ويفتتح دكانا في الهانوفيل، بعيدا عن الندوات وزملائه الكتاب.
أكتشف محمد حافظ رجب زملاء له في منطقة محطة الرمل، لهم صلة بالأدب. فانشأ رابطة أدباء القطر المصري، كان رئيس الرابطة صبي مصوراتي اسمه زكريا محمد عيسى، - أمين الاتحاد الإشتراكي في محطة الرمل - ومحمد حافظ رجب سكرتير الرابطة. وأمين الصندوق صبحي محمد إبراهيم وكان صبيا في دكان الحلبي الذي يبيع الهريسة بجوار سينما ستراند، وإبراهيم العدوي – بائع عصير في محل على كيفك, ورضوان محمد رضوان – خادم في فندق، وجابر المراغي – عامل نظافة بشوارع محطة الرمل، كتب عدة أغنيات أذاعتها له إذاعة الإسكندرية.
لكن طلبوا زكريا للتجنيد فأضطر أن يسلم الختم ويترك رئاسة الرابطة لمحد حافظ رجب.
مسيرة هؤلاء الموهوبين أصحاب المهن تحتاج لدراسة وبحث، وقد جاءتني آنسة تعد فيلما تسجيليا عن محمد حافظ رجب، سجلت معه في بيته، وسجلت مع معارفه وأصدقائه، وبحثت عن أعضاء رابطة أدباء القطر المصري، لتسجل معهم، أو مع ذويهم لو كانوا ماتوا، واتضح أن الفيلم انتاج مركز ثقافي أجنبي، فأين دور المراكز الثقافية الحكومية من هذا – ما هو دور مكتبة الإسكندرية التي لا تعرف قيمة كاتب بقدر محمد حافظ رجب، وتحتفي بكتاب أقل منه قدرة بكثير، لكن صوتهم أعلى من صوته. كان يجب على مكتبة الإسكندرية أن تعد هذا الفيلم التسجيلي عن ظاهرة هؤلاء الكتاب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى