د. محمد عبدالله القواسمة - جناية السياسة.. إميل زولا الذي عاش بصوت عال

إميل زولا (1840-1902) روائي وناقد وصحفي فرنسي من رواد المدرسة الطبيعية أو الطبيعانية في الأدب. حملت رواياته التي تعد من أهم كلاسيكيات القرن التاسع عشر، معالم المدرسة الطبيعية التي تؤكد أهمية الجانب الفيزيولوجي، وتأثير العوامل الوراثية والبيئية في تكوين البعد الأخلاقي للإنسان. وبدت منذ الرواية الأولى "يتريز راكين" كأنها نابعة من مختبر تتحرك فيه الشخصيات كظواهر بيولوجية وبيئية. فقد تأثر زولا بما ساد في ذلك الوقت من نظريات علمية وبالمنهج العلمي الذي تبناه عالم الأحياء كلود برنار في كتابه "مقدمة لدراسة الطب التجريبي" ونظرية داروين في الانتقاء الطبيعي.

من أشهر رواياته: "جرمينال" 1885 التي تناولت حياة عمال المناجم، وتحولت إلى فيلم سينمائي. و" الحانة" 1877 التي تحدثت عن إدمان الكحول. ومن رواياته الأخرى "نانا" 1880، و"الوحش البشري" 1890 ومن أهم أعماله مشروعه الأدبي الذي بدأه عام 1870 وتكون من سلسلة من عشرين رواية مترابطة وشخصياتها من أسرة واحدة أسرة "روغون ماكار" التي عاشت في عهد الإمبراطورية الفرنسية الثانية تحت حكم نابليون الثالث، وقد حملت شخصياتها الجينات الوراثية التي تؤدي إلى الإدمان أو الجنون. وصور زولا من خلال الأحداث التي مرت بتلك الأسرة حقيقة الحياة الاجتماعية والاقتصادية في عصره.

اشتهر إميل زولا بكرهه للسياسة والسياسيين، فيروى أن رئيس تحرير إحدى الصحف الجديدة سأل زولا بأن يساعده على اختيار بعض الشباب الموهوبين للعمل في صحيفته. فذكر له زولا بعض الأسماء الأدبية. فأجابه رئيس التحرير بأنه يبحث عن شاب ليتفرغ للسياسة وليس أديبًا. فرد عليه زولا غاضبًا: هل تعتقد بأن شابًا ذا موهبة كبيرة يرضى بالدخول في مطبخكم القذر؟

أما الموقف السياسي الذي شهد له بالشجاعة والجرأة فموقفه من القضية التي تسمى قضية دريفوس، وهي قضية الضابط الذي اتهم بتسريب معلومات عسكرية للألمان، وأدين بتهمة الخيانة العظمى، وجرد من رتبته العسكرية، وحكم عليه بالمؤبد، ووضع في سجن بجزيرة الشيطان في المستعمرة الفرنسية غويانا. وحدث أن جاء رئيس جديد للمخابرات العسكرية الفرنسية، الذي وجد أدلة على أن دريفوس بريء، وأعلن أن الخائن الحقيقي شخص آخر يدعى الرائد فرديناد إسترهازي، إثر ذلك نقل إلى قيادة فوج فرنسي في تونس. ولكن القضية انتشرت بفضل الصحافة وأصبح لدريفوس أنصار ومؤيدون، اتهموا قيادة الجيش بمعاداة السامية.

كان زولا من أشهر من دافعوا عن دريفوس، فنشر عام1898 في جريدة "لو فيجارو" مقاله" إني أتهم" الذي اتهم فيه وزارة الحربية والمحكمة العسكرية بعرقلة العدالة، وإخفاء الحقائق، وانتهاك حق دريفوس. حوكم زولا بسبب المقال واتهم بالتشهير، وحكم عليه بالسجن، وجرد من وسام جوقة الشرف الذي كان قد حصل عليه. وقدم شكوى للمحكمة فألغي الحكم، ولكن بعد فترة أعيدت محاكمته، ولكن قبل أن يقبض عليه رحل إلى إنجلترا.

أما عن دريفوس فأعيدت محاكمته وأدين مرة أخرى، ولكن عندما قدم طلبًا لإعادة المحاكمة عرضت عليه الحكومة العفو دون إسقاط التهمة عنه فعفي عنه، وكذلك عفي عن زولا ضمن عفو عام فعاد إلى باريس عام 1899 بعد عام قضاه في لندن. ووجهت إليه بعد ذلك تهم بالقتل بسبب موقفه السياسي.

وفي النهاية يُتوفى زولا يوم 28 سبتمبر 1902م فقد عاد وزوجته ألكسندرين إلى منزلهما بعد أن كانا بعيدين عنه مدة ثلاثة أشهر. الجو رطب وبارد فأشعل زولا المدفأة وأغلق النافذة وباب الغرفة وناما. في الصباح وصل إلى المنزل عمال لإجراء تصليحات، وفتحوا الباب ووجدوا زولا نصفه على السرير والنصف الآخر على الأرض. وجاءت الشرطة وطبيبان ولم يفلحا في إعادة الحياة إلى زولا بينما نجحا في إعادتها إلى زوجته.

حامت الشبهات بأن زولا قضى مقتولًا. وكان من بين المتهمين عشيقته التي كان قد تزوجها سرًا وأنجب منها طفلين. لكن الطبيب الشرعي لم يوافق على التقرير الذي يقول بوفاته بالغاز، وأعلن أنه توفي وفاة طبيعية. ودفن في مقبرة مونمارت، ثم نقل جثمانه إلى مقبرة البانثيون، ضريح عظماء فرنسا، ليكون قبره بجانب قبر هوجو.

بعد مرور أكثر من خمسين عامًا نشرت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية أن صيدليًا متقاعدًا يدعى بيار هالكين بعث إليها رسالة يؤكد فيها أن زولا اغتيل سياسيًا، على يد مسؤول شركة متخصصة في تنظيف المداخن يدعى جاك بورونفوس، الذي أسر إليه في يوم ما من عام 1928 بأنه سد المدخنة في تلك الليلة، وفتحها في صباح اليوم التالي. وتوصل صحفي من الجريدة يدعى جان يوديل تولى التحقيق إلى أن زولا مات مقتولًا. وقد ذكر هذا التحقيق وغيره في كتاب له بعنوان "اغتيال زولا".

هكذا كانت السياسة، وكان ما كتبه زولا من مقالات وبخاصة حول قضية دريفوس من أسباب مقتله.

ونخلص إلى القول إن إميل زولا كان من رواد الفكر الفرنسي الذي كرس قلمه في محاربة التعصب والظلم، وأفاد من شهرته في نصرة قضايا الحق والعدل دون اهتمام بالعواقب السلطوية. وفي مقتله دلالة على قدرة الإعلام والصحافة على الدفاع عن الحقيقة، ودلالة على أن الحقيقة ستظهر في النهاية، ولا شيء يعرقل كشفها.

إن صرخة زولا بأنه جاء إلى العالم كي يعيش بصوت عال ستلهم المثقفين وتشجعهم على قول الحق، والدفاع عن المظلومين أنى كانوا، ومهما كانت جنسياتهم ودياناتهم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى