نقوس المهدي - سيميائية العنونة في مجموعة (هزك الماء) للقاص المغربي سي حاميد اليوسفي

العنوان سمة الكتاب
من باب الفضول المعرفي الإشارة إلى أن النقد السيميائي الحديث يشترط فيما يعترف عليه بالخطاب المقدماتي، ويقوم على البحث في "عتبات النص"، بداية من العنوان المركزي مرورا بالعناوين الداخلية والعناوين الفرعية الموازية، وفقا لانساق ظاهراتية وجمالية بات النقد الحديث يوليها أهمية بالغة، انطلاقا من الدرجة الصفر في الكتابة، ومرورا بالمثل العربي المضلل (الكتاب يعرف من عنوانه)، التي لا يكاد يعطينا تفسيرا مقنعا، فجيرار جنيت يعرف العنوان بأنه (مجموعة من العلامات اللسانية التي يمكن أن توضع على رأس النص لتحدده ، وتدل على محتواه لإغراء الجمهور المقصود بقراءته..)، فيما يعرفه ليو هوك مؤسس علم العنونة الحديث على أنه (مجموعة العلامات اللسانية التي يمكن أن تدرجج على رأس نص لتحدده، وتدل على محتواه العام، وتغري الجمهور)
إنه دال لساني يمارس سلطة إغرائية، لكن هذا الاغراء يبقى قاصرا تبعا لنوعية الكتاب ومحتواه وشكله، يقول مصطفى لطفي المنفلوطي: (لقد جهل الذين قالوا إن الكتاب يُعرف بعنوانه، فإني لم أرَ بين كتب التاريخ أكذب من كتاب (بدائع الزهور) ولا أعذب من عنوانه، ولا بين كتب الأدب أسخف من كتاب (جواهر الأدب) ولا أرق من اسمه!)..
والعنوان يشكل العتبة الأهم للولوج الى فضاء النص وإعطائنا فكرة شاملة عن محتواه، وهو بمتابة الباب الرئيسي بالنسبة للبيت تليه عدة أبواب داخلية، ويجتهد الكاتب في منحها أبعادا تشويقية وتسويقية.. واضفاء مسحة جمالية عليها تشد القارئ وتغريه بالقراءة
كما تتيح لنا فرصة الحفر في فصوص النصوص والبحث في عدة شيفرات ورموز محددة نستطيع بواسطتها فهم الدلالات والإيماءات المتعلقة بالكتاب، وفضاءاته واشتغالاته وحمولاته الابيستيمية، وذلك من خلال معرفة: اسم المؤلف، العنوان، الخطوط، اللوحة، دار النشر، تاريخ النشر، الإهداء، المقدمة، الكاليغرام، الحجم، وأخرى تتعلق بجوانب الانزياح والتورية، والخيال، والصور الشعرية، والاستعارات والأحابيل اللغوية والبلاغية، وبالرغم من بداهة هذه الإشارات والإيحاءات الدلالية فإنها تشكل بالضرورة إحدى السمات الإجرائية والتفاصيل البصرية والفنية التي تشكل في مجملها مرجعية مهمة ومفتاحا لفهم آليات معينة والتي وظفها المؤلف لإيصال خطابه للقارئ
وغير خاف على احد بان الأدباء من الأجيال المتقدمة على وجه الخصوص كانوا أشد عناية وعلى أتم وعي بمسألة العنوان والشكل والخط، فحينما نتطرق للعنوان أو مسألة الشكل الظاهري للكتاب لا ننسى الإشارة إلى أن الشعراء منذ القديم اهتموا بإعطاء عناوين جذابة لأشعارهم ومأثوراتهم وأراجيزهم مثل اسم المعلقات والمذهبات والمسمطات والمفضليات والأصمعيات، فيما يفي المطلع في قصائد اخرى بالقصد والغرض، بعكس بعض الذين انتهجوا طريقة عنونة أشعارهم ومصنفاتهم بطريقة جذابة وتفننوا في اختيار عناوين مموسقة ومسجوعة وغريبة في بعض الأحيان. وتحبيرها بخط بديع لرغبتهم في منحها بعدا جماليا لتمييز مصنفاتهم عن باقي الكتب والإصدارات، لما لهذا من أهمية وسلطة إغرائية في اجتذاب القاري وتحفيزه بصورة أو أخرى لقراءة الكتاب واقتنائه

دلالات العنوان الخارجي
العنوان شريك متواطئ بين الكاتب والنص وقارئه. والمدخل الأساسي الذي يعطينا انطباعا أوليا حول مضمون الكتاب. ويبدو جليا أن وظيفته في العمل الأدبي هي بمتابة نجمة القطب التي نستدل على هديها لاستكشافه، ذلك أن اختيار العنوان ليس عملاً شكلياً معزولا عن فضاء النصوص، بل يشكل علامة ايقونية فارقة منتزعة من صميم العمل الابداعي، إنه وان كان يقدم نفسه بصفته عتبة رئيسية كما يعرف ذلك السيميائيون، فانه بالمقابل لا يمكننا باية حال الولوج إلى عالم النصوص دون اجتياز هذه العتبة
هكذا نجد أنفسنا ازاء عنوان المجموعة القصصية (هزك الماء)، وهو عنوان إشكالي ومخاتل يلخص حقيقة مآل كافة شخوصها، تلعب فيه لفظة "الماء" صلة وصل بين وحدات المقول الدلالية، وتساهم استعاريا في صياغة مضمون القصة، فالماء هو أصل الوجود، وواحد من أهم رموز وعناصر الطبيعة، وبه تكون الحياة، (وجعلنا من الماء كلَّ شيء حيّ) [الأنبياء 30]: لهذا لا يقبل الاجسام الغريبة، وسرعان ما يلفظها، بعد ان تطفو فوق صفحته.
وتوظيف عبارة "هزك الماء" بشكلها ونطقها الدارج وبصيغة لعبية ماكرة ساخرة.. نجد لها في بعض القصص أكثر من امتداد ومغزى، وقد وظف الشعراء والكتاب لفظ "ماء الوجه" لتوصيف حالات نفسية شعورية للكناية عن حفظ او اراقة ماء الوجه، كقول صالح بن عبدالقدوس _(إذا قلَّ ماءُ الوجهِ قلَّ حياؤهُ ... فلا خيرَ في وجهٍ إذا قلَّ ماؤهُ)، و"ماء الحياة" في قول عنترة بن شداد: (لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ ... بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ)، و"ماء الملام" كما عبر عنه الشاعر ابو تمام (لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي)، و"ماء الصبابة" كقول الشاعر بشار ابن برد (ماءُ الصَبابَةِ نارُ الشَوقِ تَحدِرُهُ ... فَهَل سَمِعتُم بِماءٍ فاضَ مِن نارِ)، أو كقول المجنون: (نظرت كأني من وراءِ زجاجة ... إلى الدار من ماءِ الصبابة أنظر)، و"ماء الغمامة" كقول ابي الطيب المتنبي: (أريقُكِ أم ماء الغمامة أم خمرُ ... بِفِيَّ بَرودٌ وهو في كبدي جَمْرُ)
وعبارة "هزك الما" تعبير مغربي دارج يستخدم للشماتة بالشخص، والاستهانة به، وتقال للمرء الخائب الخارج من التجربة بخفي حنين، وهو ما ينطبق على بطلة القصة عائشة سيئة الحظ،.. وتنطقها سيدة الرياض ايميلي بلكنتها الأمريكية المفخمة (عايشة)..
كما يوجز هذا العنوان مآل البطل المستلب المغلوب على أمره الذي يواجه الواقع المازوم غير المخملي في كافة نصوص المجموعة حيث نجدهم يواجهون نفس مصير البطلة عائشة. مما يوضح بأن القاص السي حاميد اليوسفي نذر نصوصه لتوصيف حال عينة مقهورة من أفراد الشعب يعيشون على هامش الهامش بنصف حياة..
يؤكد الاستاذ محمد آيت واكروش في تقديمه للمجموعة بقوله: (عنوان "هزك الما" يثير سؤال دلالة هذا العنوان المأخوذ من الدارجة، والذي يدل على نوع التهكم على شخص خسر معركة ما)
(....وجملة "هزك الما"، اكتسبت عالميتها في القصة التي تحمل نفس عنوان المجموعة القصصية، عندما طالبت الامريكية ايميلي من عائشة العاملة لديها في "الرياض" شرح معناها لعدد من الأمريكيين، وقامت بهذه المهمة بأسلوب وبمضمون أذهلا المتابعين، وعائشة في هذا النص القصصي هزها الماء على الأقل أربع مرات، لما لم تستطع إكمال دراستها والحصول على الباكالوريا، وبعد ذلك لما تزوجت رجلا خدعها بمعطيات مغلوطة حول وضعه الاقتصادي، واضطرت للخروج للعمل بعد ان رفضت بقوة مقترحا أولا للزواج، ثم بعد فقدانها لعملها في رياض ايميلي بسبب فيورس كورونا، واضطرارها للقيام بأشغال مختلفة بما في ذلك العمل في الفيلات، وأخيرا بعد أن وجدت نفسها معتقلة في سيارة الشرطة إثر مشاركتها في وقفة احتجاجية ضد الأسعار، وضد التلقيح مع أنها ملقحة مرتين، وتنتظر بشغف الجرعة الثالثة.)ص5
وهذه النهاية التراجيدية ليست نهاية سلبية أو شامتة أو تهكمية، بل تعمد القاص توظيفها لتبيان مدى ظلم وتسلط الجهاز المخزني الآثم الذي يحاول تكميم أفواه المواطنين وإذلالهم، والقمع الشرس والمسعور الذي اصبح يواجه به المظاهرات والاحتجاجات

- دلالات العناوين الداخلية
كتبت سرود "هزك الماء" للقاص سي حاميد اليوسفي بين عامي 2020 و 2022، وقام بتنسيقها وتصميمها مدير تحرير مجلة (بصرياثا الأدبية الثقافية) الشاعر والمسرحي العراقي عبدالكريم العامري، في إخراج قشيب، وهي المجموعة القصصية الثالثة للقاص، وتتضمن خمسا وثلاثبن قصة قصيرة تتفاوت بين الطول والقصر، على مساحة 95 صفحة، بعناوين مركبة من كلمة، وكلمتين، وثلاث كلمات، كالتالي:
* (الحراك - العمدة - اللقّاط - الجوارب - المتحول - ميمي - المسخ - (التنتنة)
* (في المطعم - صوت الاسكافي - حليمة الطيّابة - الإخوة الأعداء - وجه النحس - نصف مواطن - الرجل الغامض - الشيخ والعروس - الطاكسي يجري - موسم الحرائق - لطمة الجن - لحم العيد - هزك الماء - حبة الشعير - التنوير بالزاي - الأحلام المجهضة - الغمامة السوداء)
* (سلّمت عليك الداودية - الكسر الذي لا يجبر - - يا عبد السلام كفى من الغباء - في وجه الحاجة - الله يسكت لك الحس - أيها الموت تمهل قليلا - لا نورس يلوح في الأفق - نكاية في العالم المتحضر
- إما أن تذبح أو تذبح - برق ما تقشع)
وهي عناوين نصوص تمتح معناها ومفهومها من اللهجة الدارجة المغربية، ومضمنة بجمل عامية عروبية تفيض سخرية وبارودية، تترجم الروح المراكشية المرحة الخفيفة الظل، عمل السي حاميد اليوسفي على تحيينها بطرقات ذكية وفنية لتأخذ إيقاعا ومعنى دلاليا مثيرا للإنتباه، مثل عناوين
- (هزك الماء) - تطلق هذه الجملة للشماتة والسخرية من الشخص الخائب العاثر الحظ الذي يخرج من التجربة بخفي حنين، أو من يجد نفسه في ورطة تكلفه ثمنا فادحا، وتنطق كالتالي: "ضربك الضو وهزك الما"، فالماء والكهرباء عنصرين متناقضين، لهذا جاءت القصة متضمنة لقدر من التضاد المبطن بالخسران عن مصير البطلة، التي يرمز إسمها إلى الحياة، فيما يشي وضعها الاجتماعي مجازيا بالموت ، وأنها عائشة بالإسم فقط، بينما تعتبر واقعيا في عداد الاموات وقد (هزها الماء) وخرجت من كل المعارك التي حاضتها بالخسارة.
- (الحراگ) وهي لفظة دارجة تطلق كناية عن المغامر الذي يعبر الحدود من دون أوراق ثبوتية، أو عبر قوارب الموت التي لا تصل ولا تعود.
ـ (حليمة الطَيّابة): "الطيابة" بالدارجة المغربية تطلق على المراة التي تشتغل بالحمام ، تنظف المكان للمستحمة وتنظفها وتخدمها، مقابل أجر..
- (اللقاط) أو الملقاط: الأداة التي استخذمها النشال لقرص آذن السائق من اجل سرقته تحت التهديد
- (وجه النحس) تستعمل للكناية عن شخص سيء الحظ ويتطير منه
- (سلمت عليك الداودية) التي تأخذ بعض معناها من الأغنية الشعبية (سلمت عليك الغالية ما بايعة ما شارية)، في أغنية "دابا يجي الحبيبة دابا يجي" للفنان الشعبي بوشعيب البيضاوي، وقد رددها بطل القصة للافلات من لجاجة السؤال
- (في وجه الحاجة) يقع بطل القصة الستيني ضحية عملية نصب من احداهن التي تساومه بين دفع مائتي درهم او تعرضه للفضيحة، فيضطر الى درء الفضيحة كي لا يقع في ورطة مع زوجته الحاجة
- (الله يقطع ليك الحس) قصة زوجين متناقضين، هنية التي ضاقت درعا بتصرفات زوجها العربي الذي يعود للبيت في وقت متأخر من الليل وقد تعتعه السكر، صائحا بأعلى عقيرته في الدرب.. وتضطر المسكينة للخروج لاغلاق فمه بيديها زاحرة إياه، داعية الله بأن يخلصها منه
- (برق ما تقشع) وهي حكاية امرأة تتعرض للنصب والاحتيال والسرقة بطريقة التنويم المغناطيسي، الذي يمارسه النصابون ثم يختفون كالبرق، بعمد الكاتب في هذا النص الى استلهام تقنية توليد الحكي أو الحكاية العنقودية
- (لطمة الجن) استعارة تطلق في المعتقد الشعبي على المس، الذي يعتقد أن الجن يسكن بالاماكن النجسة والخالية، أو تخطي شيء ما
- (التنتنة) وتعني "التمتمة"، يجتهد القاص على إقحام الراوي في عالم الحكي، عبر الفقرة التالية: (سأل الكاتب الراوي هل تستطيع أن تحكي لي قصة تتسم بالغموض، وتكون قصيرة،
وجميلة في نفس الوقت. ولا يستطيع أي ناقد فك شفرتها.
قال الراوي:
ـ ربما أستطيع ذلك، لكني لا أضمن بأن تكون القصة جميلة، لأن الحكم في النهاية
سيكون للقارئ، وأنت تعرف ذلك)
وربما تلخص القصة أن الكاتب الذي يكتب عن الواقع كما تبصره العين لا يضيف شيئا للمشهد.. ف(اللغة بيت الوجود) بتعببر هايدغر.. وغاية الأدب كما الفلسفة هي تغيير الكون، لا الاكتفاء بتفسيره، وهذه تقنية امتلكتها قصص مجموعة (هزك الماء) للمبدع السي حاميد اليوسفي الذي نجح في خلق عوالم ساحرة مغايرة عجائبية أحيانا، تفيض جمالية وتشويقا، بأسلوب سلس، ووصف صائب وجذاب، لا عبر استنطاق شخوصه والاستماع اليهم ونقل معاناتهم واستدرار عطف المتلقي، بل عبر خلق أجواء من المتعة والتشويق والدعابة السوداء، وتحريك شخوصه بطرق ذكية ومهارة.. حتى ان القارئ يتصور روحه ازاء محلل اجتماعي او انثربولوجي من خلال عرض العديد من العادات والمظاهر الاجتماعية الغيبية، والظواهر النفسية المحبطة المهيمنة على عقلية الطبقات الشعبية المسحوقة..
قصص مجموعة (هزك الماء) نصوص صدامية لا تهادن. تفضح المستور وتغوص عميقا في جرح المجتمع المغربي النازف.. مغرب الشعب المقهور والمفقر، ومواطنيه الذين يواجهون مأزقا وجوديا صعبا، فنجد شخوصا يغرقون ارواحهم في طوفان من الخمر والادمان واللامبالاة والجنوح للهروب من الواقع المزري الى واقع أشد ضراوة وقساوة وبؤس كما في قصة (الحراگ)، والإسكافي، أو أبطالا مستلبين يخافون الفضيحة في قصة (في حق الحاجة)، أو الخلاسي في قصة (المتحول)، أو النصاب في قصة (في المطعم)، وقصة (برق ما تقشع)، كما نجد أغلبهم يتهربون من الواجبات الاسرية، تاركين الحمل للمراة التي تشتغل خادمة في البيوت، أو الرياض (عايشة)، أو قصة (حليمة الطيابة) التي تشتغل خادمة في الحمام، ومنخرطة في الفساد السياسي عن طريق المشاركة في الدعاية الانتخابية بمبلغ زهيد. وذلك بعدسة الناقد المتذمر والمحلل الناقم على المنظومة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تتخبط فيها البلاد.. ذلك أنه كما يعبر عنه فرانز كافكا: (إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بخبطة على جمجمتنا، فلماذا نقرأ إذن؟ إننا نحتاج إلى تلك الكتب التي تنزل علينا كالصاعقة، التي تجعلنا نشعر وكأننا طردنا إلى الغابات بعيدًا عن الناس، على الكتاب أن يكون كالفأس التي تحطم البحر المتجمد في داخلنا.)
ولنا عودة لدراسة الجوانب الاسلوبية في نصوص هذه المجموعة القصصية الشائقة مع وافر التقدير والمودة للأستاذ المبدع السي حاميد اليوسفي راجيا له كل التقدير والموفقية





سيميائية.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى